بحث الفقه الأستاذ محسن الفقیهی

47/05/12

بسم الله الرحمن الرحیم

 

الموضوع: المکاسب المحرّمة/التکسّب بالواجبات /الواجب التخییري الشرعي التوصّلي

 

ملخّص الجلسة السابقة: دار النقاش الفقهي حول رأي المحقّق البجنوردي في مسألة الإجارة على الواجبات.

شروط صحة الإجارة من وجهة نظر المحقّق البجنوردي:

قد صرّح المحقّق البجنوردي في البداية أنّ الإجارة لا تصحّ بذاتها على الواجبات؛ إلا في حالة خاصة: و هي الواجب التخییريّ الشرعيّ التوصّلي، قال: «إنّ الواجب بأقسامها فيما عدا الواجب التخييريّ الشرعيّ التوصّلي- على احتمال - لو كان الواجب هو العمل بالمعنى الاسم المصدري- أي يكون المطلوب منه العمل الصادر، لا جهة إصدار العمل، لأنّ في العمل جهتين: إحداهما نفس الصادر و الثانية جهة إصداره، أي فاعليّة العامل لهذا العمل. و ربما يكون هذا هو المراد من قولهم: جهة انتساب الفعل إلى فاعل مأخوذ في معنى المصدر، بخلاف اسم المصدر- فلا يمكن أخذ الأجرة عليه[1]

و ذکر المحقّق المذکور حول صحّة الإیجار علی مثل هذا الواجب، شروطاً أساسیّةً منها:

۱. کون الواجب تخییریّاً

لا تصحّ الإجارة إلا في الواجبات التخییریّة؛ لأنّ من أركان الإجارة القدرة على الفِعل و الترك. و في الواجب التعییني، لا یجوز الترك للمكلف فشرط القدرة علی الترك مخدوش هنا. و لکن في الواجب التخییريّ یمکن للمکلّف أن یختار أحد الطرفین و یترك الآخر؛ بناءً علیه فالقدرة في کلا الطرفین أي الفعل و الترك موجودة.

کون الواجب توصلیّاً

یجب أن یکون الواجب توصلیّاً لا تعبّدیاً.

إشکال المحقّق البجنوردي واضح؛ لأنّ العمل التعبّدي یکون من سنخ «لله» و لا یجتمع مع أخذ الأجرة. بناءً علیه ففي العبادات المحضة (مثل الصلاة) لا معنی للإجارة.

کون التخییر شرعیّاً

یجب أن یکون التخییر شرعیّاً لا عقلیّاً.

للتخییر الشرعي نماذج منها:

     إطعام ستّین مسکیناً؛

     عتق الرقبة؛

     صوم شهرین متتابعین.

لکن التخییر العقلي الصرف مثل اختیار مکان الصلاة، لا یقع موضوعاً للإجارة علی رأیه.

۴. وجود المنفعة العقلائیّة للمستأجر

من الشروط القطعیّة للإجارة، وجود المنفعة للمستأجر. و یمکن افتراض هذه المنفعة في الواجب التخییريّ التوصّلي.

الحاصل:
إنّ الواجب الوحید الذي یمکن الإجارة علیه بناءً علی مبنی المحقّق البجنوردي، هو الواجب التخییري الشرعي التوصّلي، فالمفهوم المخالف الذي یعتمد علیه المحقّق البجنوردي نفسه، هو:

     الواجب التعبّدي،

     الواجب التعییني،

     التخییري العقلي،

جمیع تلك الموارد خارج عن دائرة صحّة الإجارة.

التمييز بین «الفعل المملوكِ للفرد» و «الفعلِ المملوكِ لله»

يقدّم المحقّق البجنوردي ـ لتوضيح البحث ـ تفريقاً مهمّاً:

الأفعال التي هي مِلْكٌ للفرد

و هي الواجبات النظاميّة أو الكفائيّة، مثل:

• البنّاءة

• الخَبّازة

• الجَزارة

• الطِّبابة

إنّ الله تعالى أراد هذه الأعمال لتنظيم المجتمع، لكنّ قيمة الفعل و محتواه تعود إلى الشخص نفسه.

و في حكم الاحتكار يقول الشارع: بِعْ مالَكَ و خُذِ الثمن؛ فيصحّ أخذُ الأجرة على فعل يكون «مِلْكاً للشخص» و الإجارة في هذه الموارد لا إشكال فيها.

الأفعال التي هي مِلْكٌ لله

كالصلاة.

فهذا الفعل «لله»، و قيمته و حقيقته منسوبة إلى الله-تعالى.

و مثل هذا العمل لا يقبل البيع و لا الإجارة.

و يُوضّح البجنوردي هذا أحياناً بتعبير «المصدر» و «اسم المصدر»:

فالأعمال كالبناءة و الطبابة هي «مصدر» و مِلْكٌ للشخص، أمّا الصلاة فهي «اسم مصدر» و مِلْكٌ لله.

و هذا التفريق هو أساس تحليله؛ فمَن لا يقبله ينهدم عنده مبنى البجنوردي.

