الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/06/09

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي

لازال الكلامُ في بيان ما أفادهُ المحقّقُ النائينيّ(قده) في مقامِ دفعِ إشكال الفاضل التوني(قده)، وذلك من خلال وجهين أسّسهما في بيان أصل المناقشة. وبعد استيفاء هذين الوجهين، شرعَ(قده) في التصدّي للجواب عن أصل الإشكال، وسيكونُ حديثُنا الآن منصبّاً على المقطع الثاني من جوابه.

ولا بأس بذكر كلامه؛ حتى تتّضح الفكرة بصورةٍ واضحة، ويُفهم مقصوده بدقّة. فقد تقدّم سابقًا أنّ الفاضل التوني أفاد في كلامه أنّ عدم المذبوحية للحيوان الحيّ يغاير عدم المذبوحية للحيوان الذي مات حتف أنفه، فهو يدّعي وجود مغايرة بين العدمين. ولذا قال المحقّق النائيني(قده) في مناقشة هذه الدعوى: "فلان دعوى ـ الفاضل التوني ـ التغاير بين عدم التذكية، في حال حياة الحيوان وبين عدم التذكية في حال زهوق- هذه الدعوى - واضحُة الفساد." ثم أفاد (قده) بما مضمونه

" وذلك لأن تذكية الحيوان من الأمور الحادثة…"([1] ).

بيان ذلك: أنّ لدينا حيوانًا مُذَكّى، وحيوانًا غير مُذَكّى، وأنّ التذكية نفسَها أمرٌ حادث؛ وكلُّ أمرٍ حادثٍ لابد أن يكون مسبوقًا بالعدم، بمعنى أنّه لم يكن موجودًا ثم وُجِد. فكما نقول: "زيدٌ مُجتهد"، فالاجتهاد أمرٌ حادثٌ عليه، أي لم يكن موجودًا ثم وُجد. فزيدٌ حادث، وله تاريخُ ولادة، وقبل هذا التاريخ لم يكن موجودًا. وهكذا سائر الأمور الحادثة، كلّها مسبوقة بالعدم. ومن هنا نبّه المحقق النائيني وثبّت هذا المعنى بقوله: " تذكية الحيوان من الأمور الحادثة".

ثم قال(قده): "والمسبوقةُ بالعدم الأزلي ـ ومعنى ذلك أنّها لم تكن موجودةً ثم وُجِدت ـ وهو أي عدم التذكية مستمرٌّ إلى زمان خروج الروح".

ومعنى هذه الجملة أنّ عدم التذكية باقٍ ومستمرٌّ إلى أن تخرج الروح.

ولابد من الانتباه والتأمل هنا فإنّ قوله: الحيوان إذا خرجت روحه صار ميتة؛ فكان سابقًا حيًّا، والآن هو ليس بحيّ، وهذا لا كلام فيه. وإنّما الكلام في أنّ عدم التذكية هل يستمرّ أو ينقطع، أم أنّه يتبدّل إلى عدمٍ آخر؟ فالمحقّق النائيني يرى أنّ هذا العدم بعينه باقٍ، ولذلك قال(قده): "وهو مستمرٌّ إلى زمان خروج الروح".

ثم قال(قده): "غايته أنّ عدمَ التذكية قبل وجود الحيوان إنّما هو العدمُ المحمولي

المفارق بمفاد ليس التامة، وهذا ليس موضوعًا للنجاسة ولا للحرمة".

وتوضيحُ مراده(قده): أنّ توصيفَ الحيوان في حال حياته بأنّه غيرُ مُذَكّى لا يترتّب عليه أثرٌ شرعي؛ لأنّ عدم التذكية في هذه المرحلة ليس إلّا نحوًا من العدم الأزلي، وهو العدم المحمولي الذي يدلّ على عدم تحقّق التذكية في الخارج، من غير أن يكون هذا العدمُ بنفسه موضوعًا لحكمٍ شرعي. فالحيوان قبل أن يوجد ليس مُذَكّى، وإذا وجد حيًّا يبقى موصوفًا بعدم التذكية، إلا أنّ هذا الوصف في كلا الحالين لا يقتضي حرمةً ولا نجاسةً؛ لعدم تحقّق موضوعهما.

وعليه، فإنّ إطلاق وصف غير المذكى على الكبش الحيّ لا ثمرة فقهيّة له؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة إنّما تتعلّق بعد زُهوق الروح. فعدمُ التذكية ما قبل الموت هو عين العدم المحمولي بمفاد ليس التامة: أي إنّ التذكية لم تكن متحقّقة.

