الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل النهي الكراهتي يقتضي فساد العمل ؟

وورد عن بعض العبادات أنها مكروهة ، ومن المعلوم والواضح عند الكلّ أنّ النهي الكراهتي فيها إنما هو إرشادٌ إلى أمْرٍ ما ، وإلاّ فلن تكون عبادة . مثلاً : ورد في مكروهات الوضوء كراهةُ الإستعانة بالغَير في المقدمات القريـبة ـ كأنْ يَصُبَّ شخصٌ الماءَ في يد المتوضّئ ـ وكراهةُ الوضوء من الآنية المفضضة أو المذهبة أو المنقوشة بالتماثيل والتوضّي من الماء الآجِن الطاهر ـ أي المتغيّر لونُه وطعمه بغير النجاسات ، كالذي يَلِـغُ فيه الحيواناتُ ـ وذلك للرواية وللتـنزّه عن الماء الحاوي على الحشرات والجراثيم ، ولنفس السبـب يُكره استعمال ماء البئر قبل نزح المقدَّرات ، وذلك للروايات وتوقّياً عن الجراثيم ، ويُكره التوضّي بالماءِ القليل الذي ماتـت فيه الحية أو العقرب أو الوزغ والفأر والفرس والبغل والحمار وآكل الميتة ، بل كل حيوان لا يؤكل لحمه ، ويكره التوضّي بماء مظنون النجاسة ، كما لو كانـت الحائض مستهترةً بالطهارة ، فإنه يكره أن يُتوضّأ من الماء الذي لامَسَتْه ... كلّ هذا بمعنى الإرشاد إلى استحباب شدّة خلوص النيّة في الوضوء أو الإرشاد إلى التـنـزّه عن الترف والرفاهية أو بمعنى الإرشاد إلى التوقّي من الجراثيم .

إقتضاء الحرمة لبطلان المعاملة

المراد بالمعاملة هنا هو ما يقابل العبادة ، أي ما يشمل العقود والإيقاعات وغيرها ، فنقول :

قد تـتعلّق الحرمةُ بالسبب ـ كالنهي عن الظهار ـ وقد تـتعلّق بالمسبَّب أي النـتيجة ـ كالمعاملة على الزنا والقمار وكبـيع ما لا يجوز الإنـتفاع به بوجه من الوجوه كالخمر ـ .

فإنْ تعلَّق النهيُ بالسبب فالمعروف بين الاُصوليين صحّةُ المعاملة ، إذ لا منافاة بين النهي عن السبب وصحّة نفس المعاملة ، وهذا على نحوين : فإمّا أن يتعلّق النهيُ بالمعاملة مقدّمةً لفعلِ شيءٍ آخر ، أي لا لمبغوضيّة نفس هذه المعاملة، وذلك كما ورد النهيُ عن البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، فهذا النهي نهيٌ تزاحمي ، أي ليس نفس البـيع مبغوضاً عند المولى جلّ وعلا ، وإنما هذا النهي هو إرشاد إلى لزوم الذهاب للصلاة فقط ، فالصلاة لكونها محبوبةً نهَى المولى عزّ وجلّ عن البـيع ، لا أنّ نفس البـيع مبغوضٌ ، وذلك بدليل أنه لولا النداءُ لصلاة الجمعة لما كان هناك نهي عن البـيع ، فليس نفس البـيع عند النداء لصلاة الجمعة مبغوضاً كشرب الخمر وأكل الميتة ، ولذلك لا أظنّ أنه يوجد فقيهٌ يُفتي ببطلان البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، ولذلك لا داعي للإستدلال على ذلك ـ بعد وضوح الأمر ـ بقوله تعالى ( اَوْفُوا بالعُقُودِ ) .

وإمّا أن يتعلّق النهيُ بنفس المعاملة لمبغوضيّة نفس السبب ذاتاً ، كما في النهيِ عن الظهار ، فإنه صحيح بلا شكّ ولا خلاف رغم النهي عنه لمبغوضيّة نفس المظاهَرة ، ولا مانع من اجتماع هذا النوع من النهي مع التعبّد بصحته ، بمعنى أنه تـترتّب آثارُ الظهار رغم النهي عنه[1] ، والظاهر أنّ السبب في تشريع صحّة المظاهَرة هو عقابُ المظاهِر على فِعْلته وأنّ السبب في التعبّد بـبقاء العُلقة الزوجيّة هو مبغوضيّة الإنفصال . المهمّ هو أنّ الفرق بين تحريم المعاملة على الخمر وتحريم الظهار هو أنّ في انـتقال الخمر بين الناس مبغوضيّةً ، لذلك لن يشرّعه الله تعالى ، وأمّا في الظهار فالأمرُ بالعكس تماماً ، فإنّ في التعبّد بحصول الظهار الدائم مبغوضيّةً تامّة .

 


[1] قال الله تعالى( الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ، إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ، وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً، وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ، وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِـيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَـتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا، فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً، ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ، وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) ) سورة المجادلة . وقد فَهِمْنا الحرمةَ من قوله تعالى(وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القَوْلِ وَزُوراً ) فإنه لا شكّ في تحريم المنكر من القول والزور ـ حتى وإن اُلحِق بالعفو في قوله (وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) وذلك لاحتمال أن يكون العفوُ مقيّداً ببعض شرائط كالتكفير والتوبة ـ إضافةً إلى الروايات المحرّمة له .