الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/38

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل يجوز عقلاً أمْرُ الآمِرِ مع عِلْمِه بانـتـفاء شرط التكليف ؟

فَصْلٌ : هل يجوز عقلاً أمْرُ الآمِرِ مع عِلْمِه بانـتـفاء شرط التكليف ؟

هل يجوز أمْرُ الآمِرِ ـ ولو بنحو إعطاء قانون عام ـ مع عِلْمِ الآمِرِ بانـتـفاء شرط التكليف كالقدرة والعِلْم ، فقد يكون بعضُ المأمورين جاهلين بالحكم الشرعي ، فلا يمتـثلون من باب الجهل ، لا من باب المعصية ؟ وبتعبـير آخر : هل يمكن الإلتزام بجواز أمْرِ الآمِرِ مع علم الآمِرِ بانـتـفاء شرط التكليف كما إذا أراد الآمِرُ من الأمرِ بعضَ دواعٍ عقلائيّة ، كأنْ يريدَ إظهارَ شدّةِ أهميّةِ الأمر ، أو كأنْ يريدَ امتحانَ العبد ، ولا يريد الفِعْلَ جداً ؟

إنه لا شكّ في أنه يَقبح على المولى أن يأمر عبدَه بأمْرٍ مستحيلٍ عليه وهو يريد منه الإمتـثال وهو يعلم أنّ العبد سوف يَعجز عن امتـثال الأمر ، ولو لِجَهْلِه بالحكم الشرعي ، فإنه لا يمكن أن يأمر المولى الحكيمُ بفعلٍ مع عدم قدرة العبدِ عليه ، أو مع جهله بالحكم ، ولذلك نقول القدرةُ والعلم شرطان عامّان في مرحلة الإمتـثال . نعم ، يمكن أن يأمر المولى الحكيمُ عبدَه بفِعلٍ ـ وهو يَعلم بعدم قدرته عليه ـ وذلك لأسباب وجيهة ، كإظهار شدّة أهميّة الحكم ، فيكون الوجوب فعليّاً ولكن ليس منجّزاً ، وذلك كما ورد في قوله تعالى (وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً )[1] فإنّ الله تعالى يعلم أننا غيرُ قادرين على الإمتـثال ومع ذلك أمَرَنا ، وليس ذلك إلاّ لفوائدَ ، كإظهار شدّة أهميّة الحكم وفعليّتِه وأنهم مراقوا الدم ولا دِية لهم ...

إذن في الجوابِ تفصيلٌ بـين الفعليّة والـتـنجيز ، بمعنى أنه يمكن أن يكون الحكم صادراً ويصيرَ فعليّاً ، حتى ولو كان المأمورُ عاجزاً أو جاهلاً ، إن كان يوجد أثرٌ للفعليّة ، فيمكن صدور هكذا حكمٍ بنحو الجديّة ولا لَغْوِيّة فيه ، ولكن لا يكون منجّزاً ، ولذلك نقول بعدم إمكان صدورِ الأمرِ التعجيزي بداعي الإمتـثال ، وإنما يشترط في التـنجيزِ العِلمُ بالحكم والقدرةُ على الإمتـثال ، فتكون الإرادةُ الجديّةُ عند المولى في مرحلة الفعليّة فـقط ـ دون مرحلة التـنجيز ـ ولذلك نقول لا لَغْوِيّة في صدور هكذا أحكام .

وبعد مراجعة كلمات القوم ـ من أيام السيد المرتضى وإلى أيامنا هذه ـ يظهر أنّ تفصيلنا هذا هو ما يؤمنون به جميعُهم ، وهو وجه الجمع بـين كلماتهم .

ونفسُ الكلام يجري في النهي ، فلو نَهَى المولى عبدَه عن النوم أثـناء حراسته وهو يعلم أنه سوف ينام فقد يكون لِنَهْيِه هذا بعضُ فوائد كالحذر والإحتياط مهما أمكن ، فيكون النهيُ فِعْلياً ولا يكون منجّزاً .

