47/05/27

الموضوع: الأصول العملية/الاستصحاب الكلي /الاستصحاب الكلي
بعد ما انتهى بنا الكلام عمّا أفادهُ السيّدُ اليزديّ(قده) في بيانِ المحتملات المتصوَّرة لمعنى "الميتة" ومراتب دلالتها.
وتبيّن حينئذ أنّ الأقوال في المقام قد اختلفت بين موافِقٍ للمشهور ومخالِفٍ له؛ فالشيخُ الأعظمُ(قده) ممّن تبنّى ما عليه المشهور في تحديدِ مفهوم الميتة، بخلافِ الفاضلِ التوني(قده) والسيّدِ اليزديّ(قده) اللذين خالفا المشهور في أصل المبنى، فاختارا اتّجاهاً آخر في تحليل الموضوع وبيانِ ما يترتّب عليه من الآثار.
وبذلك تتّضح الصورةُ الكاملة لِما هو موردُ البحث.
وأمّا الآن فنشرع في بيان ما أفاده المحقّق النائينيّ(قده)، فإنّه أيضاً كان ناظراً إلى ما ذكره الفاضلُ التوني(قده)، فحملَ كلامَه على نحوَيْن، ثمّ تعرّض لمناقشة كلٍّ من هذين النحوين على حدة.
ومن خلال كلمات الفاضل التوني(قده) يمكن استخراج مطلبين مهمّين في المقام:
المطلب الأوّل: أنّ الفاضل التوني(قده) ميّز بين متعلق الأثرين؛ فجعل الأثرَ الذي
هو الحرمة مترتّباً على عنوان عدم التذكية، وجعل النجاسة مترتّباً على عنوان الموت، واعتبرهما موضوعين مختلفين في ترتّب الحكمين.
المطلب الثاني: أن عدم التذكية ـ وهو لازمٌ لحالتي الحياة والموت ـ وقد عبّر عنه(قده) بمصطلح عدم المذبوحية، وقرّر أنّ عدم المذبوحية في حال الحياة يغاير عدم المذبوحية في حال الموت؛ وقد تقدّم توضيح ذلك، من جهة أنّ اختلافَ الموضوع موجبٌ لعدم جريان الاستصحاب، أو من جهة أنّ اللازم أعمّ، فيكون إثباتُ أحدهما غيرَ مُثبتٍ للآخر.
وأمّا المحقّق النائينيّ(قده) فقد تعرّض لمناقشة كلا المطلبين اللذين استُفيدا من كلمات الفاضل التوني(قده).
فنبدأ بالمطلب الأوّل: ومناقشته(قده) لهذا المطلب قريبةٌ ممّا أفاده الشيخ الأعظم(قده)؛ إذ قرّر أنّ ترتّب النجاسة ليس متوقّفاً على عنوان الميتة بما هي ميتة، ولا على خصوص الموت حتف الأنف، وإنْ كان الفاضل التونيّ(قده) قد علّق الأثر على هذا العنوان. وذلك أنّ الفاضل التوني(قده) قال: "إنّ عدم المذبوحيّة لازمٌ لأمرين: الحياة، والموت حتف الانف؛ والموجب للنجاسة ليس هذا اللازمُ
من حيث هو هو، بل ملزومه الثاني، أعني: الموتَ حتف الأنف"([1] ).
ومحصّل كلامه(قده) أنّ "عدم المذبوحية" بما هو لازمٌ مشترك بين الحياة والموت، لا يكون هو موضوعَ النجاسة، بل الموضوع هو خصوص الموت الذي يكون بلا تذكية.
وعليه، جعلُ ترتّب النجاسة موقوفاً على إحراز عنوان الموت حتف الأنف هو المطلب الذي أراده الفاضل التوني(قده).
ثمّ نأتي إلى كلام المحقّق النائينيّ(قده) فنتلو عبارته ونتوقّف عند مفرداتها. فقد قال(قده)
"فإنّ الموضوعَ للحرمة والنجاسة ليس هو الموتُ حتفَ الأنف، بل الموتُ حتف الأنف من مصاديق الموضوع، لا أنّه هو الموضوع؛ بداهةَ أنّه لم يُؤخَذ في آيةٍ ولا روايةٍ (الموتُ حتفَ الأنف) موضوعاً، بل الموضوعُ للحرمة والنجاسة هو الميتة."([2] ) وحاصل مراده(قده): إنّ المحقّق النائينيّ يفرّق بين الموضوع الذي يدور الحكم مدارَه، وبين المصداق الذي ينطبق عليه ذلك الموضوع خارجاً.
