الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

المراد بالمعاملة هنا هو ما يقابل العبادة ، أي ما يشمل العقود والإيقاعات وغيرها ، والسؤالُ هنا هو : هل يقتضي النهيُ عن المعاملة بطلانَها أم لا ؟ الجواب : نعم .

بـيانُ ذلك :

قد تـتعلّق الحرمةُ بالسبب ـ كالنهي عن الظهار ـ وقد تـتعلّق بالمسبَّب أي النـتيجة ـ كالمعاملة على الزنا والقمار وكبـيع ما لا يجوز الإنـتفاعُ به بوجه من الوجوه كالخمر ـ .

فإنْ تعلَّق النهيُ بالسبب لمبغوضيّة نفس السبب ذاتاً ، كما في النهيِ عن الظهار[1] ، فإنه ـ أي المظاهَرة ـ حرام بلا شكّ ولا خلاف ، لتصريح الآية بذلك ، ولكن لا تتحقّق المظاهَرَةُ ـ كنـتيجة ـ لتصريح الآية بأنهنَّ لَسْنَ أمهاتِهم ، وذلك كما في بـيع الميتة ولحم الكلاب والخنازير ، فكما لا يتحقّق البـيعُ في الميتة ونحوها ، لا تتحقّق المظاهَرَة والإنفصالُ . وما ورد من عقوبة وكفّارةٍ قبل المماسّة إنما هو عقوبة على نفس السبب ـ أي على نفس المظاهَرَة ـ .

مثالٌ آخر : رَوَى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبـيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أُذَينَة (ثقة له كتاب) عن زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام) قال : سألته عن مملوك تزوَّجَ بغير إذن سَيِّده ؟ فقال : ( ذاك إلى سَـيِّدِه ، إن شاء أجازه وإن شاء فرَّقَ بـينهما ) ، قلت : أصلحك الله ، إنّ الحكم بنَ عُيَـينَة وإبراهيمَ النخعي وأصحابَهما يقولون : إن أصل النكاح فاسد ، ولا تحل إجازةُ السيد له ! فقال أبو جعفر) عليه السلام) : ( إنه لم يَعْصِ اللهَ ، وإنما عَصَى سيِّدَه ، فإذا أجازه فهو له جايز ) ، ورواها الصدوق بإسناده عن ابن بكير عن زرارة مثله [2] ، فهذه الرواية تقول بأنّ مقتضي الصحّة موجودٌ ( فإن شاء سيّدُه أجازه ، وإن شاء فرَّقَ بـينهما ) ، فهو لم يتدخّل في سلطان الله تعالى وشريعته ، وإنما عَصَى مولاه في سلطانه الوهمي . نعم ، لو عصَى اللهَ تعالى مباشرةً ـ كما في المعاملات الربويّة والمعاملة على الغناء الآتية بعد قليل ـ كانـت المعاملةُ باطلةً .

فإن قلتَ : إنّ مجرّد العقد ـ الذي هو مجرّد تحريك اللسان لا أكثر ـ لا ينبغي أن يكون منهيّاً عنه عقلاً ولا عقلائيّاً ، فإنه كالدعاء والتكلّم مع الأصدقاء والجيران .

قلتُ : ليس النهيُ ناظراً إلى مجرّد تحريك اللسان ، وإنما النهي ناظر إلى نـتيجة ذلك ، وهو ما يترتّب على عقد الزواج من التزامات شرعيّة ، فالنهيُ هنا عن السبب هو لما يترتّب على ذلك من نـتائج ، وهي ما سوف يترتّب على الزواج من مزاحِمات لحقوق المولى ، لذلك كان للمولى ولكافّة العقلاء أن يُدِينوا هذا العبدَ الذي أقدم على الزواج من دون إذن مولاه ، لأنّ تصرّفه هذا يُعَدُّ معصيةً عند الناس لأنه تصرَّفَ في سلطان مولاه وفي مالِه بنظر العرف ، ولا يُدِينوه إذا دعا اللهَ تعالى وتكلّم مع جيرانه وأصدقائه ، لذلك ينبغي أن يكون عقدُ زواجِه منهيّاً عنه عقلاً أو على الأقلّ عقلائيّاً ، ولذلك ليس للعبد أن يتصرّف بنفسه هكذا تصرّفاتٍ خطيرةً من دون إذن مالكه ، لذلك نـتـمسّك بالرواية فنقول بحرمة أن يتصرّف العبد بنفسه هكذا تصرّف . ولكن رغم النهي الشرعي عن العقد فإنّ العقد صحيح شرعاً .