أمّا إذا خرجت الروح بغير الذبح الشرعي، كما في مورد افتراس السبع، فإنّ الحيوان يُوصَف حينئذٍ بأنّه غيرُ مُذَكّى أيضاً، إلّا أنّ هذا العدمَ ـ هنا ـ ليس عدمًا محموليًّا، بل هو عدمٌ نعتي، قائمٌ بالذات الموجودة، ومفاده مفاد ليس الناقصة: أي وُجد الحيوان ولم تحصل فيه التذكية الشرعيّة. وهذا العدمُ النعتي هو الذي يُصبح

موضوعًا لترتّب آثار الميتة من الحرمة والنجاسة.

فالنتيجة: أنّ عدم التذكية واحدٌ في ذاته، إلّا أنّه يختلف باختلاف الاعتبار الاصطلاحي؛ فهو قبل الموت عدمٌ محموليّ لا أثر له، وبعد الموت بغير تذكية عدمٌ نعتيّ هو تمام موضوع الأحكام الشرعيّة. وبهذا يتّضح ما أراده المحقّق النائيني(قده) في مقام دفع دعوى المغايرة التي ذكرها الفاضل التوني بين العدمين.

ثمّ قال (قده): "بل الموضوع لهما ـ للحرمة والنجاسة ـ هو العدمُ النعتيُّ بمفادِ ليسِ الناقصة؛ فإنّ معروضَ الحِلّية والطهارة والحرمة والنجاسة هو الحيوانُ المذكى والحيوانُ غيرُ المذكى. فالحيوانُ المذكى هو معروضُ الحلية والطهارة، والحيوانُ غيرُ المذكى هو معروضُ الحرمة والنجاسة. وأمّا العدمُ الأزليُّ السابق على وجود الحيوان فليس موضوعًا للحكم، فلا أثرَ لاستصحابه".

وبيان ذلك: إنّ الاستصحاب ـ بما هو حكمٌ ظاهريّ شرعيّ ـ لا يجري إلا مع ترتّب الأثر، إمّا باستصحاب نفس الحكم الشرعي ، أو الموضوع ذي الأثر الشرعي. وعليه، فاستصحابُ عدمِ التذكية في حال الحياة لا يثمر شيئًا؛ لأنّ هذا العدم في ظرف الحياة ليس له أثرٌ شرعيّ أصلًا. فالسؤال: ما هي ثمرة استصحاب

عدم التذكية والحيوانُ حيّ؟ الجواب: لا ثمرة في البين.

ثمّ أردف (قده): "ولكنّ استمرارَ العدمِ الأزليّ إلى زمان وجود الحيوان يوجب انقلابَ العدم من المحمولية إلى النعتية، ومن مفاد ليس التامة إلى مفاد ليس الناقصة".

وهذه العبارة بطبيعتها تستدعي استفهامًا؛ إذ يُتوهَّم أنّ العدمَ الأزليّ تبدّل إلى عدمٍ آخر عند وجود الحيوان. ولذا بادر المحقق النائيني (قده) بلا فاصلة قائلاً: "لا أقول إنّ العدم الأزلي يتبدّل إلى عدمٍ آخر، فإنّ ذلك واضحُ البطلان".

مراده (قده): أنّ العدم واحدٌ بعينه، لا يتعدّد ولا يطرأ عليه تبدّل، لكنّ وصفه يختلف؛ فعدمُ التذكية قبل وجود الحيوان عدمٌ محموليّ ـ بمفاد ليس التامة ـ لأنّ موضوعه (الحيوان) غير موجود. وأمّا بعد وجود الحيوان، فعدمُ التذكية عينُ ذلك العدم السابق، لكنّه أصبح وصفًا للحيوان الموجود، فيرجع إلى العدم النعتيّ بمفاد ليس الناقصة.

ولهذا قال (قده): "بل العدم في حال حياة الحيوان هو نفسُ العدم الأزلي قبل

حياته"، أي إنّ العدم لم يُستأنف ولم يتغيّر، وإنّما تغيّر نحو الحمل فقط، فذاك كان

عدمًا محموليًا، وهذا عدمٌ نعتيّ.

والنتيجة: إنّ الحيوان بعد وجوده يُوصَف بأنّه غيرُ مذكى على نحو العدم النعتي؛ وأمّا قبل وجوده فعدمُ التذكية عدمٌ محموليّ لعدم تحقّق الموضوع أصلًا. وبهذا يظهر أنّ الاستصحاب في مثل عدم التذكية في ظرف الحياة لا يجري لانتفاء الأثر، إذ لا ثمرة شرعيّة تترتّب على هذا العدم في فترة حياة الحيوان.