فالشارع إنّما جعل الحكم مترتّباً على عنوان الميتة، وهذا العنوانُ له أفراد ومصاديق متعدّدة في الخارج. ومن جملة تلك المصاديق الموتُ حتفَ الأنف، لكنّه ليس كلّ المصداق ولا تمامه، بل هو واحدٌ من أفراد "الميتة".
ثمّ يشير إلى أنّ معنى الموت حتف الأنف هو الموتُ بلا سببٍ قاهر؛ كالشاة تشيخ فتموت بانتهاء عمرها، من غير افتراس سبع، ولا سقوط من شاهق، ولا جرحٍ مهلك، ولا تذكية. فهذا الفرد من أفراد الميتة يُسمّى موتاً حتف الأنف.
وأمّا الفاضل التوني(قده) فقد قرّر أنّ عدم التذكية لازمٌ مشتركٌ بين الحيوان في حال الحياة والحيوانِ الميّتِ حتف الأنف؛ إذ الحيوانُ الحيّ غيرُ مُذَكّى، كما أنّ الميّت حتف الأنف غيرُ مُذَكّى أيضاً.
ومن هنا قال: إنّ التمسّك بـ استصحاب عدم التذكية لإثبات الموت حتف الأنف هو تمسّكٌ بلازمٍ لإثبات ملزومه، وهو من الأصل المثبت، والمثبت ليس بحجّة.
وهنا جاء ردّ المحقّق النائينيّ(قده):
قال: إنّك ـ أيها الفاضل التوني ـ جعلتَ الموت حتف الأنف هو الموضوعُ الذي تتوقّف عليه النجاسة، ثم طالبتَ المشهورَ بالدليل. ونحن نطالبك بالدليل نفسه؛
فـ أين ورد عنوان "حتف الأنف" في آية أو رواية؟
فالآية لم تقل: (حُرِّمَت عليكم الميتةُ التي ماتت حتف أنفها)، بل قالت: (حُرِّمَت عليكم الميتةُ).والميتةُ عنوانٌ عامٌّ له مصاديق متعدّدة:
– منها الموت حتف الأنف،
– ومنها ما أكل السبع،
– ومنها ما سقط من شاهق،
– ومنها ما مات بمرض مهلك… إلى آخره.
فأنت ـ أيها التوني ـ حصرْتَ الحكم بفردٍ واحدٍ من أفراد الميتة، من غير شاهدٍ عليه من آيةٍ أو رواية، ولا قرينةٍ معتمدة، وهذا لا يمكن الالتزام به؛
فـ النجاسة ـ بنظر النائيني ـ ليست متوقّفةً على خصوص الموت حتف الأنف، بل على عنوان "الميتة" بما هي هي، والموتُ حتف الأنف أحدُ أفرادها ليس إلاّ. ثمّ قال المحقّق النائينيّ(قده): "لوضوح أنّه لو لم يجتمع في الحيوان شرائطُ التذكية: من فَرْيِ الأوداجِ الأربعةِ بالحديد، مع التسمية، ومواجهةِ القبلة، وكونِ الذابحِ مسلماً، كان الحيوانُ ميتة."
وتوضيح مراده(قده): قد تقدّم في الدروس السابقة أنّ عدم توفّر شروط التذكية الأربعة ـ وهي:
1- فَرْيُ الأوداج الأربعة بالحديد،
2- مع التسمية،
3- مع استقبال القبلة،
4- مع كون الذابح مسلماً ـ
يوجب الحكم بكون الحيوان ميتةً شرعاً، وإن لم يكن موته حتفَ أنفه.
فمثلاً: لو كان الذابحُ مسلماً، واستعمل الحديد، وذكر التسمية، لكن ترك استقبال القبلة عمداً، فإنّ الذبيحة لا تعدّ مذكى شرعاً.
ومع ذلك لا يُقال إنّها ماتت حتفَ أنفها، بل ماتت بسببٍ قاهرٍ ناشئٍ من ترك بعض القيود الشرعيّة.
وعليه، يكون عنوان الموت حتف الأنف مغايراً لعنوان الميتة؛ إذ كلّ حتف الأنف ميتة، وليس كلّ ميتةٍ حتف الأنف، والافتراقُ كاشفٌ عن التباين. وهذا يؤكّد ما ذهب إليه النائيني(قده) من أنّ الموضوعَ في الآيات والروايات هو عنوان الميتة بما
له من أفراد متعدّدة، وأنّ حتف الأنف أحدُ تلك الأفراد لا أنّه تمام الموضوع.