ولذلك إذا كان المولى تعالى يعلم بأنّ العبد حينما يذهب إلى الحجّ سوف يَعْجَزُ ـ لأمْرٍ ما ـ عن الرجوع مستطيعاً ، لِعِلْمِهِ بطروء الغلاء على أسعار السلع والفنادق في موسم الحجّ مثلاً ، ولو لِعِلْمِه بوجود مؤامرة من الحكومة أو من التجّار ، وسوف يضطرّ هذا العبدُ حينها أن يقترض وسوف يقع في الحرج ، بحيث لو كان هذا العبدُ يعلم بعدم قدرته على الرجوع مستطيعاً لَعَلِمَ بعدم وجوب الحجّ عليه من الأصل ، فحينـئذٍ يَقْبُحُ على المولى ـ في هكذا حالة ـ أن يكلّفه بالحجّ ، ولو كلّفه لكان ذلك قبـيحاً عقلاً ، وذلك لِقُبْحِ أن يكلّفه الباري تعالى بما فيه ضرر أو حرج ، وهو مخالف لِلُّطْفِ الثابت لله جلّ وعلا ، كما ذهب إلى ذلك السيد علمُ الهدى وصاحبُ المعالم[2] .

وبتعبـير آخر : إذا عَلِمَ اللهُ تعالى بعدم تحقّق شرط التكليف في زمن التكليف فلا يمكن أن يصير التكليف منجَّزاً . ومثلُه ما لو أعلمَنا النبـيُّ أو الإمامُ (عليهما السلام) بأنّ خادمنا زيداً سوف يموت غداً ، فلا يجوز لنا أن نأمرَه بفعلٍ معيّن بعد غد ، ونحن نعلم بأنه سوف يموت غداً ، إلاّ إن كانـت غايتـنا من الأمر غيرَ الإمتـثال . ومثلُهما أن يأمر المولى العرفيُّ خادمَه بأمْرٍ ليدرّبه على الإطاعة ـ مثلاً ـ مع عزمه على نسخ الأمر في زمن التكليف .

إذَن إن كان للأمْرِ وجهٌ عقلائي كزيادة الأجر لأمْكَنَ الأمْرُ ـ كما في أمْرِ المولى تعالى عبدَه بأمرٍ ليوطّن نفسَه على الإمتـثال والمولى يعلم أنه سوف يَنسخ الأمْرَ ـ وذلك إذا أراد اللهُ تعالى أن يَرفع مقامَ عبدِه عنده وأن تَفنَى إرادتُه في إرادة الله تعالى ـ كما في امتحان الباري تعالى خليلَه إبراهيم بذبْحِ وَلَدِه إسماعيل للتدريـب على الإستسلام والتسليم للهِ جلّ وعلا ـ ، وإلاّ فلا يمكن . وبتعبـير آخر : إن كان في أمره الإمتحاني وجهٌ عقلائي كزيادة اللطف بالعبد فيمكن ح الأمرُ ، وإلاّ ـ أي مع عدم وجود وجه عقلائي للأمر ـ فلا يمكن الأمرُ ، والظاهر من كلمات القوم أنّ موضوع البحث هو الأوامر التي مَلاكها في نفس الأمر لا في متعلق الأمر ، أي أنّ المصلحة ليست في ذبح إبراهيم (عليه السلام) لِوَلَدِه ، وإنما المصلحة في شيء خارج عن المتعلّق ، كما في الأوامر الإمتحانيّة والتدريـبـية على الإطاعة وكما في استمالة زيدٍ لشخص ما بتوكيله بـبـيع أغراضه لاستمالة قلبه له ولإظهار أنه يؤمن بأمانـته ، مع أنه يكون عازماً على عزله قبل وقت البـيع . على كلٍّ ، لو خالف إبراهيمُ ربَّه تعالى فلم يُقْدِمْ على الذبح لَعَصَى ولاستحقّ العقوبةَ عقلاً ، حتى ولو عَلِمَ (عليه السلام) بَعد ذلك بأنه كان أمراً امتحانيّاً وتدريـباً ، وذلك لأنه يكون تجرُّءً على مولاه .

ثم إنه إن قال المولى تعالى (على الغنيّ أن يدفع زكاةَ ماله) وهو يَعلم بأنّ بعض الأغنياء لن يدفعوا ولو لكفرهم أو لعدم عِلْمِهم بالخطاب ـ كما في بعض العصور السابقة وفي بعض الأمكنة البعيدة ـ فمع ذلك يصحّ خطابُه المذكور ، وذلك لكفاية وجود بعض الأفراد العالمين الذين سوف يمتـثلون .