والمرادُ من المعصية هنا في قوله) عليه السلام) ( إنه لم يَعْصِ اللهَ ) هو المعصية الوضْعيّة ، أي هو لم يَعْقِدْ على ذي مَحْرَم أو في العِدَّة من الغَير ، كما مثّل الإمامُ) عليه السلام) بذلك في الرواية التالية ، ففي الكافي أيضاً عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد (بن خالد أو ابن عيسى) عن علي بن الحكم (ثقة جليل القدر) عن موسى بن بكر (واقفيّ يمكن توثيقُه لرواية ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى والبزنطي عنه) عن زرارة عن أبي جعفر) عليه السلام) قال : سألتُه عن رجل تزوج عبدُه امرأةً بغير إذنه فدخل بها ثم اطلع على ذلك مولاه ؟ قال : ) ذاك لمولاه إن شاء فرَّقَ بـينهما ، وإن شاء أجاز نكاحهما ، فإنْ فرَّقَ بـينهما فللمرأة ما أصدقها ، إلا أن يكون اعتدَى فأصدقها صداقاً كثيراً ، وإن أجاز نكاحه فهُما على نكاحهما الأول ( ، فقلت لأبي جعفر) عليه السلام) : فإنّ أصل النكاحِ كان عاصياً ؟! فقال أبو جعفر) عليه السلام) : ( إنما أتَى شيئاً حلالاً وليس بعاصٍ لله ، إنما عَصَى سيِّدَه ولم يَعْصِ اللهَ ، إنَّ ذلك ليس كإتيان ما حرَّمَ اللهُ عليه من نكاح في عِدَّةٍ وأشباهِه )[3] مصحّحة السند ، وهي نفس الرواية السابقة ، لكنّـنا نلاحظُ زرارةَ في هذا النصّ يَنسِبُ الملازمةَ بين المعصية والبطلان إلى نفسه ، بخلاف النصّ السابق حيث نَسَبَ الملازمةَ إلى الحكم بن عُيَـينَة وابراهيم النخعي وأصحابِهما !! على كلّ ، فالإمامُ) عليه السلام) لم يَقُلْ هو زانٍ ، وإنما قال بأنّ نكاحه صحيح ، إلاّ أنّ للسيّد أن يفرّق بـينهما . وبتعبـيرٍ آخر ، الإمامُ يَرُدّ على العامّة بادّعائهم الملازمةَ بين مطلق النهي عن المعاملة وبين فسادها ، فقال) عليه السلام) (هو عصيان تكليفي وليس عصياناً وضْعِياً ، ولذلك فهو ليس بباطل ، نعم لو كان عصياناً وضعيّاً لكان باطلاً) .

وعمومُ التعليل في ذيل الرواية ـ وهو قوله ( إنما أتَى شيئاً حلالاً وليس بعاصٍ لله ، إنما عَصَى سيِّدَه ولم يَعْصِ اللهَ ، إنَّ ذلك ليس كإتيان ما حرَّمَ اللهُ عليه من نكاح في عدة وأشباهه ) ـ يَدِلُّ بوضوح على عموم الحكم ، في العقد وغيره .

فالنـتيجةُ على ضوء هتين الروايتين أنّ النهي الوضعي ـ وهو العقد في العِدّة وأشباه ذلك ـ يَدِل على فساد المعاملةِ جزماً ، وهذا أمْرٌ لا شكّ فيه عند الجميع ، وأمّا النهيُ التكليفي ـ وهو نهْيُ اللهِ تعالى أن يعصِيَ مولاه ـ فلا يقتضي بطلانَ المعاملةِ ، أي لا يستلزم فسادَها .