الآراءُ المخالِفةُ و النظراتُ المعاصرة

على خلاف ما ذهب إليه المحقّق البجنوردي، نرى أنّ الإجارة في جميع الواجبات- تعبّديّةً كانت أو توصّليّةً- صحيحةٌ ما دام هناك غرضٌ عقلائيٌّ مشروع.

نموذج لهذا الغرض العقلائي:

• منعُ تَركِ الواجب من قِبَلِ كاهلِ الصلاة

• تنظيمُ شؤون الأسرة أو المجتمع

• الإتيانُ بالتكاليف بالنيابة

و قد قَبِل هذا المسارَ فقهاءُ كآيةِ الله المكارم، و آيةِ الله السبحانيّ و آيةِ الله التبريزي و طائفةٌ من الفقهاء.

و هؤلاء يرون عمليّاً أنّ دائرةَ الجواز أوسعُ بكثير.

تفصیل في الصور المختلفة للإجارة (الصور الثلاث)

إذا تناولنا المسألة بصورة سطحية فسوف نقع في الخطأ، لأنّ موضوع الإجارة في الواجبات له عشر صور مختلفة.

و في هذا الموضع سنستعرض ثلاث صور رئيسيّة فقط، و هي كافية لأن تُحدث إشكالاً و تحدّياً لنظريّة السيد البجنوردي.

«إن كان واجبا على المستأجر دون الأجير‌ فان لم يعتبر في عمل المستأجر المباشرة فالظاهر صحّة الإجارة سواء كان تعبديّا أو توصّليا و سواء كان من العيني أو الكفائي و إن كان واجبا على الأجير لا المستأجر‌ ففى هذه لا يجوز الإجارة عليه سواء كان عينيّاً عليه أو كفائيّاً و أمّا لو كان الواجب على الأجير أمراً كفائيّاً فلا يصحّ الإجارة عليه و إن كان واجباً على الأجير و المستأجر‌ هذا الواجب تارةً يكون واجباً عينيّاً على كلّ منهما و أخرى واجباً كفائيّاً عليهما أو تخييريّاً و لو وجب عليهما بنحو الكفائي أو التخييري و هنا إذا لم يعتبر المباشرة على المستأجر فيصحّ الإجارة لتحقّق الأمرين المعتبرين في الإجارة. و أمّا إن اعتبر المباشرة كالصلاة على الميّت أو استأجره لأن يجاهد الأجير لنفسه فلا يصحّ لأجل فقدان الإعتبار الثانى[2] من الإعتبارين[3]

الصورة الأولی: الوجوب علی المستأجر لا الأجیر

العمل واجب على المستأجِر و ليس واجباً على الأجير.

و في هذا الفرض، إذا كانت المباشرة شرطاً، فلا يجوز للمستأجِر أن يستأجر غيره.

أما إذا لم تكن المباشرة شرطاً، فظاهر الحال أنّ الإجارة صحيحة، و لا يختلف الحكم سواء كان العمل تعبدياً أو توصلياً.

مثال: يجب على الابن الأكبر قضاء صلوات والده، لكنّه إذا كان غير قادر على أدائها، جاز له أن يستأجر من يقضيها عنه.

الصورة الثانیة: الوجوب علی الأجیر لا المستأجر

العمل یجب علی الأجیر لا المستأجر (الذي استأجر شخصاً آخر)؛ نحو: الصلوات الیومیّة الواجبة علی الأجیر نفسه.

هنا، يذهب البعض إلى بطلان الإجارة بالاستدلال التالي:

    1. لأنّ الأجير لا يملك القدرة الشرعيّة على الترك (بينما القدرة التكوينيّة لا أثر لها هنا).

    2. و لأن المستأجِر لا ینتفع من قيام الأجير بصلاة المتوفّى.

إنّ إشكالنا على هذا الاستدلال هو أنّ جعل القدرة التشريعية و القدرة التكوينية واحدةً، هو استدلال ضعیف، بل يكفي مجرّد امتلاكه للقدرة التكوينيّة على عدم الإتيان بالعمل؛ فالعرف يرى أنّ من يمتلك القدرة الجسدية و العملية قابل للإتيان بالعمل أو تركه، حتى لو كان الشارع قد نهى عن تركه.

الصورة الثالثة: الوجوب علی کلیهما

العمل واجب على الأجير و واجب على المستأجِر أيضاً.

مثال: صلاة الظهر، التي تجب على كليهما، حيث يستأجر المستأجر الأجير ليصلّي عنه صلاته هو.

هذه الصورة تنقسم بدورها إلى أقسام (مثل: الوجوب العيني، الوجوب الكفائي، و الوجوب التخييري)، و لكلّ قسم حكمه الخاص الذي سيتمّ بحثه في الجلسة القادمة.

 


[1] القواعد الفقهية، الموسوي البجنوردى، السيد حسن، ج2، ص159.
[2] امکان واگذاری کار به دیگری در اجاره.
[3] تحليل الكلام في فقه الإسلام: ص232-234.