الأستاذ السيد احمد الصافي
الأصول

47/06/08

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب

كان الكلامُ في ما أفادهُ المحقِّق النائيني(قده) في مقام الردّ على الفاضل التوني، فإنّ الشيخ الأعظم(قده) ـ كما تقدّم ـ قد عرضَ تقريرَ الفاضل التوني، وبيّن له حالتين يمكن حملُ كلامه عليهما. ومع هذا الحملِ المفترض لم يتوقّف الشيخ الأعظم، بل واصل مناقشةَ الفاضل التوني، وأورد عليه ما رآه من الإشكالات.

إلى هنا كان كما ذكرناه تعريضاً وتمهيداً لما تقدّم؛ تثبيتاً للمطلب وتأكيداً لمحلّ البحث مرّة بعد أخرى، وهو أنّ العنوان المأخوذ في لسان الأدلّة عنوانٌ واحد، وهو عنوان "الميتة". وهذا العنوان قد يُعبَّر عنه تارةً بـ الميتة كما ورد في الآية المباركة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾، وقد يُعبَّر عنه أُخرى بـ غير المذكى أو عدم التذكية.

واللازم الالتفاتُ إلى أنّ اختلاف التعبير لا يكشف عن تعدّد في المعنون، بل هو من قبيل اختلاف العبارة مع وحدة الحقيقة؛ فكأنّ البحث في مقام تأسيس وحدة المفهوم لا تعدّده. ومن هنا، كان الشيخ الأعظم(قده) والمحقّق النائيني(قده) على رأيٍ واحد في أنّه لا ثنائيّة في الباب، وأنّه ليس عندنا عنوانان مستقلّان أحدهما "الميتة" والآخر "غير المذكى"، بل العنوان واحدٌ بالحقيقة، وهو:عدم التذكية يساوي الميتة.

وعليه، فكلّ ما يُجعل من الأحكام مترتّباً على "الميتة" فهو بعينه مترتّبٌ على "عدم التذكية"، والعكس كذلك، من غير تغايرٍ في الموضوع ولا إختلاف بينهما، بل هما معبِّران عن حقيقة واحدة.

وأمّا الفاضل التوني(قده)، فإنّه لا يوافق على ما ذهب إليه المشهور ومن تبعهم من وحدة العنوانين، بل يرى أنّ المقام يشتمل على عنوانين مستقلّين:

1- عنوان "الميتة".

2- عنوان "غير المذكى" أو "عدم التذكية".

ويترتّب على كلّ واحد منهما حكمٌ مغاير للآخر؛ فإنّ: حكم النجاسة مترتّب على عنوان الميتة، وحكم الحرمة مترتّب على عنوان غير المذكى.

وعلى هذا الأساس، فالفاضل التوني ـ ومن وافقه من الأعلام ـ يرى أنّ الباب ليس من موارد وحدة الحقيقة مع اختلاف التعبير، بل من موارد تعدّد الموضوعين واختلاف الحكمين تبعاً لذلك، في مقابل ما ذهب إليه المشهور والشيخ الأعظم(قده) والمحقّق النائيني(قده) من أنّ العنوان واحد وأنّ "الميتة" ليست إلا تعبيراً آخر عن عدم التذكية.

وبهذا يظهر أنّ الفاضل التوني يفارق المشهور جوهرياً؛ فليس الأمر عنده من اختلاف العبارات الدالّة على حقيقة واحدة، بل هو اختلافٌ حقيقيّ في أصل الموضوع وفي الحكم المترتّب عليه، فالميتة عنده موضوعٌ لحكمٍ، وغير المذكى موضوعٌ لحكمٍ آخر، ولا ملازمة بينهما في مقام الثبوت.

وأمّا الآن، فالكلامُ في البرهنة لكلٍّ على مدّعاه. وقد تقدّم ما أفاده الشيخ الأعظم(قده) في هذا الباب، والمحقّق النائيني(قده) يوافقه في الجملة، بل يعضّد أساس مبناه.

