الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/02/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : نظريّة الترتّب

فقد عرفتَ ـ في الردّ على صاحب الكفاية ـ أنه لا يُعقل أن تطارِدَ فعليّةُ وجوب الأهمّ فعليّةَ وجوب المهمّ بعد عدم إرادة امتـثال الأمر بالأهمّ وبعد سقوطِ التـنجيز من الأمر بالأهمّ وبَعد حُكْمِ العقلِ برجوعِ التـنجيز إلى المهم ، وذلك لأنّ الفعليّة هي حكم ناتجٌ عن تحقّق المقدّمات الوجوبـيّة للحكم ، ولا مشكلة إذا تحقّقت العلّة التامّة لمحبوبـية الصلاة ، وكذا لا مشكلة إذا تحقّقت المحبوبـية التامّة لإنقاذ كلّ الغَرْقَى المؤمنِين ، مع أننا لا نستطيع على إنقاذ أكثر من واحد منهم فقط . ولذلك نقول : في حال التصميم على عصيان الأمر بالأهم لا يمكن أن يقول لك الباري تعالى "لا أمْرَ بالصلاة أيضاً بسبب أنك تركت الأهمّ" وإلاّ تكونُ قد تركتَ فِعْلَين واجبـين فعلاً ، وهذا كما لو كان زيد المؤمنُ جداً يغرق وعمروٌ الأقلّ أهميّة عند الله من زيد يَغرق أيضاً ، فإذا صمّمتَ أن لا تـنقذ زيداً الأهمّ لِثارٍ بـينَك وبـينَه ـ مثلاً ـ فلا يمكن للباري الحكيم أن يقول لك إذن لا أمْرَ بإنقاذ عَمرو المؤمن !!

ثم إنه يكفي إثباتُ إمكانِ الترتّب للقول بوجود أمْـرٍ بالمهمّ ، فلو أثبتْـنا إمكانَ الترتّب الطولي بـين الأهمّ والمهمّ ـ بمعنى أننا لو أثبتـنا مجرّدَ إمكان أن يقول الباري تعالى (إنْ لم تُرِدِ امتـثالَ الأهمّ فأتِ بالمهمّ) ـ فهو كافٍ في القول بأنه هو الحقّ في الخارج ، وأنّ المهمَّ منجّزٌ علينا ، وذلك لأنه حكم عقليّ محض ، ولا مانع منه عقلياً أو شرعياً ، فهو لا ينـتـظر شيئاً آخر ـ غير حُكْمِ العقلِ وغير التمسّك بإطلاقات الأدلّة ـ ليَحْكُمَ العقلُ بصيرورة وجوب الصلاة منجّزاً .

وممّا ذُكِرَ تعرفُ أنّ مسألة الترتّب مغايرةٌ لمسألة اجتماع الأمر والنهي تماماً ، فمسألة الإجتماع ناظرة إلى إمكان اجتماع الأمر والنهي على متعلّقٍ واحد بعرْض واحد ، كالصلاة في المغصوب ، وأمّا في مسألة الترتّب فالأوامر طوليّة ، لا عرْضيّة .

ومِن طرقِ تصحيح الصلاة هو ما تبنّاه صاحبُ الكفاية من أنه ـ رغم قوله باستحالة وجود أمْرٍ في الصلاة وبارتـفاع فعليّته ـ لا يـبعد تصحيحُ الصلاة بوجود ملاك فيها ، أي تُصَحَّح الصلاةُ لمحبوبـيتها عند الله سبحانه وتعالى ، فهي إذن مطلوبةٌ رُوحاً ، أي أنه أتى بتمام الغرض المطلوب ، وأيضاً يمكن التقرّب بها إلى المولى جلّ وعلا لمحبوبـيتها[1] [2] .

