47/05/27
الموضوع: الأصول العملية/ قاعدة لا ضرر/
اعترض على الوجه الثالث باعتراضات:
الاعتراض الأول: إنَّ الظهورات الأخرى غير السابع ليست كلها وضعية حتى تتقدم على السابع الإطلاقي، فإنَّ بعضها ظهور اطلاقي أيضاً فكيف نُقدم هذا على ذاك؟!
وجوابه: أنَّ مراده من الظهور الوضعي هو كل ظهور لا يكون ثابتاً بمقدمات الحكمة، من قبيل أصالة عدم التقدير ونحوها بحيث توجب انعقاد الظهور على طبقها، وعليه فالظهورات الأخرى الستة هي ظهورات وضعية بهذا المعنى، ولا يوجد فيها ظهور يستند الى مقدمات الحكمة.
الاعتراض الثاني: أنَّ القرينة التي اعتمد عليها - أي أنَّ النبي (ص) مشرع ومقنن، وظاهر حاله أنه ينفي الضرر بما هو شارع، وهو لا ينسجم مع نفي الضرر على الاطلاق، وإنما مع الضرر الناشئ من الحكم الشرعي - نسبتها الى الظهورات المذكورة على حد واحد، لا أنها تُعيِّن أن يكون المراد من الضرر المنفي هو الوجود الحقيقي منه مع تقييده بالناشئ من الحكم الشرعي، لأنَّ هذه القرينة لا تقتضي أكثر من أنَّ المتكلم ليس ناظراً الى الأضرار التكوينية، وأنَّ هذا لا يناسبه، فلا محالة يكون ناظراً الى عالم التشريع، وحينئذٍ إن لم ندعي أنَّ هذا يجعل كلامه ناظراً الى عالم التشريع أو أنَّ المراد من الضرر هو منشؤه الشرعي فلا إشكال في أنَّ إرادة ذلك ليست بأقل من إرادة الوجود الخارجي للضرر المقيد، بل لعل هذا المعنى لا يخلو من ركاكة تنشأ من اطلاق الضرر وإرادة قسم منه.
ويلاحظ عليه: بأنَّ ما يثبت بهذه القرينة وإن كان لا يزيد ما ذُكر، لكن السيد الشهيد يدعي أنَّ الاحتمال الذي يختاره ليس فيه إلا مخالفة اطلاق الضرر، في حين أنَّ الاحتمال الآخر فيه مخالفة لظهور وضعي بالمعنى السابق، إذ يتعين أن يكون المنفي هو الحكم الضرري إما بإرادة الحكم مجازاً من الضرر، أو بتقدير الحكم الضرري، أو بأن يراد بالضرر الحكم بعلاقة السببية والمسببية، وهذه كلها مخالفات لظهورات وضعية فتكون مخالفة الظهور الإطلاقي أولى.
الاعتراض الثالث: أنَّ بعض هذه الظهورات ليست بأقوى من الظهور الإطلاقي في الضرر حتى يتعين هذا الظهور للسقوط، مثلاً الاحتمال الثالث بتقريب استعمال الضرر مجازاً في الحكم من باب التجوز في الكلمة، أو التجوز في الارادة يصح فيه ما ذكره فيقال: إنَّ ظهور الجملة في عدم هذا التجوز أقوى من الظهور الإطلاقي فيتعين للسقوط، وأما على التقريب القائل أنَّ هذا من باب الكنايات بمعنى أنَّ نفي الضرر في الجملة كناية عن نفي سببه ومقتضيه فيكون نفي السبب والحكم هو المقصود الأصلي الجدي، وهذا المعنى وإن كان خلاف الظاهر لأنَّ الظهور الأولي للجملة هو تطابق المراد الاستعمالي مع المراد الجدي التفهيمي، ولكن تعارَف مثل ذلك حتى قيل أنَّ أغلب كلام العرب كنايات فيقال: لا خطر عليك، والمقصود نفي سببه ونحو ذلك، وحينئذٍ لا يكون واضحاً أنَّ مثل هذا الظهور في التطابق أقوى من الظهور الإطلاقي، إذ يحتمل أن يبقى الضرر على اطلاقه ويسقط الظهور في التطابق فيتم الاحتمال الثالث.
والحاصل: أنَّ الأمر حينئذٍ يدور بين تقييد الضرر المنفي بخصوص ما كان ناشئاً من الشريعة وبين ابقائه على اطلاقه مع كون المراد الجدي والأصلي من نفي الضرر هو نفي الحكم الضرري، والأول ليس أولى من الثاني.
الوجه الرابع: ما ذكره السيد الخميني قده وحاصله:
أنَّ مفاد الحديث هو النهي، لكنه ليس نهياً إلهياً شرعياً، بل هو نهي سلطاني يصدر من الرسول (ص) بما أنه سلطان الملة ورئيس العباد وسائسهم لا بما هو مبلغ للأحكام الشرعية.
وذكر في مقام بيانه أنَّ للرسول (ص) مقامات: منها مقام النبوة والرسالة، ويقتضي أن يكون مبلغاً للأحكام الشرعية الإلهية، ومنها مقام السلطنة والرئاسة وسياسة العباد، ومنها مقام القضاء وفصل الخصومات وحل النزاعات، ثم ذكر أنَّ كل ما ورد عنه بلفظ (قضى) أو (حكمَ) أو (أمَرَ) بكذا فليس المراد به هو الحكم الشرعي، بل هو ظاهر في أنه قضى أو حكمَ أو أمرَ بما هو سلطان أو بما هو قاضٍ، نعم قد يُعبَّر بغير هذه الألفاظ في مقام الأوامر الصادرة منه بما هو سلطان وحاكم أو قاضي فيقال: (قال رسول الله...) لكن قرينة الحال والمقام في بعض الأحوال تقتضي حمل الأمر الصادر منه بما هو سلطان أو بما هو قاضي، لا بما هو مبلغ للأحكام الشرعية.
ثم ذكر أنَّ حديث (لا ضرر) يمثل حكماً سلطانياً صادراً من الرسول (ص) باعتبار الرئاسة العامة الثابتة له، واستدل عليه بأمور:
أولاً: أنه ورد حكاية هذا الحديث في بعض روايات العامة بلفظ (قضى) ولفظ القضاء ظاهر في كون المقضي به من أحكامه إما بما هو قاضي وإما بما هو حاكم أو بما هو ولي على الأمة، لا بما هو مبلغ عن الحكم الشرعي، وحيث أنَّ المجعول حكم كلي لا يرتبط بالقضاء بين الناس وحل خصوماتهم فينحصر أن يكون حكماً سلطانياً من جهة ولايته العامة.
ثانياً: أنَّ الحديث ورد من طرقنا في ذيل قضية سمرة بن جندب، وهو لا ينسجم مع كون الحكم المذكور حكماً إلهياً أو قضائياً، فيتعين أن يكون حكماً ولائياً.
أما أنه لا ينسجم مع كونه حكماً إلهياً فلعدم وجود شبهة حكمية أو موضوعية في قضية سمرة بن جندب حتى يكون بياناً لحكم الله سبحانه وتعالى وأنه نهى عن الضرر.