ثم قال (قده): "غايته أنّه قبل الحياة كان محمولياً لعدم وجود معروضه، وبعد الحياة صار نعتياً لوجود موضوعه، ويستمرّ العدمُ النعتي ـ وهو عدم المذبوحيّة أو عدم التذكية ـ في الحيوان من مبدأ وجوده إلى انتهاء عمره".

بيان مرامه: أنّ عدم التذكية قبل وجود الحيوان عدمٌ محموليٌّ صرف؛ لأنّ العدم هنا محمولٌ على المفهوم، لا على موجودٍ في الخارج. وأمّا بعد وجود الحيوان فعدم التذكية نعْتاً للحيوان الموجود، فيكون مفاده مفاد ليس الناقصة. ومع ذلك فالعـدم في كلا الحالين ـ قبل الوجود وبعده ـ عدمٌ واحد بعينه، وإنّما الاختلاف في نحو الحمل لا في حقيقة العدم.

وعليه، إذا خُنق الحيوان، أو ماتَ موقوذةً، أو ذُبح لغير القبلة، فإنّ جميع هذه

الحالات تُعبَّر بـ"عدم التذكية"، ولا يوجد أيّ اختلافٍ في نفس العدم، لا في ظرف حياته ولا في ظرف موته حتف أنف. ومن هنا قال (قده): "من دون أن يحصل تغييرٌ في ناحية العدم فينقلب عمّا هو عليه من النعتيّة، ومن دون أن يحصل اختلافٌ في ناحية المنعوت وهو الحيوان، بل العدمُ النعتي يستمرّ باستمرار وجود الحيوان".

وحاصل كلامه (قده): إنّ للحيوان حالتين: حالة العدم وحالة الوجود.

ففي حالة العدم يمكن حمل العدم عليه محمولاً صِرفاً، فنقول: "الحيوان معدوم" أو "الحيوان غير موجود"، وهذا هو العدم المحمولي أو العدم الأزلي. وفي هذه الحال يصحّ سلب كلّ وصفٍ عنه، ومنه سلب التذكية، فنقول: "الحيوان المعدوم غير مذكى".

أمّا بعد الوجود، فلا يصحّ حمل العدم المحمولي عليه؛ إذ لا يصحّ أن يقال: "الحيوان الموجود معدوم" للزوم التناقض. لكن يصحّ سلب التذكية عنه على نحو النعت، فنقول: "الحيوان الموجود غير مذكى". وعليه فلدينا عبارتان:

1- "الحيوان المعدوم غير مذكى" عدم محمولي.

2- "الحيوان الموجود غير مذكى" عدم نعتي.

والنائيني (قده) يريد القول: إنّ هذا "غير المذكى" قبل الوجود وبعده عدمٌ واحد، لكنّه كان قبل الوجود محمولياً، وبعد الوجود نعتيّاً؛ والاختلاف من جهة وجود الموضوع وعدم وجوده، لا من جهة حقيقة العدم أو ماهيته.

موضع الخلاف مع الفاضل التوني: الفاضل التوني يرى أنّ عدم التذكية في حال الحياة يغاير عدم التذكية في حال الموت حتف الأنف، وأنّ النجاسة مترتّبة على الموت لا على مجرّد عدم التذكية، فكأنّه يجعل لعدم التذكية في ظرف الحياة وصفًا، ولعدم التذكية في ظرف الموت وصفًا آخر، ويتعامل معهما بوصفهما عدمين متغايرين.

أمّا المحقق النائيني (قده) فيرى أنّ العدم النعتي، بعد تحقّق الحيوان، يستمرّ واحداً إلى لحظة موته، ولا يتغيّر بتغيّر الحالات، فـ"غير المذكي" للحيوان الحي هو بعينه "غير المذكي" للحيوان الميت حتف أنف. وعليه، فالتغاير الذي تخيّله التوني غير تامّ؛ إذ لم يحدث اختلافٌ لا في حقيقة العدم ولا في حقيقة المنعوت، وإنما هو عدمٌ نعتيّ مستمرّ من أوّل وجود الحيوان إلى آخره. نعم يمكن تقسيم هذا العدم بلحاظ الظرف: عدم نعتي في حال الحياة، وعدم نعتي في حال الموت، لكنّه تقسيمٌ اصطلاحي، لا أنّ العدمين متغايران حقيقةً. والأوّل ـ أي عدم التذكية في حال الحياة ـ ليس موضوعاً لآثار شرعيّة.