الجامع بـين المقدور وغيرِه

هل يصحُّ أن يأمر المولى بفعلٍ بعضُ أفراده مقدورٌ عليه وبعضُه غيرُ مقدور ؟ مثلاً : هل يصحّ أن يأمر المولى بالصلاة أو بالصيام أو بإكرام العلماء مع أنّ بعضَ أفراد المأمور به غيرُ مقدور عليه ؟ نعم ، لا شكّ في عدم شمول التكليف لخصوص الأفراد المستحيلة الوقوع ، لكنْ كلامُنا في المأمور به الكلّي ـ أي الجامع ـ مع غضّ النظر عن الأفراد ، فهل يجوز أن يتعلّق الأمْرُ بالجامع الذي بعضُ أفرادِه مقدورةٌ وبعضُه مستحيلة ؟

الجواب : لا شكّ في صحّة ذلك ، وهو أمْرٌ لا مانع منه عقلاً وعرفاً ، بل لعلّ الكثير من الأوامر هي بهذا الشكل ، فلو قال المولى لخادمه (إشترِ لي الخبزَ) ـ بنحو الإطلاق البدلي ـ أو (أكرمِ العلماءَ) ـ بنحو الإطلاق الشمولي ـ فهناك بعضُ الأفراد ممكنةُ الإمتـثال ، وهناك بعضُ الأفراد غيرُ ممكنة الإمتـثال ، ورغم ذلك تصحّ هكذا أوامرُ عقلاً وعرفاً ، لأنّ (الخبز) و (العلماء) في المثالَين ينصرفان إلى خصوص الأفراد الممكنة ، هذا على مستوى الدلالة ، وكذا الأمرُ على مستوى الثبوت ، فإنه لن يتصوّر المولى الحكيمُ ـ أي في مرحلة التصوّر ـ الخبزَ الموجود في بلد بعيد فيأمرُ بشرائه ، كما لا يمكن أن يتصوّر كلَّ العلماءِ ـ بما فيهم البعيدون الذين لا يَصِلُ إليهم المأمورُ عادةً ـ فيريد شمولَهم في متعلّق الحكم .

لكن هذا البحث لا فائدة منه ، لأنّ كلامنا هو على مستوى الباري عزّ وجلّ ، لا على مستوى الموالي العاديـين ، والمولى تعالى يعرف أنّ الحصّة الغير مقدورة الآن هل سوف تصير مقدورةً عند الإمتـثال أو لن تصير مقدورةً ، فإذا كان يعلم أنها سوف تصير مقدورةً فحينـئذ إن امتـثلها المأمورُ فإنها سوف تقع مجزيةً بالبداهة ، وحتى على مستوى الموالي العاديـين ، لو فرضنا أنّ الحصّةَ التي لم تكن مقدورةً حين الأمر صارت ممكنةً صدفةً وامتـثلها المأمورُ فهي مجزيةٌ قطعاً ، لأنّ المطلوب عند المولى العادي هي الطبـيعة ، وقد امتـثلها المأمورُ ، أي أنّ الغاية قد تحقّقت عنده .

شرطيّة القدرة بالمعنى الأعمّ

المراد بالقدرة بالمعنى الأعمّ هي القدرة الأعمّ من القدرة العقليّة ، أي القدرة العقليّة والعاديّة والشرعيّة ، فقد عرفتَ اشتراطَ القدرةِ في التكليف ، عقلاً وشرعاً ، أمّا القدرةُ العقليّة فهي بعكس الإستحالة العقليّة كالجمع بـين النقيضين في وقت واحد وزمان واحد ، والقدرةُ العاديّة هي بعكس العجز العادي كالطيران في السماء ، فإنّ الطيران في السماء ممكن عقلاً ، لكنه مستحيل لنا عادةً إلاّ بوسائل ، وأمّا القدرةُ الشرعية فهي القدرة على أداء التكليف من دون وقوع في الحرج أو الضرر ـ على تفصيل ذكرناه قبل قليل عند بحثـنا في قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور ، وهو استـثـناء الأمور المبنيّة على الضرر أو الحرج ـ ومن دون تزاحم مع واجب مساوٍ أو أهمّ ، فلا يمكن للباري تعالى أن يأمر شخصاً بإنقاذ غريقين في نفس الوقت إن كان الجمع بـينهما مستحيلاً ، كما لا يمكن أنْ يأمُرَ بِفِعْلٍ مع إيجابه لِفِعْلٍ أهمّ منه ، كأنْ يأمُرَ بالصلاةِ مع إيجابه للإنقاذ مع عدم إمكان الجمع بـينهما ، وهذه الإستحالة بالجمع نشأت من قِبَلِ الشرع بسبب إيجابهما معاً .


[1] التوبة : 36.
[2] ذَكَرَ ذلك السيدُ علي الموسوي القزويني في (تعليقة على معالم الدين) : ج4، ص433 و ص446 .