الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
38/02/11
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : تشخيص الأهمّ
وأمّا تشخيص الأهمّ ـ لِنُقَدِّمه على المهمّ ـ فقد يكون من وظيفة العبد ، والعبدُ وإن كان قد يخطئ في بعض الحالات في تشخيص الأهمّ إلاّ أنّ عليه أن يـبذُلَ جُهدَه في امتـثال أوامر المولى جلّ وعلا ، ولو بأن يَسأل الفقيهَ المجتهدَ ، فإنه أدرَى بالأهمّ عادةً ، وهاك بعضَ الأمثلة :
لو وَجَدَ العامّي القليلَ من الماء لا يكفي إلاّ لشيء واحد من تطهير ثوب صلاته الذي لا يملك غيرَه أو يكفي لوضوئه فقط ، فالمجتهدُ يقول له طهّرْ ثوبَك وتيمّمْ ، لأنّ للوضوء بدلاً شرعياً ، فإنّ الأرض أحدُ الطهورين ، وهذا هو المتعيّن وهو أحوط من أن يصلّيَ عارياً أو بنجاسة .
وكذلك إذا تردّد العامّيُ بـين الوضوء وإدراك ركعة واحدة فقط من صلاته وبـين أن يتيمّم ويوقعَ كلّ صلاته في وقتها ، فإنه إذا رجع العامّيُ إلى الفقيه لقال له أن يتيمّم لتقع كلّ الفريضة ضمن الوقت .
وكما في معلوميّة ترجيح الواجبات الإلهيّة الأوليّة على الواجبات بالعناوين الطارئة ، كما لو أوجب شخصٌ على نفسه زيارةَ الإمامِ الحسين (عليه السلام) كلّ يوم عرفات ، فإنه لو استطاع إلى الحجّ لوجب عليه تقديمُ الواجبات الشرعيّة الأوليّة على الواجبات الطارئة بنذر أو يمين أو عهد ، فإنّ شرْط اللهِ قبل شرطكم . ولك أن تـقول أيضاً : إنه لو جاز تقديمُ النذرِ المذكورِ على الحجّ لجاز أن ينذر كلّ شخص أن يسبّح اللهَ تعالى في بـيته يوم عرفة ، فلا يحجّ واحدٌ في العالمين ، وهذا معلوم البطلان ، لأنه يوجب تعطيلَ فريضةٍ إلهية واجبة .
ومِثْلُها تماماً لو نذر أنْ يُسَبِّحَ اللهَ تعالى من أذان الظهر إلى غروب الشمس ، بحيث لا يـبقى مجالٌ لصلاة الفريضة ، فإنّ عليه أن يصلّي ويترك امتـثالَ الواجب العرَضي ، فإنّ شرط الله قبل شرطكم كما في الرواية[1] . ولك أن تقول إنه يُفهم من صحيحتَي محمد بن قيس وجميل ( شرط الله قبل شرطكم .. ) شرطيّةُ النذر بعدم مضادّته ـ في مرحلة الإمتـثال ـ مع الواجبات الأوّليّة كالحجّ والصلاة ، ولذلك يجب القولُ بإطلاق الواجبات الأوليّة من ناحية النذر وتقيّدِ الواجباتِ بالعرَض بعدم مزاحمتها مع الواجبات الأوليّة ، ومن البديهي ح تقديمُ الواجبات الأوليّة على الواجبات بالعرَض ، لأهميّة الأولى على الثانية ، لأنّ القدرة المأخوذة في الواجبات الأوليّة ح تكون بمثابة القدرة العقليّة ، والقدرة المأخوذة في الواجبات بالعرض قدرة شرعيّة ، ولا شكّ في تقدّم المشروط بالقدرة العقليّة على المشروط بالقدرة الشرعيّة ، لأنّ الأوّل بمثابة المطلق الغير مقيّد ، وهذا يكشف عن محبوبـيته على كلّ حال ، بخلاف المشروط بالقدرة الشرعيّة ، فإنه ليس محبوباً مطلقاً ، أي ليس محبوباً في حال عدم حصول الإستطاعة إلى الحجّ . وبأقلّ تأمّل تعرف أنّ الوجوبات الأوليّة ـ كوجوب الحجّ ـ تَـنفي الوجوبات بالعرَض ، فلن يتفعّل ح الوجوبُ بالعرَض .
