47/05/21
بسم الله الرحمن الرحیم
الموضوع: شرح حدیث جنود العقل و الجهل/صفات المؤمن /الزهد
الزهد و الورع و الخشية في الكلام الإلهي لموسى (عليه السلام):
ورد في حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّ الله أوحى إلى النبي موسى (عليه السلام): «أَنَّ عِبَادِي لَمْ يَتَقَرَّبُوا إِلَيَّ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ ثَلَاثِ خِصَالٍ قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ وَ مَا هُنَّ قَالَ يَا مُوسَى الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا وَ الْوَرَعُ عَنِ الْمَعَاصِي وَ الْبُكَاءُ مِنْ خَشْيَتِي قَالَ مُوسَى يَا رَبِّ فَمَا لِمَنْ صَنَعَ ذَا فَأَوْحَى اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَيْهِ يَا مُوسَى أَمَّا الزَّاهِدُونَ فِي الدُّنْيَا فَفِي الْجَنَّةِ وَ أَمَّا الْبَكَّاءُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَفِي الرَّفِيعِ الْأَعْلَى لَا يُشَارِكُهُمْ أَحَدٌ وَ أَمَّا الْوَرِعُونَ عَنْ مَعَاصِيَّ فَإِنِّي أُفَتِّشُ النَّاسَ وَ لَا أُفَتِّشُهُمْ.»[1]
مفهوم الزهد في الدنیا:
الزهد في الدنيا لا يعني أن لا يستعمل الإنسان مظاهرها، بل إنّ المعنى الحقيقي للزهد هو عدم التعلّق بمظاهر الدنيا. یمکن أن يسكن المرء في بيت جيّد و يستفيد من سيّارة أو إمكانيّات مناسبة أو حتّى يمتلك منصباً و مكانةً عاليةً و مع ذلك يبقى زاهداً.
الزاهد هو الذي لا يتعلّق بمنزله أو ماله أو منصبه؛ بل هدفه هو الحقّ و الحقيقة، لا الدنيا و زينتها.
إذا تعلق الإنسان بالدنيا، فإنه قد يرتكب المخالفات من أجل الحفاظ عليها؛ فيحلّ الحرام و يحرّم الحلال. هذا التعلّق يبعّد الإنسان عن طريق الحق. يجب على الإنسان أن يستفيد من نِعم الدنيا، و لكن يجب أن لا يصبح أسيراً لها.
خطر التعلّق بالدنیا:
التعلق بالدنيا يجرّ الإنسان إلى ورطة السقوط. كثير من الناس يبتعدون عن الدنيا في الظاهر، لكن في قلوبهم تعلّق شديد بها.
قد يكذب الشخص أحیاناً أو يأخذ الرشوة، أو يتّهم الآخرين، ليصل إلى منصب أو يحافظ على موقعه. هذه هي النقطة التي يزول فيها الزهد و يحلّ التعلّق مكانه.
يصبح بعض المقربين في بعض الأحيان، من الأكابر أنفسهم متعلّقين بالدنيا، فيتسبّبون في انحراف الآخرين. قد يكون ذلك العالم أو المرجع نفسه من أهل الزهد، لكن المقرّبين منه ممّن يحبّون الدنيا يورّطونه.
على سبيل المثال، ترك بعض المراجع الكبار بعد وفاتهم أموالًا لم توزّع في حياتهم، فسقطت لاحقاً في أيدي أشخاص غير مناسبين و لم تُصرف في المسار الصحيح. في حين أنّ الأكابر الحقيقيّين، مثل آية الله العظمى الصافي (رحمه الله)، كانوا من أهل الزهد الحقيقي. عندما كنت أحمل إليه مبلغاً من الحقوق الشرعية، كان يقول: «أعطها بنفسك للطلاب المحتاجين؛ فأنت أعرف مني بمواضع صرفها. لقد كبر سنّي و لا أعلم ما سيحدث في المستقبل».
الطمعُ غیر المتناهي للإنسان:
طبيعةُ الإنسان هكذا، لا يشبعُ أبداً. اليومَ يطلبُ بيتاً و غداً يريدُ سيّارةً و بعدَ غدٍ بيتاً أكبر، ثمّ فيلاً في مدينةٍ أخرى، و بعدها يتمنّى ممتلكاتٍ في الخارج. هذا الحرص و الطمع لا نهايةَ له و كلّما جمعَ أكثر، ازدادَ تعلّقاً.
