الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/06/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي

قد تبيّن مما تقدم بوضوحٍ أنّ مسلك المحقق النائيني (قده) ينسجم تماماً مع ما عليه المشهور، ويوافق في النتيجة رأي الشيخ الأعظم(قدّه)، من حيث جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها، وعدم تمامية ما ذهب إليه الفاضل التوني(قدّه) في استدلاله.

كما ظهر أنّ مخالفته لرأي الفاضل التوني ليست مخالفةً في مجرّد التعبير، بل هي مخالفةٌ جوهرية مبنيّة على نقده لمباني التوني في مفهوم العدم و بهذا ينتهي الكلام في ما أفاده (قدّه) في المقام .

ووَصَلَ بنا الكلامُ إلى ما أفاده السيّد الخوئي(قدّه). وقبل الشروع في بيان مختاره، لا بُدّ من الإشارة إلى أمرٍ تمهيدي، وهو أنّ أصل هذه المسألة ـ أعني مسألة الجلد المطروح أو الشك في التذكية ـ وإن كانت مطروحةً في المباحث الأصوليّة، إلّا أنّ طرحها في الأساس وبشكل واسع إنّما كان في المباحث الفقهيّة، ولا سيّما في باب النجاسات، وفي مبحث لباس المصلّي؛ حيث نوقشت هناك بجميع فروعها

وآثارها.

وأمّا في علم الأصول، فإنّما تعرّضوا لها تبعاً للشيخ الأعظم(قدّه)، وكذلك بحثها (قده) مستقلّا في كتابه ـ أو تقريرات بحثه ـ في باب الذباحة والصيد، ([1] )ففي مقدّمته عقد بحثاً حول (الميتة) وبيّن أنّ لهذا اللفظ اصطلاحات متعدّدة، كما ميّز بين عنوان الميتة وبين مقابلها المذكى و غير المذكى.

والسيّد الخوئي(قدّه) أيضاً تعرّض لهذه الجهة في كتابه (التنقيح)، وورد له موردٌ خاصّ سيأتي تفصيله لاحقاً إن شاء الله. وهنا، في المقام الأصولي، تابع منهج الشيخ الأعظم في أصل إدراج المسألة ضمن مباحث الأصول، إلّا أنّه ـ بخلاف أستاذه المحقّق النائيني(قدّه) ـ وافق الفاضل التوني في ما انتهى إليه، فاختار ما يغاير رأي أستاذه .

قال (قده): " أن كلام الفاضل التوني ناظر الى خصوص النجاسة والمرتب على عدم التذكية في الآيات والروايات هو حرمة الكل وعدم جواز الصلاة فيه ولا ملازمة بينهما وبين النجاسة- أي إنّ النسبة بينهما عموم وخصوص مطلق- فإنّ

جملةً من أجزاء الحيوان المذكى يحرُم أكلُها مع أنّها طاهرة" ([2] )

قد تقدّم منّا بيانُ ما أفاده التوني(قده) في أنّ نظره منصبٌّ على النجاسة خاصّة؛ والنجاسة متوقفةٌ على عنوان الميت، بخلاف الحرمة المتوقفة على عنوان عدم التذكية.

قال(قده): " وأمّا النجاسة فهي ثابتة لعنوان الميتة، والموتُ في عرف المتشرعة هو زهاق النفس المستندُ إلى سببٍ غير شرعي، كخروج الروح بحتفَ الأنف، أو بالضرب، أو بشقّ البطن، ونحوها"([3] ).

توضيح كلامه(قده): إنّ السيّد الخوئي أراد أن يثبت أنّ لهذا المفهوم – أي الميتة – مصطلحاً متشرعياً مستقراً في استعمالات المتشرعة.

ذلك أنّ عندنا حقيقة شرعية وهي الثابتة في زمان النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله)، وحقيقة متشرعية وهي ما يثبت في ألسنة المتشرعة بعد زمنه الشريف.ومن هنا استند السيّد الخوئي إلى ما في المصباح المنير؛ لأنّ هذا الكتاب ليس كتابَ لغةٍ فحسب، بل هو كتابُ لغةٍ فقهية، حيث يتعرّض فيه لمصطلحاتٍ فقهية استعملها

فقهاء الشافعية في مؤلفاتهم. وقد بيّنا سابقاً أنّ مؤلفه من أعلام العامة.

