47/05/12

الموضوع: الأصول العملية / تنبيهات حول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر / التنبيه الثاني: دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحصّل
قلنا إن التنبيه الرابع انعقد للبحث عن دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحصّل، والمحصّل على شكلين، عرفيّ وشرعيّ.
المحصّل العرفيّ مثل ما إذا وجب قتل إنسان كافر وشككنا في أنّه يحصل القتل برصاصٍ واحد أو بأكثر؟
وأمّا المحصّل الشرعيّ فمثاله ما إذا وقع الشكّ في أنّ تحصيل الطهارة من الخبث إذا كان واجباً فهل يحصل بغسلة واحدة أو بغسلتين؟
والكلام في المحصّل العرفيّ واضح مسلّم بأنّ البراءة لا تجري وإنّما يجري الاحتياط؛ لأنّ الاشتغال اليقينيّ يستدعي الفراغ اليقيني. وإنّما وقع البحث والكلام في المحصّل الشرعيّ.
وقلنا إنّ المحقق النائينيّ رضوان الله تعالى عليه قال يجري الاحتياط فيه ولا تجري البراءة، وذلك لأنّ في جريان البراءة ثلاثة شروط:
الشرط الأوّل: وجود الشكّ وهذا مسلّم.
والشرط الثاني: كون المشكوك من المجعولات الشرعيّة التي يكون وضعها بيد الشارع حتّى يكون رفعها أيضاً بيده، بدلالة «رفع ما لا يعلمون».
الشرط الثالث: أن يكون فيه منّة وتوسعة، لا أن يكون فيه تضييق.
ويقول المحقّق النائيني رضوان الله تعالى عليه في ضوء هذه الشروط الثلاثة: عندنا عدّة وجوه للاستدلال على عدم جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في المحصّل الشرعيّ.
إنّه توجد ثلاث فرضيات لمصبّ البراءة، والشروط الثلاثة المذكورة ليست متوفّرة جميعاً في أيّ واحدة من هذه الفرضيّات.
الفرضيّة الأولى: أن تجري البراءة عن أصل وجوب تحصيل الطهارة. وهذا طبعاً باطل؛ لأنّ أصل وجوب الطهارة مسلّم لا يمكن إجراء البراءة عنه.
الفرضيّة الثانية: أن نجريها عن سببيّة الأكثر – أي الغسلتين – لحصول الطهارة، وهذا أيضاً يفقد شرط الشكّ؛ لأنّا على يقين بأنّ سببيّة الأكثر للطهارة موجودة، فإنّ الطهارة تحصل بالغسلتين قطعاً. إذاً الفرضية الأولى والفرضية الثانية مرفوضتان لفقدهما لشرط الشكّ.
والفرضيّة الثالثة: أن نصبّ البراءة على سببيّة الأقلّ يعني الغسلة الواحدة لحصول الطهارة فنجري البراءة عن هذه السببيّة، وهذا أيضاً لا يمكن؛ لأنّه يفقد الشرط الثالث الذي كان يقول بأنّه لا بدّ أن يكون فيها توسعة لا تضييق، وهذا فيه تضييق على العباد؛ لأنّه إذا نجري البراءة عن سببيّة الغسلة الواحدة لتحصيل الطهارة يعني أنّ الغسلة الواحدة لا تكفي، فهذا تضييق وليس توسعة على العباد.
فالفرضيات الثلاثة لتعيين مصبّ البراءة كلّها مرفوضة، لفقدانها بعض الشرائط التي ذكرناها.
وأستاذنا الشهيد رضوان الله تعالى عليه أورد عليه بأنّنا نختار الفرضيّة الثانية (يعني فرضيّة إجراء البراءة عن سببيّة الأكثر)، وأمّا قوله إنّ هذا يفقد شرط الشكّ – بأنّ الأكثر (أي الغسلتان) يسبّب قطعاً لحصول الطهارة وهذا يفقد شرط الشكّ – فجوابه أنّ حصول الطهارة بعد الغسلتين وإن كان صحيحاً ولكنّه ليس بمعنى السببيّة، فقد يحصل شيء بعد شيء بدون سببيّة، ونحن نشكّ هنا في أنّ الغسلتين اللتين يحصل بعدهما الطهارة هل هما السبب أو أنّ واحدة منهما السبب؟ لا نعلم.
فإنّ هناك فرقاً بين حصول شيء بعد شيء وبين سببيّة شيء لشيء. فحصول الطهارة هنا غير مشكوك، فإنّ الطهارة تحصل عند إجراء الغسلتين ولكن هل أنّ هاتين الغسلتين هما السبب لحصول الطهارة؟ أو واحدة منهما؟ لا نعرفه. فالسببيّة مشكوك وهذه الفرضيّة غير فاقدة لشرط الشكّ، فنجري البراءة عن السببيّة لا عن «حصول هذا بعد ذاك»، وهذا لا بأس به ولا موجب للاحتياط.
وبعد ذلك لا بدّ من الانتقال إلى الوجه الثاني.
والحمد لله رب العالمين.