ربما يقولُ طالبُ علمٍ في البداية: «لو كان لي بيتٌ صغير فقط، لما طلبتُ شيئًا آخر.» و لكن حينَ يحصلُ عليه تبدأُ رغباتُه: «أحتاجُ إلى سيّارة، ثمّ بيتٍ أفضل، ثمّ مكانةٍ أعلى…» و هذا هو التعلّقُ الذي يُزيلُ الزهدَ من القلب.
علامات التعلّق:
حينما يغفل الإنسان عن الحق و الباطل لأجل المال أو المنصب، أو يقول قولاً باطلاً أو يرتكب ظلماً خوفاً من فقدان مكانته، فهذا يعني أنّه تعلّق بالدنيا. إنّ التعلّق بالدنيا يحرم علی الإنسان دينَه و عرضَه و آخرتَه.
يريد الله أن يستغلّ الإنسانُ دنیاه و يستخدمها، و لكن لا أن يكون متعلّقاً بها. إذا كان لديك مال، فأنفقه في سبيل الخير. و إذا كان لديك مكانة، فكن شاكراً و إذا سُلِبَ منك فلا تحزن.
الورع عن المعاصي:
الخصلة الثانية التي أوحى بها الله إلى موسى (عليه السلام) هي الورع عن المعصية؛ أي الابتعاد عن الذنب. الورع يعني ترك كلّ ما يخالف الشرع؛ من الکذب و البهتان و الغیبة و أکل المال الحرام و الظلم للآخرين. إنّ من كان ورعاً، يدقّق حتّى في أصغر الأمور كي لا يعصي الله.
البکاء من خشیة الله:
الخصلةُ الثالثة هي البكاءُ من خشيةِ الله؛ البكاءُ خوفاً من الله و محبّةً له. فالإنسانُ الذي ترسّختْ معرفةُ الله في قلبه يدرك عظمةَ الله و صِغَرَ نفسه، فيفيضُ دمعُه من شدّة المحبّة و الخشية.
البكاءُ علامةٌ على حياةِ القلب و المعرفةِ الحقيقيّة. فمَن كان إيمانه سطحيّاً قد لا يرتكبُ الذنبَ، و لكن لا تفيضُ عيناه دموعاً، لأنّ المعرفةَ لم ترسُخ بعدُ في أعماق قلبه. فإذا أدركَ الإنسانُ عظمةَ الله و محبّتَه، و رأى خطاياهُ أمام تلك العظمة، سالتْ دموعُه. و هذا البكاءُ دليلٌ على حضورِ القلب و عمقِ الإيمان.
نموذج من أهل العشق و الخشية:
كانت والدتي من النساء المجتهدات و أهل التهجد. رأيتها ليلةً تبكي. و هي في سنٍّ تجاوز الثمانين، سألتها: «أمّي، لماذا تبكين؟» فقالت: «كان لدينا ضيف الليلة الماضية، لم أستطع صلاة الليل، و الآن قلبي منقبض و أذرف الدموع». في حين أنها كانت تتلو كلّ ليلة جزأين من القرآن و تصلّي قيام الليل لساعات. لم يكن بكاؤها خوفاً من العذاب، بل من البعد عن لذّة مناجاة الله؛ و هذا هو مقام العشق و الخشية.
جزاء هذه الطوائف الثلاثة:
قال موسى (عليه السلام): يا ربّ، ما هو جزاء الذين يتحلّون بهذه الخصال الثلاث؟ فأجابه الله- تعالى: الزاهدون في الدنيا، منازلهم في الجنّة. و الورِعون عن المعاصي، لا يُحاسَبون يوم القيامة و لا يُفتَّشون. و الباكون من خشيّة الله، تكون منازلهم في الرفيع الأعلى؛ و هي أعلى درجات الجنّة التي لا يشاركهم فيها أحد. أمّا الذين لا يرتكبون الذنوب، فيقول الله تعالى: إنّي أُحاسِبُ الناسَ، و لكنّ الذين يجتنبون المعاصي لا أُفتِّشُهم؛ فإنّي أغفر لهم الخطايا و التفاصيل الدقيقة و لا أُحاسِبُ عليها.
الحاصل:
هذه الصفات الثلاث هي سبل الوصول إلى القرب الإلهي:
الزهد في الدنيا (عدم التعلق بمظاهرها)
الورع عن المعاصي (الابتعاد عن الذنوب)
البكاء من خشية الله (معرفة عظمة الرب و صغر النفس)
إذا سار الإنسان في مسار الزهد و ترك المعصية و استقر الخشية في قلبه، يصل إلى القرب الإلهي، و إذا كانت محبّة أهل البيت (عليهم السلام) في قلبه و بکی علیهم شوقاً و محبّةً، فإنّ ذلك الدمع هو نفسه البكاء من خشية الله الذي يوصله إلى «الرفيع الأعلی».