وممّا يؤكّد هذا المنهج أنّ الإمامية أيضاً عندهم ما يماثله، وهو مجمع البحرين للفاضل الطريحي، حيث يجمع بين البيان اللغويّ وذكر الآيات والروايات في توضيح المصطلحات.

وعليه: فإنّ السيّد الخوئي(قده) كان ناظراً إلى ما ذكره المصباح المنير، وقد استند إليه في بيان تعريف الميتة الذي يترتب عليه أثر النجاسة.

إذن فتعريف الميتة – كما تبنّاه السيّد الخوئي(قده) – هو: زُهوقُ النفس المستندُ في عرف المتشرّعة إلى سببٍ غير شرعي، ثم ذكر(قده) مصاديق ذلك كخروج الروح حتفَ الأنف، أو بالضرب، أو بشقّ البطن، ونحوها.

فهذا هو المراد من الميتة: زهاق الروح على نحوٍ غير شرعي.

وبناءً على هذا الأساس قال(قده): "وعليه يكون الموت أمراً وجودياً"؛ إذ هو عبارة عن تحقق زهوق النفس بأحد الأسباب المذكورة ، وهو أمر وجوديٌّ، بخلاف عدم التذكية، فإنّها أمرٌ عدميّ محض. وهنا تقع نقطة الافتراق بين المفهومين؛ فغير المذكى عنوان عدمي، والـميتة عنوان وجودي، ولا ريب في

تغايرهما مفهوماً وموضوعاً.

وعلى ضوء ذلك، لو أُريد إثبات عنوان الميتة باستصحاب عدم التذكية للزم حينئذٍ الوقوع في محذور الأصل المثبت؛ لأنّ إثباتَ أمرٍ وجوديٍّ (وهو الميتة) بواسطة إستصحاب أمرٍ عدمي (وهو عدم التذكية) من قبيل إثبات الأثر الشرعي باثبات اللازم، مع أنّ الملازمة بينهما ليست شرعيةً ولا مأخوذةً في لسان الدليل.

فالسيد الخوئي(قده) يريد أن يلفت إلى وجود مطلب صناعيّ دقيق في المقام.

ثم أردف(قده) قائلاً: "فعند الشكّ فيه يجري استصحاب العدم…".

وبيانه: إذا شك في أنّ الحيوان مات بحتف الأنف، أو مات بشقّ البطن، أو بسبب سقوطه من شاهق، أو غير ذلك من الأسباب المحتملة، فنحن نشكّ في تحقّق عنوان الميتة بالمعنى المتقدّم، وهو: زهاق الروح المستند إلى سببٍ غير شرعي.

وحيث إنّ هذا العنوان أمرٌ وجوديّ، وكلّ أمرٍ وجودي مسبوقٌ بالعدم – كما تقدّم –، فالأصل عند الشكّ هو استصحاب عدم الميتة.

فإذا احتملنا أنّ هذا الحيوان سقط من شاهق، أو شُقّ بطنُه، أو مات بطريقةٍ غير شرعية، كان المرجع في جميع هذه الصور إلى أصالة عدم تحقّق عنوان الميتة؛ لأنّ هذا العنوان عبارة عن مجموعة خصوصيات تكوّن حقيقة الميتة، وهي كما عرّفها السيّد الخوئي(قده): زهاق الروح المستند إلى سبب غير شرعي، وهذا بحدّ ذاته وجودٌ متمحّض.

وعليه، فباستصحاب عدم الميتة نقول: هذا الحيوان ليس ميتة.

ولكن هنا يَرِدُ السؤال: كيف تثبت النجاسة؟ إذ إنّ النجاسة لا تُثبت إلا بعد إحراز كون هذا الحيوان ميتةً، وهذا لم يثبت بالاستصحاب؛ لأنّ موضوع النجاسة – وهو الميتة – أمر وجودي مشكوك، والأصل الجاري هو عدمه.