فقد أفاد (قده) أنّ الفاضل التوني بنى رأيه على دعوىٍ مفادها: أنّ الميتة بمعنى موت الحيوان حتف أنفه، وأنّ هذا عنوانٌ مستقلّ مغاير لعنوان عدم التذكية. ولكنّ المحقّق النائيني يناقش أصل هذا المبنى، فيقول:إن سلّمنا بأنّ "موت الحيوان حتف أنفه" عنوانٌ متصوَّرٌ في نفسه، إلّا أنّه لم يثبت شرعاً ترتيبُ أثرٍ مستقلٍّ عليه؛ إذ لا يوجد في الأدلّة حكمٌ شرعيٌّ يترتّب على هذا العنوان بما هو هو. بل جميع الآثار الشرعية المعتبرة إنّما ترتّبت على عنوان "غير المذكى"، فهو الموضوع للحرمة، وهو الموضوع للنجاسة.

وعليه، فالقول بأنّ "الميتة" عنوانٌ وجوديّ مستقلّ لا شاهد عليه، بل الميتة أمرٌ عدميّ، بمعنى أنّها الحيوان غير المذكى ليس إلّا. فيكفي ـ بناءً على هذا المبنى ـ استصحاب عدم التذكية أو التمسّك بـ أصالة عدم التذكية لإثبات الحكمين معاً: الحرمة والنجاسة، من دون حاجة إلى إحراز كون الموت وقع حتف الأنف أو غيره.

فالمحقّق النائيني، في هذا المقطع، يوافق الشيخ الأعظم في النتيجة الأساس، وهي: عدم التذكية تساوي الميتة.

وبذلك يكون موضوع الحكم واحداً، وما يترتّب عليه من آثار ـ كالحرمة والنجاسة ـ إنما هو مترتّب على هذا العنوان الواحد، لا على عنوانين متغايرين كما تصوّره الفاضل التوني. فإذا أُحرز عدم التذكية، فقد أُحرزت الميتة، وثبتت الحرمة والنجاسة معاً؛ وحينئذٍ يكون ما ذهب إليه المشهور هو المتعيّن.

ثمّ جاء المحقّق النائيني(قده) إلى المقطع الثاني من المناقشة، وهو مورد يحتاج إلى مزيد بيان وانتباه، فقد ذكر الفاضل التوني عنوان "عدم المذبوحية"، وبيّن أنّ هذا العنوان له حالتان متميّزتان:

الأولى: حال الحياة،

الثانية: حال الموت حتف الأنف.

وتوضيح ذلك: أنّ "عدم المذبوحية" ـ أو "عدم التذكية" ـ قد يُنتزع من الحيوان وهو حيّ؛ فلو كانت الشاة حيّة أمامنا صحّ أن نقول: هذه الشاة غير مذكاة؛ لأنّ التذكية لم تتحقّق بعد.

وكذلك إذا ماتت الشاة بلا تذكية شرعية، يصحّ أيضاً أن نقول عنها: إنّها غير مذكاة.

ولكن الفاضل التوني يريد أن يقرّر أنّ عدم المذبوحية حال الحياة يختلف عن عدم المذبوحية حال الموت؛ فعدم المذبوحية قبل الموت عدمٌ آخر غير عدم المذبوحية بعد الموت، وإن اشتركا في اللفظ. فالأوّل عدمٌ ملازم للحياة، والثاني عدمٌ عارض للموت حتف الانف، وهما مختلفان عنده حقيقةً.

ثمّ إنّ هذا التفصيل المهم لم يتعرّض له لا الشيخ الأعظم(قده) ولا السيد اليزدي(قده) ولا سائر الأعلام؛ إذ تعاملوا مع عنوان "عدم التذكية" بوصفه عنواناً واحداً بسيطاً، من غير تفصيلٍ بين عدم التذكية حال الحياة وعدم التذكية بعد الموت.

وقد صرّح الفاضل التوني(قده) بهذا التفصيل: ، حيث قال:

"فعدمُ المذبوحيّة لازمٌ أعمّ لموجبِ النجاسة؛ فعدمُ المذبوحيّة اللازمُ للحياةِ مُغايرٌ لعدمِ المذبوحيّة العارضِ للموتِ حتفَ أنفِه.([1] )"

وهذه الجملة منه تمثّل المقدّمة الأساس في مبناه؛ إذ إنّه يفرّق بين عدم المذبوحية قبل الموت وعدم المذبوحية بعد الموت، ويرى أنّ: ما يتّصف به الحيوان حال حياته من عدم المذبوحية لا يترتّب عليه أثر النجاسة.

وأنّ الذي يكون موجباً للنجاسة هو عدم المذبوحية العارض بعد الموت حتف الأنف، لأنه العنوان المطابق لـ"الميتة".

ثمّ فرّع(قده) على هذه المقدّمة قائلاً: إنّ لازم النجاسة ـ على مبناه ـ ليس مطلق

الحيوان غير المذكى، بل الحيوان الميت حتف أنفه، لأنّ النجاسة مترتّبة على عنوان "الميتة" لا على عنوان "غير المذكى" بما هو أعمّ.

وحيث إنّ إحراز كون الموت حتف الأنف لا يكون إلا عبر إثبات أمر وجودي (وهو تحقق الموت على وجهٍ غير مسبوق بالتذكية)، كان الطريق الوحيد إليه هو الأصل المثبت؛ لأنّنا لو استصحبنا عدم التذكية، فلا يترتّب عليه ـ بحسب مبناه ـ عنوان "الموت حتف الأنف" إلا على نحو اللوازم العقلية، وهي من اللوازم غير الشرعية، فيكون الاستدلال بالاصل مبنيّاً على حجية الأصلٍ المثبتٍ وهوغير حجّة.

وعليه خلُص الفاضل التوني إلى أنّ القول بنجاسة الحيوان غير المذكى لا يتمّ إلا بإثبات تحقق الموت حتف الأنف، وهذا لا يحرز إلا بالأصل المثبت، وحيث إنّه غير حجّة فالقول ساقطٌ من أساسه.

وبعبارةٍ أخرى: إنّ الفاضل التوني(قده) يرى أنّ عدم المذبوحيّة ـ وهو بعينه عدم التذكية ـ ليس عنواناً واحداً، بل هو عدمٌ ذو صورتين متغايرتين:

الأول: عدم المذبوحية المنتزع من الحيوان حال حياته.

الثاني: وعدم المذبوحية المنتزع من الحيوان بعد موته حتف أنفه (أي الميتة).

فإذا أخذنا عنوان "عدم المذبوحية" في الكبش الحي، كان هذا عدماً مخصوصاً بهذه الحالة، منتزعاً من عدم تحقّق الذبح الشرعي مع بقاء الحيوان حيّاً.

وإذا أخذنا "عدم المذبوحية" في الحيوان الميت حتف أنفه، كان هذا عدماً آخر، منتزعاً من موت الحيوان بلا تذكية شرعية، وهو الذي يطابق عنوان الميتة.

والفاضل التوني يريد بذلك أن يقرّر: إنّ العدم الأول (عدم المذبوحية حال الحياة) مغايرٌ حقيقةً لـ العدم الثاني (عدم المذبوحية حال الموت)، فليس كلاهما أمراً واحداً، بل هما عدمان متبائنان.

فخلاصة رأيه الشريف: أنّ عدم المذبوحية ليس حقيقةً واحدة بسيطة، بل هو عدمٌ يختلف باختلاف مورد الانتزاع، فيتغاير العدم المنتزع من الحيّ مع العدم المنتزع من الميت، وعليه لا يمكن جعل "عدم التذكية" موضوعاً واحداً للنجاسة والحرمة معاً كما فعل المشهور.

ثمّ جاء المحقّق النائيني(قده) فناقش ما أفاده الفاضل التوني(قده) في دعوى تغاير الأعدام، وأشار أنّ البحث لا يستقيم إلا بعد التمييز بين نوعين من العدم.

النوع الأول: العدم المحمولي.

النوع الثاني: العدم النعتي.

أمّا العدم المحمولي فهو العدم الملحوظ بمفاد "ليس التامّة"؛ أي نفيُ أصل الوجود رأساً، من غير لحاظ ذاتٍ أو موضوعٍ يحمل عليه. وهو على وزان القضايا الوجودية في مفاد "كان التامّة"؛ إذ كما أنّ "كان التامة" معناها: وُجِدَ الشيء، كذلك "ليس التامة" معناها: انتفى وجود الشيء.

وأمّا العدم النعتي فهو العدم الملحوظ بمفاد "ليس الناقصة"؛ بمعنى أنّ للشيء وجوداً مفروغاً عنه، ولكن تُسلب عنه صفةٌ أو نعتٌ. وهو نظير مفاد "كان الناقصة" في باب الوجود.

ولتوضيح الصورة أكثر، نذكر الفرق بين كان التامة وكان الناقصة:

كان التامة: فعلٌ تامّ، معناه وُجِدَ.

فإذا قيل: كان الله أو كان زيد، فالمراد إثبات أصل الوجود، بلا نظرٍ إلى صفات لاحقة.

كان الناقصة: الوجود مفروغٌ عنه، ونريد إسناد صفةٍ لاحقة للموضوع.

فإذا قيل: "كان محمدٌ عالماً"، فقد فرغنا عن وجود محمد، ثم أُسند إليه العلم.

وبالمقابلة يأتي "ليس": ليس التامة تساوي العدم المحمولي: تنفي أصل الوجود، كما في قولنا: "زيد معدوم" فالنظر إلى العدم الصرف.

أما ليس الناقصة فتساوي العدم النعتي: تنفي الصفةٍ عن الموجود، كما في قولنا: "زيد ليس مجتهداً" أو "ليس عالماً"؛ فالوجود لزيد مفروغ عنه، والعدم هنا عدمُ نعتٍ لا عدمُ وجود.

ولذا أفاد المحقّق النائيني(قده) بأنّه لا تعدّد في الأعدام حتى يُتصوّر التغاير بينها؛ لأنّ التغاير فرعُ الاثنينية، أي فرع أن يكون عندنا عدمان متباينان يصحّ التفكيك بينهما. أمّا والمقام ليس فيه إلّا عدم واحد بسيط، فلا مورد لدعوى التغاير.

وبيانُ مفادِه (قده): أنّ عنوان عدم التذكية ملحوظٌ دائماً بنحو العدم المحمولي؛ أي نفي أصل التذكية عن شيء لا تذكية له. فالعدم هنا عدمٌ محموليّ، نظير قولنا: "زيد معدوم"، وهو بعينه قولنا: "زيد ليس موجوداً". فالقضيتان من سنخ واحد، وكلاهما نفيٌ لأصل الوجود. وكذلك قولنا: "الشاة غير مذكّاة" معناه: "الشاة معدومةُ التذكية"؛ فنحن لا نلحظ صفة لاحقة، بل نلحظ نفي أصل التذكية،

سواء كانت الشاة موجودة أو لم تكن موجودة بعد.

وعليه، فـ عدم التذكية ـ في جميع طبقاته ـ مأخوذ على نحو العدم المحمولي.