ومن الطرق لتصحيح الصلاة المذكورة ما ذكره صاحبُ الكفاية أيضاً من أنه بمقتـضى تعلّق الأوامر بالطبائع ـ أي الملغاة عنها كلُّ الخصوصيّات والحالات كما في حال وجود أهمّ ـ لا بالأفراد نقول : يصحّ الأمر بالجامع بـين الأفراد المزاحَمة بالأهمّ والأفراد غير المزاحَمة بالأهمّ ، وعليه فيمكن بمقتضى وجود أمر بهذا الجامع أن نأتي بالطبـيعة ضمن هذا الفرد المزاحَم بالأهمّ ، ولا فرق في نفس الصلاة بـين هذا الفرد المزاحَم بالأهمّ وبـين غيره من الأفراد غير المزاحَمة ، ولذلك يقول العقلاء بأنّ الشارع المقدّس يرخّص لنا ـ عقلاً ـ في تحقيق طبـيعيّ الصلاة بالصلاة المزاحَمة بالأهمّ ـ وإلاّ وقعنا في مبغوضَين ـ كما يرخّص لنا أن نصلّي بالثوب الأبـيض أو بالأسود أو أن نصلّي في هذا المكان المباح أو في المكان المباح الآخر ... فنصحّح الصلاةَ من هذا الطريق أيضاً [3] .

وهكذا رأيتَ أنه يوجد ثلاثةُ طرق لتصحيح الصلاة المذكورة : وجود أمْرٍ بالمهمّ بنحو الترتّب ـ وقد عرفتَ أنه أمْرٌ بديهي جداً ـ والطريقين الأخيرين .

وممّا ذكرنا تعرفُ أنه لا مجال لإيراد بحث (إقتضاء حرمة العبادة لبطلانها) ، لأنه لا تحرم الصلاةُ في حالة المزاحمة .

ثم إنه لا شكّ أنّ الكسر والإنكسار في مرحلة الملاك إنما هو من شأن المولى تعالى ، فهو العالِم بالمصالح والمفاسد ، وأمّا نحن فقد يصعب علينا أن نعرف النـتيجة وحُكْمَها ـ بعد الكسر والإنكسار بـين المصالح والمفاسد ـ في الكثير من الحالات. مثلاً : في ضيق الوقت هل يجب علينا أن نقرأ السورة بعد الفاتحة ، أم أنّه يحرم قراءة السورة بسبب وجوب إدراك كلّ الفريضة لوقتها ؟! أم أنه يُكره قراءتُها أم يستحب أم هو مخيّر بـين قراءتها وتركها ؟

وأمّا تشخيص الأهمّ ـ لِنُقَدِّمه على المهمّ ـ فقد يكون من وظيفة العبد ، والعبدُ وإن كان قد يخطئ في بعض الحالات في تشخيص الأهمّ إلاّ أنّ عليه أن يـبذُلَ جُهدَه في امتـثال أوامر المولى جلّ وعلا ، ولو بأن يَسأل الفقيهَ المجتهدَ ، فإنه أدرَى بالأهمّ عادةً ، وهاك بعضَ الأمثلة :

لو وَجَدَ العامّي القليلَ من الماء لا يكفي إلاّ لشيء واحد من تطهير ثوب صلاته الذي لا يملك غيرَه أو يكفي لوضوئه فقط ، فالمجتهدُ يقول له طهّرْ ثوبَك وتيمّمْ ، لأنّ للوضوء بدلاً شرعياً ، فإنّ الأرض أحدُ الطهورين ، وهذا هو المتعيّن وهو أحوط من أن يصلّيَ عارياً أو بنجاسة .

وكذلك إذا تردّد العامّيُ بـين الوضوء وإدراك ركعة واحدة فقط من صلاته وبـين أن يتيمّم ويوقعَ كلّ صلاته في وقتها ، فإنه إذا رجع العامّيُ إلى الفقيه لقال له أن يتيمّم لتقع كلّ الفريضة ضمن الوقت .

 


[1] صاحب منـتهى الدراية، ج2، ص558.
[2] ، ذهب صاحب الكفاية إلى صحّة الضدّ العبادي حتى على مذهب القدماء القائلين بتوقّف صحّة العبادة على الأمر، بناءً منهم على انحصار المقرّب فيه وعدمِ كفاية الملاك والمحبوبـية في قصد التقرّب . ذكر ذلك، وذَكَرَه نفسُ صاحب الكفاية في متـن منـتهى الدراية، ج2، ص574.
[3] ومن هنا تلاحظ أنّ مشكلتـنا مع صاحب الكفاية ليس في تصحيح الصلاة، فإنها عنده صحيحةٌ بدليلين، وإنما هي في عدم إيمانه بوجود أمْرٍ بالصلاة في حال مزاحمتها بالأهمّ.