ثمّ قال(قده): "وإن لم يصدق عليه الموتُ حتفَ الأنف … فالميتةُ عبارةٌ عن غير المذكى لا عن الموت حتف الأنف، فاستصحابُ عدمِ التذكية مُحرِزٌ لموضوع الحرمة والنجاسة."
وحاصل الكلام: إنّ للمحقّق النائينيّ(قده) على الفاضل التونيّ(قده) مطلبين أساسِيَّين:
المطلب الأوّل: أنّ الفاضل التونيّ(قده) ابتكر مبنىً لم يسبقه إليه أحد، وهو حصرُ موضوع النجاسة في "الميتة بمعنى الموت حتفَ الأنف".
وهذا ـ عند النائيني(قده) ـ لا شاهدَ عليه؛ إذ الشارع لم يأخذ عنوان الموت حتف الأنف في موضوع الحرمة والنجاسة، لا في آيةٍ ولا في رواية، وإنما المأخوذ عنوان الميتة، وهو أعمّ من الموت حتف الأنف.
فالفرق واضح بين الميتة بما لها من مصاديق متعدّدة، وبين الموت حتف الأنف الذي هو واحدٌ من تلك المصاديق.
وعليه، فحصرُ الحكم في فردٍ خاصٍّ من أفراد الميتة أمرٌ لا يعاضده دليل، بل هو أمرٌ جديد أتى به التونيّ(قده) ولا ينهض عليه مستند .
المطلب الثاني: إنّ الحرمة والنجاسة ـ بنظر النائينيّ(قده) ـ غير متوقّفتين على عنوانٍ وراء "عدم التذكية.
بل لو سُلِّم أنّهما متوقّفتان على "الميتة"، فالميتة ليست سوى عنوان "غير المذكى"، ولا يُراد منها معنىً آخر مباين يمكن جعله موضوعاً مستقلاً قبال عدم التذكية.
وعليه: إذا أردنا إثبات الموضوع، فـ استصحاب عدم التذكية كافٍ في إحراز عنوان الميتة؛ ومتى أُحرز الموضوع ثبت الحكمُ تابعاً له، سواء ثبت الموضوع وجداناً أم بالأصل،
ولا حاجة إلى التوسّط في إثبات لازمه ـ أي الموت حتف الأنف ـ لأنّ هذا التوسّط من الأصل المثبت، وهو غير حجّة.
فالمحقّق النائيني(قده) ينتهي إلى أنّ الميتة تساوي غير المذكى، وبذلك يلتقي رأيه مع ما ذهب إليه الشيخ الأعظم(قده) والمشهور من أنّ استصحاب عدم التذكية يثبت نفس الموضوع الذي يدور الحكم مدارَه.
ثمّ بعد ذلك أردف(قده) قائلاً: "لأنّ الموضوعَ لهما ـ الحرمةِ والنجاسةِ ـ هو الأمرُ العَدَميّ، لا الأمرُ الوجوديّ، حتى يُتوهَّم التعارضُ بين أصالةِ عدمِ التذكيةِ وأصالةِ عدمِ الموتِ حتفَ الأنف."
وتوضيح مراده(قده): إنّ الموت حتف الأنف أمرٌ وجودي، كما أنّ الميتة ـ بحسب ظاهر اللفظ ـ أمرٌ وجودي أيضاً؛ إذ هي عبارة عن تحقّق الموت في الحيوان.
غير أنّ من فسّر الميتة بـ غير المذكى يرى أنّ موضوع الحرمة والنجاسة أمرٌ عدمي، وهو عدم التذكية، لا عنوانٌ وجوديّ وراء ذلك.
والمحقّق النائينيّ(قده) يسير على هذا المبنى، فيرى أنّ الحكمين (الحرمة والنجاسة) معلّقان على أمر عدميّ هو عدم التذكية، لا على أمر وجودي كالموت حتف الأنف.
ومن هنا يُحرز الموضوعُ باستصحاب عدم التذكية؛ لأنّ التذكية أمرٌ وجوديّ حادث، وعدمها أمرٌ عدميّ مستصحَب.
فحين يُسأل: هل هذا الجلدُ أو هذا الحيوانُ مطروحاً مذكى أو غير مذكى؟
يُقال: نستصحب عدم التذكية، وبمجرّد إحراز هذا العنوان ـ وهو أمر عدميّ ـ يتحقّق موضوع الحرمة والنجاسة؛ لأنّ الحكم تابع لموضوعه، سواء أُحرز الموضوع بالوجدان أو بالأصل.
فإن أُحرِزت عدم التذكية بالوجدان ـ كما لو شوهد السبعُ يفترس الشاة ـ ثبتت الحرمة والنجاسة وجداناً.