ثمّ يقول النائيني (قده): إنّ هذا العدم المحمولي يمكن استصحابه حتى بعد تحقّق وجود الموضوع خارجاً. فكما كانت الشاة قبل وجودها "غير مذكّاة" بالعدم المحمولي، كذلك بعد وجودها يمكننا الحكم بأنّها "غير مذكّاة"، غاية ما هناك أنّ النسبة قد تغيّرت: فالعدم قبل الوجود نسبة عدمٍ إلى لا موضوع، وبعد الوجود يصبح نسبة عدمٍ إلى موضوع موجود، ولكن العدم بنفسه واحد، لم يتغيّر ولم يتعدّد.

ثمّ قد يُطرَح سؤالٌ في البين، وهو: ما هو الفرق بين العدم المحمولي والعدم النعتي؟ ويجاب: إنّ حقيقة العدم واحدة، ولا اختلاف في ماهيته بين المحمولي والنعتي؛ وإنّما يقع الاختلاف في جهة الموضوع الذي يُسند إليه العدم: أمّا في العدم المحمولي: فالعدم مسندٌ إلى موضوع غير موجود أصلاً، كما في قولنا: "زيد معدوم".

وأمّا في العدم النعتي: فالعدم مسندٌ إلى موضوع موجود، ولكن تُسلب عنه صفة

معيّنة، كما في قولنا: "زيد ليس بعالِم".

فالعدم في كلا الموردين عدم واحد، غير متعدّد، ولا يتشكّل باختلاف حال الموضوع. فالاختلاف إنما هو في نسبة العدم لا في حقيقة العدم.

وعليه، يمكن استصحاب العدم المحمولي ونقله إلى ظرف وجود الموضوع، ليصبح عدماً نعتياً بعد تحقّق الوجود؛ ولا يعني ذلك تبدّل العدم أو تكثّره، بل يعني فقط تبدّل موضع الحمل.

ومثال ذلك: قبل وجود زيد نقول: "زيد معدوم"، وهو عدم محمولي.

فإذا وجد زيد، نستصحب هذا العدم فنقول: "زيد ليس بعالِم"؛ وهذه السالبة هي نفس العدم الأول، لكنّه أصبح نعتيّاً بعد تحقّق وجود زيد.

وبناءً على هذا الأساس، يقرّر المحقّق النائيني(قده) أنّ عدم التذكية عدم واحد بسيط، ولا تعدّد فيه: فعدم التذكية حال حياة الحيوان هو عدم التذكية حال موته،

ولا مغايرة في العدم حتى نقول بوجود "عدمٍ للحياة" و"عدمٍ للموت".

ومن هنا يظهر أنّ دعوى الفاضل التوني(قده) بأنّ "عدم المذبوحية حال الحياة" يغاير "عدم المذبوحية حال الموت" لا أساس لها؛ لأنّ التغاير فرع الاثنينية، ولا اثنينيّة في المقام، بل هو عدم واحد فقط، ينتقل من ظرف العدم المحمولي قبل الوجود إلى ظرف العدم النعتي بعد الوجود من غير اختلاف في ذاته.

وعليه: فإنّ عدم التذكية كما هو ثابتٌ في حال الحياة، فهو ثابتٌ في حال الممات أيضاً؛ إذ ليس لهذا العنوان لازمان متغايران، أحدهما للحياة والآخر للموت، بل هو عنوان واحد بسيط لا يختلف باختلاف ظرف الانتزاع، سواء أكان الحيوان موجوداً حيّاً أم مات حتف أنفه.

فـ عدم التذكية شيء واحد، ويمكن استصحاب هذا العدم الواحد من ظرف عدم الموضوع إلى ظرف وجوده من دون أيّ محذور، إذ التغيّر إنما يقع في الموضوع لا في العدم نفسه.

وعليه، فقول الفاضل التوني(قده) بأنّ "عدم المذبوحية حال الحياة يغاير عدم المذبوحية حال الموت" قولٌ لا ننهض عليه؛ إذ التغاير ممنوع من أصله، لأنّ التغاير فرع تعدّد الحقيقة، ولا تعدّد هنا، بل عندنا عدم واحد لا غير.