فالحيوان الذي بين أيدينا – بناءً على استصحاب العدم – ليس ميتةً، ومع عدم ثبوت عنوان الميتة لا يثبت حكم النجاسة.

وهذه تمام طريقة استدلال السيّد الخوئي(قده) في المقام، وقد برهن بها على عدم إمكان إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية؛ لرجوعه إلى الأصل المثبت، بل المرجع فيه استصحاب عدم الميتة.

وسيأتي لاحقاً أنّ جملةً من تلامذته لم يرتضوا هذه الطريقة من الاستدلال، وناقشوا بعض مقدّماتها.

ثم قال(قده): "ولا يمكن إثباته باستصحاب عدم التذكية"؛ وذلك لأنّ عدم التذكية أمرٌ عدميٌّ محض، والعنوان الذي نريد إثباته – وهو الميتة – أمرٌ وجودي. ومن الواضح في الصناعة الأصولية أنّ استصحاب الأمر العدمي لا يُثبت الأمر الوجودي إلا عن طريق الأصل المثبت، ولا حجّية للأصل المثبت كما تقرّر في محلّه.

فإثبات عنوان الميتة المتقوّم بتحقّق زُهوق الروح بسببٍ غير شرعي، بواسطة إستصحاب عدم التذكية، هو من قبيل إثبات اللوازم العقلية اوالعادية للمستصحب لا من قبيل اثبات اللوازم الشرعية له .

وعليه، فاستصحاب عدم التذكية لا ينهض لإثبات عنوان الميتة، ولا تترتّب عليه أحكام النجاسة.

ثم أضاف السيّد الخوئي(قده) مطلباً آخر، فقال: "نعم، لو كانت الميتة عبارةً عمّا مات ولم يستند موته إلى السبب الشرعي…".

وهذا استدراكٌ منه(قده)، يُريد به مناقشة تعريفٍ آخر للميّتة.

ونلحظ أنّه في أوّل كلامه عرّف الميتة بأنّها: زهاقُ النفس المستندُ إلى سببٍ غير

شرعي، وهذا — بوضوح — عنوانٌ وجوديّ؛ إذ فيه إثبات استناد الموت إلى سببٍ خارجي محقّق.

وأمّا هذا التعريف الثاني المحتمل — ما مات ولم يستند موته إلى السبب الشرعي — فهو يرجع إلى عنوانٍ عدمي؛ إذ يُعرَّف الميت بما لم يستند موته إلى سبب شرعي، لا بما استند إلى سببٍ غير شرعي. وبذلك يصبح المفهوم مبنيّاً على سلبٍ وعدمٍ، لا على وجودٍ وإيجاد.

وعليه، فلو قيل بهذا التعريف العدمي — أي: كون الميتة بمعنى ما لم يستند موته إلى التذكية الشرعية — لصحّ حينئذٍ جريان استصحاب عدم التذكية لإثبات النجاسة؛ لأنّ إثبات العنوان العدمي بالاستصحاب العدمي لا يكون من الأصل المثبت.

لكنّ السيّد الخوئي(قده) يرفض هذا المبنى، ولذلك قال: "لكنّه غير ثابت، بل الصحيح عدمه"؛ أي إنّ هذا التعريف العدمي غير تامّ بحسب الاستعمال المتشرعي، والصحيح هو التعريف الأول الوجودي، القائم على استناد زُهوق الروح إلى سبب غير شرعي. وبناءً على هذا التعريف الصحيح، لا يمكن إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية؛ لأنّ الميتة امر وجودي، وإثبات الأمر الوجودي بالأصل العدمي يكون من الأصل المثبت، فلا يُعتنى به.

توضيح كلامه(قده) بعبارة أخرى: إنّ السيّد الخوئي(قده) ـ بعد رجوعه إلى المصباح المنير ـ اعتقد بصحّة التعريف الوارد فيه لمفهوم الميتة، وحكم بأنّه هو المستقرّ في عرف المتشرّعة، وهو: "الموتُ المستندُ إلى سببٍ غير شرعي".