ثم إننا لم نُدخِلْ هذا المثالَ في النهي عن المسبّب لأنّ المسبّب ـ أي النـتيجة وهي العُلْقَة الزوجيّة ـ ليست مبغوضةً في نفسها ، إنما التصرّف بنفسه بإيقاع العلقة الزوجيّة بما يترتّب على ذلك من لوازم ، من دون إذن مولاه ، هو المبغوض ، فالمشكلةُ عرَضيّة لا ذاتيّة ، لذلك كان النكاح صحيحاً شرعاً ، وإن كان يمكن فسْخُه من مولاه .

وقد تقول إنّ لنا أنْ ندّعيَ صحّةَ المعاملات المنهيّ عنها ، وذلك بتقريب أنّ النهي عن المعاملة لو كان إرشاداً إلى بطلانها لما صحّ النهيُ ، وإنما وجب القولُ بـبطلانها فقط ، دون النهي ، فأنـت لا يصحّ لك أن تـنهَى عن قتْلِ الغول ، وذلك لعدم وجوده ، ولا يصحّ لك أن تـنهَى عن المشي في الهواء ، لعدم القدرة ، وكذا ما نحن فيه تماماً ، فالنهيُ لا يصحّ إلاّ إذا كان كاشفاً عن ترتّب أثر الظهار وأثر عقد العبد ، وإلاّ وجب أن يقول الإمام بأنهما باطلان ، فقط .

فأقول : يمكن الإجابةُ على ذلك باحتمال أن يكون النهي إرشاداً إلى بطلان المعاملة ، لا أن يكون النهيُ تكليفياً ، فإذا قال المولى مثلاً (لا تشترِ الخمرَ والـمَيتةَ ولا تبعْهما) فقد يكون المراد منه بطلانَ المعاملة .

فإنْ قلتَ : قد يتعلّق النهيُ عن المعاملة وتكون المعاملةُ صحيحةً ، كما في البَـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، فكيف تدّعي بطلانَ المعاملة مطلقاً إذا نُهِيَ عنها ؟!

قلتُ : النهيُ عن البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ليس نهياً عن ذات البـيع ، إنما هو نهيٌ غيري ، بمعنى أنه مقدّمةٌ لفعلِ شيءٍ آخر ، أي لا لمبغوضيّة نفس هذه المعاملة ، فهذا النهي نهيٌ تزاحمي ، أي ليس نفس البـيع مبغوضاً عند المولى جلّ وعلا ، وإنما هذا النهي إرشادٌ إلى وجوب الذهاب للصلاة فقط ، فالصلاة لكونها محبوبةً نهَى المولى عزّ وجلّ عن البـيع ، وذلك بدليل أنه لولا النداءُ لصلاة الجمعة لما كان هناك نهي عن البـيع ، فليس نفسُ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة مبغوضاً كشرب الخمر وأكل الميتة ، ولذلك لا أظنّ أنه يوجد فقيهٌ يُفتي ببطلان البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، ولذلك لا داعي للإستدلال على صحّة البـيع ـ بعد وضوح عدم وجود نهي ذاتي عن البـيع ـ بقوله تعالى ( اَوْفُوا بالعُقُودِ )[4] .


[1] قال الله تعالى ( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَـتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) ) سورة المجادلة . وقد فَهِمْنا الحرمةَ من قوله تعالى(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً ) فإنه لا شكّ في تحريم المنكر من القول والزور ـ حتى وإن اُلحِق بالعفو في قوله (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) وذلك لاحتمال أن يكون العفوُ مقيّداً ببعض شرائط كالتكفير والتوبة ـ إضافةً إلى الروايات المحرّمة له .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص523، أبواب نكاح العبـيد والإماء، ب24، ح1، ط الاسلامية.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج14، ص523، أبواب نكاح العبـيد والإماء، ب24، ح2، ط الاسلامية.
[4] المائدة/السورة5، الآية1.