من هنا تعرفُ أنّ الواجبَ المطلقَ ـ كالإنـقاذ ـ أهمُّ من الواجب المقيَّد بالقدرة الشرعيّة ـ كالحجّ والصيام ـ ، وذلك لأنّ الواجب المطلق من قيد القدرة الشرعيّة يدلّ على المحبوبـية الدائمة والمطلقة للواجب أي حتى في حال العجز ، وهذا يدلّ على الأهميّة البالغة للحكم ، بـينما الواجب المقيّد بالقدرة الشرعيّة هو مقيّد بحال القدرة فقط .
وكما في ترجيح المطلق اللفظي على الواجب اللُّـبِّـي ، فمثلاً : يجب أداء الفرائض في وقتها بمقتضى الآيات والروايات ، من قبـيل ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ)[2] ، فإذا ضاق وقت الفريضة ودار الأمرُ بـين أن يقرأ السورة بعد الفاتحة فتخرجُ بعضُ الصلاة من وقت الفريضة ، وبـين أن يترك السورة ويُدرِكُ كلّ الفريضة في وقتها ، فإنّ العلماء يقولون بأنه يترك السورةَ لإدراك كلّ الفريضة ضمن وقتها ، وذلك لأنّ الصلاة ضمن الوقت واجب لفظي ، ودليلُ وجوب قراءة السورة هو الإجماع ، وهو دليل لُبِّـي ، لا نعرف كلّ حدوده بالدقّة ، فقد لا يكون هناك إجماع على وجوب قراءة السورة في ضيق الوقت ، وعليه فلا شكّ في رجحان الواجب المطلق اللفظي على الواجب اللبـي أي الغير واضح الحدود .
كثيراً ما يَفهم الفقيهُ من خلال الآيات والروايات شدّةَ اهتمام الشارع المقدّس بـبعض أمور ـ كالقتل والزنا وترك الجهاد في سبـيله وسائرِ ما اَوعَدَ اللهُ تعالى على فعله أو على ترْكِه دخولَ النار أعاذنا الله منها ـ فتكون قرينةً مهمّة في تحديد الأهمّ ، ولذلك قالوا بأهميّة إنقاذ الغريق المحترم الدم على الغصب ، ومن هذا القبـيل ما ذُكِر فيها وصْفُ مرتكبِ المعصية الفلانية بأنه كافر ، كما ورد في تارك الحجّ . ومن هذا القبـيل أيضاً ما يَفهمه الفقيهُ من شدّة الإهتمام بالواجب الفلاني من بعض ألفاظ شديدة الوطأ ، كالصلاة التي ورد فيها أنها لا تُـترَكُ بحال من الأحوال ، فإنه يستـفاد من هكذا كلام أنّ الصلاة أهم من الكثير من الواجبات التي لم يَرِدْ فيها ذلك التشديد ، فإنّ قوله (عليه السلام) إنها لا تـترَكُ بحالٍ كاشفٌ عن أنّ المولى يهتم بملاكها كثيراً ، ومن هذا القبـيل ما يفهمه الفقيه من خلال كثرة ذِكْرِ بعض الواجبات من شدّة الإهتمام به ، كما ورد في كَـثرة ذِكْرِ الصلاة والزكاة ، بخلاف الخُمس ...
على كلٍّ ، إنْ لم يعلمِ المكلّفُ الأهمَّ ـ رغم المراجعة وبذْلِ الجهد ـ فح مِنَ الطبـيعي أنّ العقل يَحكُمُ بترجيح مظنونِ الأهميّة ، وإلاّ فمع عدم الظنّ يكون مخيّراً بـينهما ، كما لو كان يغرق غريقان لا نُرَجّحُ واحداً منهما على الثاني بنظر الله تعالى ، أي لا نعرف أيُّهما الأهمّ عند الله جلّ وعلا ، وبهذا يحكم العقلُ .