الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/25

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مقدّمة الواجب

وَرَدَ في الشرع بعضُ التعابـير التي يَظهر منها بوضوح إرادةُ بـيانِ بطلانِ المعاملة ، فهذه خارجة من بحثـنا ، وذلك من قبـيل ما ورد في الأخبار من أنّ أجرة الزانية سحتٌ وأجرة المغنيّة سحت وثمن الخمر سحت وثمن الميتة سحت وكذا ثمن النبـيذ والمسكر والربا بعد البـيِّنَة وأجْرُ الكاهنِ وما أصيب من أعمال الولاة الظلمة ومنها أجور القضاة العاملين عند السلطان الجائر[1] فهذا يعني بوضوحٍ بطلانَ المعاملة ، لأنّ كونه سُحْتاً يَكشِفُ عن أنّ الطرف الآخر لم يتملّكِ الثَّمَنَ ، لذلك كان سُحْتاً ، وكذا وَرَدَ أنّ بعض الأشخاص محجور عليهم لبعض أسباب كالسفه والصغر ، فهذا أيضاً يعني بوضوحٍ بطلانَ معاملاتهم ، وإلاّ لم يكن للحجْرِ معنى ، لاحِظْ مثلاً روايةَ حمران عن الإمام الباقر(عليه السلام) ( والغلامُ لا يجوز أمْرُه في الشراء والبـيع ولا يخرج عن اليتم حتى يـبلغ خمس عشرة سنة ... )[2] فإنه ظاهر في بطلان المعاملة وعدمِ جواز القبض والإقباض والتسليم والتسلم كما لا يخفى.

[ مقدّمَـةُ الواجب ]

البحثُ في هذه المسألة هو في وجوب المقدّمة الخارجيّة للواجب شرعاً ،

التي يتوقّفُ عليها الواجب ، وفي ترتّب الثواب والعقاب عليها ،

كالسير الى الحجّ الذي يتوقّف عليه الإتيانُ بالحجّ ،

أمّا وجوبُها العقليُّ فأمْرٌ مسَلَّمٌ بلا شكّ ولا خلاف .

وفيها أبحاث أخرى فنقول :

هذه المسألةُ أصوليّةٌ :

جَعَلَ العلماءُ هذه المسألةَ في علم الأصول وليس في علم الفقه لأنه ـ على القول بالوجوب الشرعي للمقدّمة عن طريق الملازمة العقليّة ـ يُستـنبَطُ من وجوب الشيء وجوبُ مقدّمته شرعاً كقاعدة عامّة ، فلهذا الإحتمال ـ أي لاحتمال استـنباط حكم شرعي كلّيّ بواسطة الملازمة العقليّة ـ قال العلماء بأنّ مسألة مقدّمة الواجب هي مسألة أصوليّة وليست قاعدةً فقهيّة ، لأنها لو كانـت قاعدة فقهيّة لكان استـفادة الوجوب الشرعي للمقدّمة من طريق التطبـيق ـ لا من باب الإستـنباط ـ وذلك كما يطبّقُ العامّيُّ قاعدةَ الطهارة الفقهيّة في الموضوعات ، التي استـنبطها الفقيهُ في مرحلة سابقة ، وكما يطبّق العامّيُّ قاعدةَ الإستصحاب الفقهيّة في الموضوعات أيضاً ، التي استـنبطها الفقيهُ في مرحلةٍ سابقة ، فيعتبر الشيءَ الفلاني نجساً لكون حالتِه السابقة النجاسةَ ، وأنـت تعلم أنّ مناط كونِ المسألة أصوليّةً ـ كما قلنا في تعريف عِلم الأصول ـ هو أن تكون واسطةً قريـبةً في عملية استـنباط الحكم الشرعي ، تُستـنبَطُ بواسطتها الأحكامُ الشرعيّة ، سواء كانـت صغرى في قياس الإستـنباط ـ من قبـيل قولهم (الجملة الشرطيّة تدلّ على المفهوم) ـ أو كبرَى ـ من قبـيل قولِهم (مقدّمة الواجب واجبةٌ شرعاً) ـ ، وبحْـثُـنا في هذه المسألة هو عن وجود ملازمة عقليّة بـين وجوب الشيء شرعاً ووجوب مقدّمته شرعاً ، فإذا أثبتـناها نستطيع أن نستـنبط بواسطتها حكماً شرعياً وقاعدةً فقهيّة .

كما أنه لا يصحّ القولُ بأنّ هذه المسألةَ فـقهيّةٌ ، وذلك لأنّ مناط كون المسألةِ فقهيّةً هو كون البحث عن حكم الشيء بحثاً فقهيّاً أي مِن خلال الآيات والروايات والإجماعات ونحو ذلك ، فنَـنْظُر إلى الآيات والروايات والإجماعات والسيرة ونحو ذلك ، كما نبحث في الفقه عن حكم السورة بعد الفاتحة ، هل هو الوجوب أم الإستحباب مثلاً ، وبحْـثُـنا في مسألة (مقدّمة الواجب) بعيدٌ عن طريقة البحث الفقهي ، فنحن لا نبحث ـ في مسألة (مقدّمة الواجب) ـ عن حُكْمِ مقدّمة الواجب من الجنبة المذكورة أصلاً ، وإنما نبحث فيها بحثاً عقلياً كلّياً ، أي نبحث عن وجود ملازمة عقليّة بـين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته شرعاً ، ومع غضّ النظرِ عن نفس الواجب ، فقد يكون الصلاةَ ، وقد يكون الحجّ ، وقد يكون الصيامَ ، وقد يكون غيرَ ذلك . لذلك كان من الخطأ أن نُعَنْوِنَ البحثَ بعنوان (هل مقدّمة الواجب واجبةٌ شرعاً ؟ ) فإنّ هذه العبارةَ تُوهمُ أنّ البحث فقهيّ ، وقد عَلِمْتَ أنّ البحث في مسألة مقدّمة الواجب هو عن وجود ملازمة عقلية أوّلاً ، وثانياً : المسألةُ فيها كُلّـيّـة . نعم ، البحثُ الأصولي يَصبّ أخيراً لصالح الفقه لأنه يُثْبِتُ الوجوبَ الشرعي للمقدّمة الفلانيّة أو يَنفيه ، لكنْ مع ذلك مسألةُ مقدّمة الواجب هي أصوليّة بلحاظ أصل البحث وكيفيّته حتى وإنِ اتّحدتِ النـتيجة .

 

هذه المسألةُ عقليّةٌ لا لفظيّة

تساءل بعضُ الناسِ عن حُكْمِ مقدّمة الواجب شرعاً فقالوا : هل يَدِلّ الأمْرُ بشيءٍ على الوجوب الشرعي لمقدّمته أم لا ؟ لذلك جعلوا هذا البحثَ في مباحث الألفاظ ، والصحيح أن يُجعل في المباحث العقليّة ، وذلك لوضوح عدم دلالة الأمْرِ على الوجوب الشرعي لمقدّمته ، وإنما يدلّ الأمْرُ على طلب الطبـيعة ، ولا يَنظُرُ إلى الوجوب الشرعي لمقدّمته ، وإنما قلنا إنّ الصحيح هو جعْلُه في المباحث العقليّة لأنّ السؤال في هذه المسألة ـ كما سترى من أدلّة القوم ـ هو : هل الأمْرُ بشيءٍ يستلزم عقلاً الأمرَ الشرعي بمقدّماته أم لا ؟ طبعاً بعد التسليم عند كلّ الناس بوجوب المقدّمة عقلاً ، فإذا أوجب المولى الحجَّ فقد وجب السير إليه عقلاً ، لكن ـ كما قلنا ـ ليس كلام أحد في الوجوب العقلي ، وإنما هو في وجوب المقدّمة شرعاً .

وبتعبـير آخر : حينما أوجب اللهُ تعالى الحجَّ هل قال في عالَم الجعْلِ (ويجب السيرُ إليه أيضاً ) ؟ قطعاً لا ، لأنه لغْوٌ محض ، وإذا سألتَ النبـيَّ عن وجوب السير إليه لأجابك النبـيُّ : قطعاً يجب السير إلى الحج ، وإلاّ فكيف تحجُّ إن لم تذهب إليه ؟! ولذلك قيل : إنَّ وجوبَ المقدّمة تبعي لوجوب ذيها ، بمعنى أنّ وجوبَها معلولٌ لوجوب ذيها ، ومعلول الوجوب الشرعي هو شرعي !!

فأقول : ما استـُنـتِجَ غيرُ صحيح ، فإنه لا يمكن أن يُنـتِجَ الوجوبُ الشرعيُّ للحجّ ـ مثلاً ـ وجوباً شرعيّاً للسير إليه ، وإلاّ لكان الوجوب الشرعيّ للسير قَهْرِيّاً على المولى تعالى ، وهذا لا يمكن ، لأنّ الله تعالى يشرّع باختياره ، لا بالقهر . نعم لا شكّ في حكم العقل بلزوم الإتيان بالسير لتوقّف الواجب عليه ، وبهذا ينبغي أن يفسَّرَ الوجوبُ التبعي للواجب ، إذن وجوبُ المقدّمة عقليّ ، ولا يمكن ـ ثبوتاً ـ أن يكون شرعيّاً ، لأنه سوف يكون لغواً محضاً أو قهْرِيّاً على المولى تعالى ، وكلاهما غير ممكنَين .

فإن قلتَ : بل يجب أن يكون واجباً شرعاً ، وذلك لوجوب وجود ملازَمة بـين حكم العقل وحكم الشرع ، بدليل أنّ العقل حجّة مِنَ الله لنا وعلينا ، واللهُ جلّ وعلا عاقلٌ ، بل هو رئيس العقلاء ، ولذلك إذا كان أمرٌ معيّن ثابتاً عقلاً فيجب أن يكون ثابتاً شرعاً أيضاً ؟! ثم كيف تـقول : إنه لغوٌ بذريعة أنه لا بدّ منه ؟! إذن قُلْ : إنّ نصف الأحكام الشرعيّة لغو أيضاً لأنها واضحة جداً عند العقلاء ولا بدّ منها ! من قبـيل وجوب العدل وحرمة السرقة والخيانة وشرب الخمر ... !! مثال آخر : لو فرضنا أنّ قاعدة الإستصحاب ـ التي هي الأساس الشرعي لقاعدة الإشتغال ـ غير مشرّعة ، وقلنا بأنّ العقل يحكم بأصالة الإشتغال ـ كما هو مسَلّم ـ ألا نقول : يجب أن تكون أصالة الإشتغال شرعيّة أيضاً ؟ على أنّ الجعولات الشرعيّة ليست إلاّ معلومات في علم الله سبحانه وتعالى ، فأيّ لغوٍ إذا قلنا بأنّ أصالة الإشتغال شرعيّةٌ أيضاً ؟! مع أنه لا تَكَلُّفَ في وجود معلومات في عِلْمِ الله سبحانه ولا تجشّمَ عناءٍ في تشريع حُكْمٍ ما ، فليكن الأمرُ كذلك في مقدّمة الواجب .

قلنا : ما ذُكِرَ جيدٌ ، إلاّ في الفرق بـين أصالة الإشتغال وبـين مقدّمة الواجب ، ففي أصالة الإشتغالِ المصلحةُ في نفس تشريع أصالة الإشتغال موجودةٌ قطعاً ، كما نقول المصلحة موجودة في نفس تشريع الإستصحاب والحِلّ والبراءة ، فيجب أن تكون أصالة الإشتغالِ مشرّعةً أيضاً في اللوح المحفوظ ، أمّا في مقدّمة الواجب فلا مصلحة في تشريعها بحدّ ذاتها وذلك لعدم محبوبـيتها بحدّ ذاتها ، فكيف يُوجِبُها اللهُ جلّ وعلا بنفسها وهي ـ من حيث هي مقدّمة ـ غير مطلوبة في نفسها ؟!

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، أبواب ما يُكتسب به، ب5، ح1، ص61 و ح8، ص63 و ح12، ص64، ط الاسلامية، وما بعد.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص30، أبواب مقدّمة العبادات، ب4، ح2، ط الاسلامية.