وهذا التعريف ـ كما يظهر ـ أمرٌ وجودي؛ لأنّ فيه إسناداً للموت إلى سببٍ خارجي متحقّق، كالشقّ، والضرب، والسقوط من شاهق، وافترس السبع، ونحو ذلك.

فإذا مات الحيوان بسببٍ معلوم ـ كشقّ البطن أو السقوط من شاهق ـ تحقّق عنوان الميتة، وتترتّب عليه أحكام النجاسة.

أمّا إذا شككنا في أنّ موته كان مستنداً إلى سبب شرعي أو غير شرعي، فماذا نصنع؟ نرجع إلى الأصول العملية، فنقول: نستصحب عدم سقوطه من شاهق، ونستصحب عدم شقّ بطنه، ونستصحب عدم افتراس السبع له، وهكذا في سائر الأسباب غير الشرعية المفترضة.

ومقتضى هذه الأصول أنّ عنوان الميتة ـ بما هو أمر وجودي ـ لم يثبت؛

لأنّ كل أمر وجودي مسبوق بالعدم، ومع الشكّ يُستصحب ذلك العدم.

ولهذا أفاد السيّد الخوئي(قده): إنّ من يدّعي الحكم بالنجاسة بدعوى أنّ هذا الحيوان ميت، فإنّما يتعامل مع عنوانٍ ثُبت موضوعه، مع أنّ الموضوع لم يثبت.

وبعبارة اخرى: أنّ قولنا "الميت نجس" مركّب من: موضوع: وهو الميت. محمول: وهو نجس.

والحال أنّ عنوان الميت ـ وهو شرط لترتّب النجاسة ـ غير محرز لدينا، لأنّه أمر وجودي يحتاج إمّا إلى شهادةٍ حسّية على تحقّقه، أو إلى رؤية وجدانية، ولم يحصل شيءٌ من ذلك. ومع استصحاب العدم نقول:

هذا الحيوان ليس ميتاً.

فإذا لم يثبت موضوع النجاسة ـ وهو الميتة ـ لم تثبت النجاسة؛ لأنّ النجاسة مختصّة بعنوان الميتة دون غيره. ومن هنا يؤكّد السيّد الخوئي(قده) أنّ الحكم بالنجاسة في مثل هذا المورد يحتاج إلى دليلٍ شرعي خاص، لا إلى مجرّد الاحتمال، ولا إلى استصحاب عدم التذكية؛ لأنّه أصل مثبت بالنسبة لإثبات الأمر الوجودي.

وعليه، فهو إلى الآن موافقٌ للفاضل التوني في تحديد معنى الميتة؛ ذلك لأنّ محور الخلاف بين التوني وبين سائر الأعلام لا يرجع إلى أصل ترتّب الأحكام، بل إلى تفسير مفهوم الميتة وما هو المراد منها واقعاً. فالنزاع ـ في جذره العلمي ـ إنّما هو اختلافٌ في تحديد الموضوع: هل الميتة هي الأمر العدمي المتمثل في عدم التذكية؟

أم هي الأمر الوجودي المتمثل في زهاق الروح بسبب غير شرعي؟

والسيّد الخوئي(قده) إلى هذا الحدّ يقف مع الفاضل التوني في أنّ الميتة ليست أمرا عدماً، بل وجودياً، وأنّ النجاسة لا تثبت إلا بإحراز هذا العنوان الوجودي، لا بمجرّد عدم التذكية.

ولكن عند الملاحظة الدقيقية يتّضح أنّ البحث في معنى الميتة لا ينحصر بما ورد في كتب اللغة أو بما استقرّ في ألسنة المتشرّعة، بل عندنا ثلاثة منابع محتملة في مقام التشخيص:

الأول: استعمالات أهل اللغة.

الثاني: الاستعمال المتشرّعي.

الثالث: الاستعمال العرفي العامّ، وهو الذي يخاطب به القرآن الكريم، لأنّ القرآن نزل على العرف العربيّ السابق على الاصطلاحات اللغوية المصطلحة.