ثمّ قال (قده): "فدعوى -التوني - : أنّ عدم التذكية في حال الحياة يغاير عدم التذكية في حال خروج الروح، والذي يترتّب عليه أثر النجاسة والحرمة هو الثاني ـ وهو مشكوك الحدوث ـ واضحةُ الفساد؛ لما عرفتَ: من أنّ الأثر رُتِّب على استمرار عدم التذكية إلى زمان زهوق الروح، فعند الشك في التذكية يجري استصحاب عدمها الثابت في حال الحياة".

ثمّ أردف (قده) بعد فاصلة طويلة: "فالأقوى: ما عليه المشهور، من جريان أصالة عدم التذكية عند الشك فيها".

تحليل كلامه (قده) كأنّ الحيوان ـ بحسب التقريب الفنّي لكلامه ـ يمرّ بثلاث حالات: الحالة الأولى: العدم المحض قبل الوجود قبل ولوج الروح، يكون الحيوان معدومًا مطلقًا، فيصحّ حمل العدم عليه على نحو العدم المحمولي، وهو عدمٌ أزليّ، ولا أثر شرعيّ له؛ لأنّ الموضوع (الحيوان) لم يتحقّق بعد.

الحالة الثانية: بعد الوجود وولوج الروح يخرج الحيوان من العدم، وهنا يقع السؤال: هل يصحّ حمل عدم التذكية عليه؟

الجواب: نعم، يصحّ؛ لأنّ عدم التذكية الذي كان ثابتًا قبل الوجود بعينِه يستمرّ بعد الوجود، غير أنّ نحو الحمل تبدّل من محموليّ إلى نعتيّ بلحاظ وجود الموضوع.

فالفرق ليس في نفس العدم، بل في وجود الموضوع وعدم وجوده؛ ولذا كان قبل الوجود عدمًا محموليًا، وبعده صار عدمًا نعتياً.

لكن يطرح سؤال آخر: هل لعدم التذكية في حال حياة الحيوان أثرٌ شرعي؟

الجواب: لا أثرَ له؛ لأنّ الحيوان مادام حيّاً وان كان يتصف بعدم التذكية الا انه لا يترتب عليه حكم شرعي. فيكون عدم التذكية في هذه المرحلة ـ رغم صحّة حمله ـ غير ذي أثر.

وعليه: فالعدم الأزلي، وإن كان لا أثر له قبل الوجود، إلا أنّه هو هو يستمرّ بعد الوجود بعنوان العدم النعتي، ومن ثَمّ يمكن استصحابه، وإن لم يكن أثرُه الفعلي مترتباً إلا في ظرفٍ لاحق.

الحالة الثالثة: حالة زهوق الروح هنا فقط يصبح لعدم التذكية أثرٌ شرعي؛ إذ عند خروج الروح تُرتَّب أحكام الحرمة والنجاسة على الحيوان غير المذكى. فاستمرار العدم النعتي من حال الحياة إلى ما بعد الموت يجعل موضوع الحكم محفوظاً، فيقع الأثر.

وبهذا يظهر أنّ جواب المحقق النائيني (قده) في هذا الموضع غير جوابه السابق ، بل هو جوابٌ ثانٍ مستقلّ أريد منه ردُّ ما توهّمه الفاضل التوني من وجود تغايرٍ بين عدم التذكية في حال الحياة وعدم التذكية في حال الموت.

فالتوني اعتقد أنّ عدم التذكية في الحياة وعدم التذكية عند الموت عدمان متغايران بلحاظ ترتّب الآثار، فجعل الثاني موضوع النجاسة والحرمة دون الأول.

بينما النائيني (قده) بيّن أنّ عدم التذكية واحدٌ مستمرّ، لم يتعدّد ولم ينقلب، وإنما اختلاف الحمل بلحاظ وجود الموضوع وعدم وجوده. وهذا العدم النعتي الواحد هو الذي يستمرّ إلى زمان زهوق الروح، وعندئذٍ فقط يترتّب عليه الأثر.

وعليه، فالإشكال الذي بنى عليه التوني دعوى التغاير لا يتمّ، والمشهور في جريان أصالة عدم التذكية هو الأقوى.

وأمّا ما أفاده السيّد الخوئي (قده) فسوف نتعرّض له لاحقاً؛ إذ إنّه لم يُوافق أستاذَه المحقّق النائيني في هذا المبنى، بل رجع فوافق الفاضلَ التوني في أصل الإشكال، واستند في ذلك إلى دليلين سنبحثهما في محلّهما إن شاء الله تعالى .

 

[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]

 


[1] - فوائد الأصول، ج٤، تقرير بحث النائيني للكاظمي، ص٤٣٢ وما بعدها.