وإن لم تحصل المعرفة الوجدانية ـ كما لو وُجدت لحم الشاة مطروحاً لا أثر فيها لافتراسٍ أو خنقٍ أو سقوطٍ أو غيره ـ أُحرز الموضوعُ بالأصل، أي باستصحاب عدم التذكية، فيثبت الحكمان تعبّداً.
وهذه هي وظيفة الأصول العملية: إحرازُ الموضوع إذا لم يُحرَز بالوجدان.
وعليه، فالمشهور يقولون:
موضوع الحرمة والنجاسة هو الميتة، فإن لم نُحرِز الميتة بالوجدان، أحْرَزْناها بالأصل، لأنّ الميتة ـ بمعنى غير المذكى ـ عنوانٌ عدميّ.أمّا الفاضل التوني(قده) فقد جعل الحرمة والنجاسة متوقّفتين على الموت حتف الأنف، وهو أمر وجوديّ مخصوص، فطالبه النائينيّ بالدليل؛ إذ لا آية ولا رواية أشارت إلى "مات حتف
أنفه" موضوعاً للحكم.
فالذي ورد هو عنوان الميتة، وحتف الأنف واحد من مصاديقها لا أنّه تمام موضوعها.
فإذا أكلها السبع فهي ميتة، وإذا سقطت من شاهق فهي ميتة، وإذا لم تستكمل شروط التذكية فهي أيضاً ميتة.
فكلّ ذلك يرجع إلى معنى غير المذكى، ولا يوجد وراءه عنوانٌ موضوعيّ جديد.
ولذلك قال(قده): "لأنّ الموضوعَ لهما ـ الحرمةِ والنجاسةِ ـ هو الأمرُ العَدَميّ لا الأمرُ الوجوديّ، حتّى يُتوهَّمَ التعارضُ بين أصالةِ عدمِ التذكيةِ وأصالةِ عدمِ الموتِ حتفَ الأنف، ليرجع إلى أصالة الطهارة والحلّ، بل عدمُ الموتِ حتف الأنف لم يكن موضوعاً لحكمٍ حتّى يجري الأصلُ فيه؛ فأصالةُ عدم التذكية لا مُعارِضَ لها."
وتوضيح مراده(قده): إنّ قوله: "فأصالة عدم التذكية لا معارض لها" مبنيٌّ على كبرى معروفة في الأصول، وهي لا يُتصوَّر التعارض بين أصلين إلا إذا كان في كلٍّ منهما أثرٌ شرعيٌّ مستقلٌّ، بحيث يكون كلّ أصلٍ منتجاً لحكمٍ على خلاف ما ينتجه
الأصل الآخر.
فالقول بالتعارض فرعُ وجود أثرٍ شرعيٍّ في الطرفين.
مثلاً: لو كان عندنا خبران متعارضان، ولا مرجّح لأحدهما، فنقول:
– أصالة عدم صدور الأوّل
– وأصالة عدم صدور الثاني
وتقع المعارضة؛ لأنّ كلاً منهما لو ثبت لكان مُنتِجاً لحكم شرعي، فيتزاحمان.
أمّا في المقام: فالفاضل التوني يريد أن يجري أصالة عدم الموت حتف الأنف، لكن يُسأل أوّلاً: ما هو الأثر الشرعيّ المترتّب على عدم موته حتف الأنف؟ الجواب: لا أثر.
فلا النجاسة متوقّفة على الموت حتف الأنف، ولا الحرمة متوقّفة عليه، بل لا يوجد في الشريعة حكمٌ معلّق على هذا العنوان بخصوصه.
إذن: أصالة عدم الموت حتف الأنف لا تُنتج أثراً شرعياً، فهي أصلٌ غير مُثمِر، والأصل غير المثمر لا يجري.
فلا تصل النوبة إلى المعارضة أصلاً؛ إذ لا معارض لأصالة عدم التذكية من ناحية
الأثر.
فإن قيل: الثمرة هي عنوان الميتة، لا عنوان الموت حتف الأنف.
قيل: الميتة ليست شيئاً وراء عدم التذكية؛ فالمحقق النائيني ـ كالمشهور والشيخ الأعظم ـ يرى:
الميتة تساوق غير المذكى وهو أمر عدميّ، لا أمر وجودي.
وعليه: إذا استصحبنا عدم التذكية، فقد أحرزنا عنوان الميتة.
وإذا أحرزنا الميتة، ثبت حكمان شرعيان: النجاسة والحرمة.
وهذا الأثر الشرعي لا يحتاج إلى أصلٍ آخر، ولا يتوقّف على إثبات غير المذكى عبر لازمه الوجوديّ (كالموت حتف الأنف) كي يصبح من الأصل المثبت.