ومن هنا يبرز السؤال المهم: هل يمكن استخراج معنى الميتة من القرآن والروايات بحسب عرف المخاطبين، أم نعتمد ما استقرّ في لسان المتشرّعة؟ وهذا بنفسه مطلبٌ أساس ينبغي فهمه بدقّة قبل البناء على أيّ تعريف.

وقد رأى السيّد الخوئي(قده) أنّ الاقتصار على ما ورد في مباحث الأصول لا يكفي لإحكام المطلب، ولذلك في مباحثه الفقهية، جاء بمطلبٍ آخر يكون بمثابة متمّمٍ للبحث، يذكر(قده) وجهاً آخر يختلف عمّا قرّره في الأصول: فإنّه في مباحث الأصول بتّ في المسألة، واعتبر معنى الميتة هو: "ما استند موتُه إلى سببٍ غير شرعي"([4] )، وجعل المعنى العدمي محضَ احتمالٍ مرفوض.

أمّا في المباحث الفقهية، فقد أفاد بوجود احتمالين في معنى الميتة: احتمال أن يكون معناها أمراً وجودياً (كما قرّره في الأصول).

واحتمال أن يكون معناها أمراً عدمياً، أي ما لم يستند موته إلى سببٍ شرعي.

ثمّ قرّر(قده): أنّ وجود هذين الاحتمالين يكفي في تحقّق الشكّ في أصل المعنى.

فقال: "إنّ الميتة كما يمكن أن تكون أمراً وجودياً، يمكن أيضاً أن تكون أمراً عدمياً"، وحيث إنّ هذا الاحتمال قائم، فالنتيجة أنّ المعنى مشكوكٌ على كلّ حال

فإن كان المعنى وجودياً، فلا ينفعنا الاستصحاب، كما تقرّر في الأصول؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية لا يُثبت عنواناً وجودياً إلا بالقول بالأصل المثبت.

وإن كان المعنى عدمياً، نفع الاستصحاب؛ لأنّ استصحاب عدم التذكية يثبت عدم الاستناد إلى السبب الشرعي.

لكن مع الشك في أصل المعنى — هل هو وجودي أم عدمي — لا يترتّب الأثر؛ إذ يكفينا هذا الشك لإسقاط جريان الاستصحاب، ويكون التمسك به حينئذٍ من التمسّك بالدليل في الشبهة المفهومية أو الموضوعية، وهو غير جائز.

توضيح مرامه(قده): إنّ الاستصحاب إنّما يجري إذا كان يثبت الموضوع للحكم، أمّا إذا كان نفس تحديد الموضوع مشكوكاً بين الوجود والعدم، فلا يمكن إجراء استصحاب الوجود ولا استصحاب العدم؛ لأنّ كلاهما يتوقف على معرفة حدّ الموضوع، ولا استصحاب مع الجهل بحدود الموضوع.

فهرسة مطلب السيّد الخوئي(قده):

1- منعُ الملازمة بين الحرمة والنجاسة ابتدأ السيّد الخوئي(قده) بإنكار الملازمة التي ادّعاها المشهور بين عنوان عدم التذكية وبين النجاسة، وقرّر أنّ النسبة بين الحرمة والنجاسة هي عموم وخصوص مطلق، وليست تساوياً .

2- اعتراضُه على المشهور وموافقته للفاضل التوني اعترض(قده) على مسلك المشهور، ووافق الفاضل التوني في أصل تحليل مفهوم الميتة، حتى قال عنه:

"إنّ كلامه متين"، وذلك لاعتماده تعريفاً دقيقاً لمفهوم الميتة، وهو: زهاقُ الروح المستند إلى سببٍ غير شرعي، وهو أمر وجودي.

3- ثمرة هذا التعريف: الميتة أمر وجودي لا عدمي.

بحسب هذا المبنى، تصبح الميتة أمراً وجودياً يحتاج إلى إحراز موضوعه.

وأمّا عدم التذكية فهو أمر عدمي. فإثبات الأمر الوجودي بالأمر العدمي يكون من الأصل المثبت، وهو غير معتبر.

لذلك: لا يمكن إثبات النجاسة باستصحاب عدم التذكية.

4- فرضُ كون الميتة أمراً عدمياً ونتيجة الشكّ ثمّ ناقش(قده) التعريف الآخر

المحتمل للميتة، وهو: ما لم يستند موته إلى سبب شرعي، وهو تعريفٌ عدمي.

لكنّه أفاد: إذا صار معنى الميتة مردّداً بين الأمر الوجودي أو الأمر العدمي، فقد حصل لدينا شكّ في مفهوم موضوع الحكم ، ومعه لا يحرز الموضوع، فلا يجري لا استصحاب الوجود ولا استصحاب العدم؛ لأنّ الاستصحاب الموضوعي الذي ينفعنا في المقام إنّما هو استصحاب الموضوع المعلوم لا استصحاب الشيء المشكوك في كونه موضوعا للحكم .

فالنتيجة: لا ينعقد علمٌ بالميّتة، ويكون المرجع سقوط الاستصحاب.

5- ما هو المرجع العملي بعد سقوط الاستصحاب؟ (أهمّ نتيجة) بعد سقوط جريان الاستصحاب في إثبات النجاسة، نرجع إلى الأصل المناسب، وهو: أصالة الطهارة بالنسبة للحكم بالنجاسة واصالة الحرمة وعدم التذكية بالنسبة للأكل

فالحيوان أو الجلد المطروح الذي نشكّ في كونه ميتةً—بالمعنى الوجودي أو العدمي—يبقى محكوماً بـالطهارة؛ لأنّ موضوع النجاسة (الميتة) لم يثبت.

وهذا هو الذي أفتى به السيّد الخوئي(قده)، و سبقه إليه الفاضل التوني أيضاً.

6- النتيجة النهائية: بناءً على ما تقدّم: لا ملازمة بين الحرمة والنجاسة.

قد يكون الشيء حرام الأكل (لعدم التذكية) لكنه طاهر (لعدم ثبوت عنوان الميتة).

وهذا هو الصحيح على مسلك السيّد الخوئي والفاضل التوني معاً.

ثمّ إنّ هنا حديثاً آخر لا بدّ من التعرّض له، وهو ما يرتبط بعنوان المذكى وعنوان غير المذكى. فنقول: إنّ هاتين الصفتين إنّما تُحملان على الحيوان الميت؛ إذ تكون الحقيقة المقسمية هنا هي الحيوان الميت، وتنقسم إلى قسمين: 1- المذكى، 2- غير المذكى.

فالمذكى ـ بهذا الاعتبار ـ ميت أيضاً؛ لأنّ الذبح الشرعي يفضي إلى خروج روحه، فتنطبق عليه حقيقة الموت. وأمّا غير المذكى فهو كذلك ميت؛ لأنّ روحه زهقت بلا تذكية شرعية. وعليه، فكلٌّ من المذكى وغير المذكى يطلق عليه عنوان الميت، غير أنّ اختلافهما إنّما هو في كيفية الموت وسبب زهاق الروح، لا في أصل الموت نفسه.

وهذا نظير ما نقول في الإنسان: فالشخص الذي مات حرقاً أو مرضاً نقول عنه: ميت، وكذلك الذي استُشهد في سبيل الله نقول عنه: ميت أيضاً. ومع ذلك فبينهما فارقٌ من جهة طريقة الموت، فكما يصحّ حمل الميت على الشهيد ، يصحّ حمل الميت على المحروق . وهذا من قبيل حمل الكلّي على بعض أفراده؛ كما نقول: زيد إنسان، كذلك نقول: (المذكى ميت) و(غير المذكى ميت).

والشارع المقدّس رتّب آثاراً خاصّة على بعض أفراد هذا العنوان الكلّي، كما رتّب أحكاماً متميّزة على الشهيد دون غيره من سائر أفراد الميت؛ فحكم بعدم غسله ودفنه بثيابه إذا لم يدركه المسلمون.

وهكذا أيضاً رتّب الشارع أحكاماً على المذكى وأحكاماً على غير المذكى.

فعنوان الميت يشمل الجميع، غير أنّ اختلاف الأحكام ناشئٌ من اختلاف أسباب الموت وكيفياته.

وقد مرّ هذا المعنى عند التعرض لكلمات الشيخ الأعظم(قده)، وذكرناه أيضاً عند نقل كلمات السيّد اليزدي(قده).

وإذا حرّرنا هذا الكلام وصرفناه إلى محلّ الابتلاء، وهو الجلد أو اللحم المطروح المشكوك، وقعنا في السؤال: هل هذا اللحم أو الجلد الملقى مذكى أو غير مذكى؟

فالمشهور قالوا: نرجع إلى أصالة عدم التذكية.

والفاضل التوني قال: بل نرجع إلى أصالة عدم الميتة.

ولكن عند التحقيق نقول: إنّ الكلام إنّما هو في كيفية زهوق الروح، وهذه الكيفية لا حالة سابقة لها حتى تُستصحب؛ إذ لم تكن هناك حالة معلومة لنقول: كان غير مذكى أو كان مذكى باستصحاب الحالة السابقة.

فلا يوجد عندنا شيء متيقّن يمكن استصحابه.

وإن قلنا: نعتبره ميتةً ابتداءً، لزم منه تطبيق العامّ على الشبهة المصداقية، وهو من أردأ أنحاء التمسّك بالعموم.

فعندما نقول عن هذا الجلد أو اللحم: ميتة، مع أنّه كما يمكن أن يكون مات بالتذكية يمكن أن يكون مات بغير التذكية.

فلماذا أرجّح كونه مات بغير التذكية؟ هذا تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية، وهو غير جائز.

وعليه: لا يصحّ أن أقول: هو مذكى، ولا يصحّ أن أقول: هو غير مذكى.

فلا نستفيد من أصالة التذكية ولا من أصالة عدم التذكية شيئاً.

فالمرجع إذن: أصالة الطهارة، فنحكم بأنّ هذا الجلد المطروح طاهر؛ لأنّ النجاسة

مشروطة بإحراز عنوان الميتة، وهذا العنوان لم يثبت.

وكذلك نحكم بعدم الحرمة ؛ لأنّ الحرمة ناشئة من عدم التذكية، وهذا أيضاً غير ثابت، فلا الأصل في التذكية يُفيدنا ولا الأصل في عدمها.

فالحكم إذن: ( هو الحلية والطهارة).

ولكن هذا الحكم لم يفتِ به احد حتّى الفاضل التوني؛ إذ إنّ ظاهر عبارته: الحكم بالحرمة والطهارة؛ واستفاد الطهارة من أصالة عدم الميتة، والحرمة من أصالة عدم التذكية.

أما القول بأنّه حلال وطاهر فهو لازم هذا المسلك، لكنه قولٌ ساقط لا يلتزم به أحدٌ من الأعلام.

وحيث إنّ الشارع جعل للموت اعتباراً خاصاً نشأ منه تفصيلٌ بين المذكى وغير المذكى، وجعل بينهما نوعاً من التناقض في الحكم الشرعي؛ فالمذكى طاهرٌ وحلال، وغير المذكى نجسٌ وحرام.

فلابدّ من الأخذ بما رتّبه الشارع شرعاً، لا بما يقتضيه التحليل العقلي المحض.

ثم إن الشيخ الوحيد(دام ظلّه): قد ذكر اعتراضاً على أستاذه السيّد الخوئي(قده)، سيأتي الحديث عنه إن شاء الله تعالى.

 


[1] -( وهو كتاب غنيّ بالمضامين العلميّة الدقيقة وقد طبع مؤخرا على نفقة العتبة العباسية المقدسة).
[2] - مصباح الأصول، ج٣، تقرير بحثه للبهسودي، ص140.
[3] - على ما صرّح به في المصباح المنير - الفيومي، ص584.
[4] - ففي التنقيح لشرح العروة الوثقى، ج2، ص450.