فإذن:دعوى التغاير غير تامّة، والحقّ ما أفاده المحقّق النائيني من وحدة العنوانين . فعندما ذكر الفاضل التوني(قده) عبارته القائلة بأنّ: "عدم المذبوحية في حال الحياة مغاير لعدم المذبوحية في حال الموت حتف الأنف"، علّق عليه المحقّق النائيني(قده) قائلاً: إنّ ما ذكره واضح الفساد، ثم استشهد بكلامه ، حيث قال: "لأنّ تذكية الحيوان من الأمور الحادثة المسبوقة بالعدم الأزلي"([2] ).

وبيان مراده (قده): أنّ التذكية أمر وجودي، وكلّ أمر وجودي مسبوقٌ لا محالة بـ العدم، وهو هنا عدم التذكية. وهذا هو ما يعبّر عنه الأصوليون بـ العدم الأزلي.

وعليه، فإنّ وصف الحيوان قبل التذكية بأنّه "غير مذكى" إنّما هو بلحاظ هذا العدم الأزلي، وهو عدم ثابت من الأزل إلى أن يتحقّق الوجود الخارجي للتذكية.

ولكي يربط المحقّق النائيني هذا المفهوم بمباحث الاستصحاب، وسيأتينا، أنّ الأعدام الأزليّة تُبحث في موارد أخرى، وسيأتي بيانها لاحقاً؛ ومنها: بحث استصحاب الجعل وبقائه عند النراقي(قده)، وما اشتهر عن السيد الخوئي(قده) من معارضة استصحاب الجعل بـ استصحاب عدم الجعل، وهذا في الحقيقة مبنيّ على العدم الأزلي؛ فإنّ الأحكام قبل تشريعها معدومة، كالصوم قبل تشريعه، والصلاة قبل تشريعها، وكذلك صفاتٌ كالقرشية قبل عروضها.

وبهذا الرابط يتّضح أنّ ما يرمي إليه المحقّق النائيني هو: أنّنا نستصحب عدم التذكية ـ وهو عدمٌ أزليّ ـ إلى زمان تحقّق التذكية، بل وإلى ما بعد وجود الحيوان إذا شككنا في وقوع التذكية عليه.

ثم قال (قده): "وهو ـ أي العدم الأزلي ـ مستمرّ إلى زمان خروج الروح".

فمفاد كلامه: أنّ عدم التذكية مستمرٌّ حتى يُحرز وجود التذكية خارجاً، فإذا لم نعلم هل ذُكِّي الحيوان أم لا؟ فالأصل استصحاب عدم التذكية.

ثم أضاف (قده) مقرّراً الفارق بين العدم الأزلي وعدم التذكية الذي هو موضوع الأحكام، فقال: إنّ غاية الأمر أنّ عدم التذكية قبل وجود الحيوان هو عدم محمولي بمفاد ليس التامة، وهذا العدم ليس موضوعاً للحكمين (النجاسة والحرمة).

وإنّما موضوع الحرمة والنجاسة هو العدم النعتي بمفاد ليس الناقصة، لأنّ المعروض للأحكام الأربعة (الحلية، الحرمة، الطهارة، النجاسة) إنّما هو الحيوان الموجود:فإن كان موجوداً مذكى فهو طاهرٌ حلال، وإن كان موجوداً غير مذكى فهو نجسٌ حرام.

 

وبهذا الربط تبيّن أنّ العدم الأزلي ليس هو الموضوع للحكم، وإنّما دوره منحصرٌ في كونه عدماً قابلاً للاستصحاب إلى أن يتحقّق موضوع الحكم خارجاً.

 

وللكلام بقية…

 

[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]

 


[1] - الوافية في أصول الفقه، ج١، ص٢١٠.
[2] - في فوائد الأصول، ج٤، ص٤٣٢.