فاستصحاب عدم التذكية يثبت الموضوع نفسه، لا لازمه العقلي أو العادي، ولذلك لا يكون من الأصل المثبت.
الخلاصة التي ينتهي إليها المحقّق النائينيّ(قده):
أولاً: عدم التذكية أمر عدميّ.
ثانياً: الميتة عنوان عدميّ يساوق عدم التذكية.
ثالثاً: استصحاب عدم التذكية بلا معارض.
رابعاً: وهو مُحرزٌ لموضوع الحرمة والنجاسة.
خامساً: ولا حاجة إلى التوسّط بعنوان الموت حتف الأنف؛ لأنه ليس موضوعاً لحكم شرعي أصلاً.
وبذلك نخرج بالنتيجة التالية:
الفائدة الأساس التي استفدناها: أنّ عدم التذكية والميتة كليهما عنوانان عدميّان، والحكم يدور مدار "عدم التذكية" لا مدار "الموت حتف الأنف"
إلّا أنّه يمكن المناقشة في هذا المبنى، كما ناقش به بعضُ الأعلام، إذ ذهبوا إلى أنّ الميتة أمرٌ وجوديّ، لا عدميّ؛ وذلك لأنّ الموت ـ بحسب الظاهر اللغوي والعرفي ـ أمرٌ يقوم بالموجود الحيّ، لا أنّه مجرّد عدم الحياة.
فالموت لا يصدر من الحيوان صدور الأفعال الاختيارية، بل يقوم به كما يقوم النومُ والمرضُ بالإنسان، ومن هنا يَرِدُ الإشكال المعروف على النحاة في تعريفهم للفاعل بأنّه "من قام بالفعل"؛ إذ هذا التعريف إنّما يستقيم في نحو: "فتح زيد الباب"، ولا يستقيم في نحو:
"نام زيد"، "مرض زيد"، "مات الحيوان"،
لأنّ النوم والمرض والموت أوصاف وجودية تحلّ في الإنسان والحيوان دون أن يكون فاعلها الحقيقي، ومع ذلك أسندها النحاة إليه توسّعاً.
وعلى هذا الأساس يمكن أن يُقال: إنّ عنوان الموت في نفسه عنوانٌ وجوديّ، بل حتى ما يُذكر من تأويل كـ زهوق الروح أو خروج الروح هو أيضاً عنوان وجوديّ، لا عدميّ.
غير أنّ هذه المناقشة ـ مع سلامة مبناها اللغويّ ـ قد تُرفض في مقام الاستظهار الشرعي؛ لأنّ البحث ليس في حقيقة الموت، بل في الموضوع الذي رتّب الشارعُ عليه حكمي الحرمة والنجاسة.
والذي يظهر من لسان الشارع أنّه رتّب الأحكام على عنوان المذكى وغير المذكى:
المذكى: طاهرٌ وحلال.
غير المذكى: نجسٌ وحرام.
فالمسألة الشرعية تدور مدار التذكية وعدِمها، لا مدار الموت بما هو حقيقة وجودية، مهما كانت دلالة اللغة.
ومن هنا كان المشهورُ، ومعهم الشيخ الأعظم(قده) والمحقّق النائيني(قده)، على أنّ: معنى الميتة شرعاً يساوق غير المذكى وليس المراد بها المعنى الوجوديّ للموت الذي يُستفاد من اللغة.
بينما خالفهم في ذلك الفاضل التوني(قده) والسيّد اليزدي(قده)، فحملا "الميتة" على معنى وجوديّ آخر غير معنى عدم التذكية كما تقدّم تفصيله.
فالشيخ النائيني ناقش هذا الوجه، ولكن الفاضل التوني قال: "عدمُ المذبوحية لازمٌ لأمرين: لازمٌ لحالَ الحياة، ولازمٌ للموت حتف الأنف"، ثمّ أردف بأنّ هذا اللازم في حال الحياة يختلف عن اللازم في حال كونها ميتة.
وهنا نرجع إلى مطلبٍ آخر، وهو التفريق بين العدم المحمولي و العدم النعتي؛ فالعدم المحمولي هو ما يُحمَل بعنوان مفاد ليس التامّة، كما أنّ عندنا كان التامة في مقام الوجود، فعندنا ليس التامة في مقام العدم.
وأمّا العدم النعتي فهو مفاد ليس الناقصة مقابل كان الناقصة؛ فالذات موجودة، ويُسلب عنها الوصف.
وهذا هو الذي سيناقشه المحقّق النائيني في الوجه الثاني.
[ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَ الْحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ]