الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : المـبـاحـث الـعـقـلـيّـة

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

من الاُمور المسلّمةِ عقلاً عدمُ جوازِ تكليف الآمِرِ الحكيمِ مأمورَه بما لا قدرة له عليه ، وإنما يجب أن يكون المأمورُ به مقدوراً عليه عقلاً وشرعاً ، حتى ولو كان المأمورُ به محبوباً جدّاً عند المولى ، فإنّ له أن يـبدِيَ ذلك ، ولكن ليس له أن يُكَلِّفَ مأمورَه بما لا طاقة له به . بل لا يحسن التكليف بالأمور المحرِجة ، إلاّ إذا كانـت المصلحةُ أهمّ من الوقوع في الحرج . وهكذا الأمر في الاُمور الضرريّة ، فإنه لا يجوز أو لا يحسن ـ على اختلاف درجات الضرر ـ أن يكلّف المولى الرحيمُ عبـيدَه بذلك ، إلاّ إذا كانـت المصلحةُ أهمَّ مِن مفسدة الضرر ، كما في الأمور المبنيّة على الحرج أو الضرر ـ كما في الجهاد أو الخُمس أو الزكاة أو الصيام ـ . فمثلاً : لا يصحّ أن يأمر المولى تعالى مأمورَه بإنقاذ الغريق وبالصلاة في نفس الوقت إن لم يمكن الجمعُ بـينهما خارجاً ، أو بإنقاذ غريقين في نفس الوقت إن لم يمكن ذلك ، أو أن يحرّم التصرّفَ في المغصوب ويوجبَ الصلاةَ فيه !

نعم يجوز الحبُّ والتمنّي ، كأن يتمنَّى الإنسانُ أن يكون أعلمَ وأغنى وأكمل وأجملَ إنسانٍ على وجه الأرض ، فهكذا حبٌّ ممكنٌ ، وذلك إذا كانـت المصلحة بنظر المحِبّ تامّةً ، ويمكن للمولى إظهار ذلك بطريقة ما ، ولو بصيغة الأمر ، لإظهار شدّة أهميّة القضيّة ، لكنْ كلامُنا في صدور جعْلٍ حقيقي مِنَ الآمِرِ بغاية التحريك ، مع عدم قدرة المأمورِ على الفعل أو الترك ، كما لو أمَرَهُ بأن يطير في السماء ، أو أمَرَهُ بما هو واجبُ الحصولِ خارجاً ، كما لو أمَرَهُ بأن يتـنفّسَ في هذا اليوم ، فإنه لا يصحّ الأمْرُ به لأنه سيكون لَغْواً محْضاً ، وهو لا يَصْدُرُ مِنَ الحكيم ... وقد ذكرنا أكثر من مرّة مراتبَ الحكم الشرعي الواقعي والظاهري ، ومراحل الملاك والجعل والفعليّة والتـنجّز[1] .

ولا شكّ أنك تعرفُ الفرقَ بـين القدرة الشرعيّة والقدرةِ العقليّة ، فالقدرةُ الشرعيّة هي القدرة المأخوذة في لسان الدليل كما في الإستطاعة إلى الحجّ والقدرة على الصيام ، ودخالةُ القدرة في لسان الدليل كاشفةٌ عن عدم محبوبـية صدورها من العاجز ، والقدرةُ العقليّة هي القدرة الغيرُ مأخوذةٍ في لسان الدليل كالقدرة المأخوذة عقلاً في إنقاذ الغريق ، وأنـت تعلم أنّ القدرة إن كانـت شرعيّةً فلا فعليّة للحكم مع عدم القدرة ـ لأنّ القدرةَ فيها من شرائط الفعليّة ـ ، وإن كانـت عقليّةً فالفعليّةُ ثابتةٌ ، وذلك لفعليّة المحبوبـية التامّة ، إلاّ أنّه مع عدم القدرة لا تـنجيز ، وبالتالي لا محرّكيّة ولا إدانة([2] ) في التكليف بما لا يطاق .

والسؤال الآن هو : إن فاته العملُ في وقته لعدم القدرة عليه ضمن الوقت ـ كما لو تعذّرت الطهارةُ ضِمن الوقت ، كالمحبوسِين في الأماكن النجسة ـ ففاتـته الصلاةُ لهذا السبب ، فهل عليه القضاء بعد فوات الوقت عند ارتفاع العذرِ أم لا ؟ الجواب ذكرناه في القسم الثاني من هذا الكتاب عند قولنا ( ب ـ الشك في الإطلاق لحالة التعذُّر ... وقلنا هناك بعدم وجوب القضاء وهو أحدُ قولَي الشيخ والمفيد ، قالوا ( لأنها صلاةٌ سقط وجوبها في وقتها ، فلا تجب بعد خروجه ، ولأن القضاء تكليف مبتدأ يتوقف على دلالة الشرع ، وحيث لا دلالة فلا قضاء) [3] ، ورجّح عدمَ القضاء المحقّقُ الحلّي أيضاً، ومِثلَه قال العلاّمةُ الحلّي ، قال : (مسألة 303 : اِختلف علماؤنا في فاقد المطَهِّرَين ، فقال بعضهم : يصلي ويعيد ، إختاره الشيخ في المبسوط ، وقال آخرون : تسقط أداءً وقضاءً وهو المعتمَد . دليلنا : أن الأداء ساقط فكذا القضاء ، والملازمةُ للتبعية ، وصِدْقُ المُقَدَّمِ لقوله (عليه السلام ) (لا صلاة إلا بطهور ولأنها صلاة غيرُ مأمور بها مع الحدث في وقتها فيسقط قضاؤها كالحائض) (إنـتهى) فراجع .

فإن قلتَ : ألا يوجبُ العقلُ ـ مع فوات الملاكِ في وقته ـ تحصيلَ الملاك خارج الوقت ، من باب الإقتصار على أقلّ خسارة ممكنة في الواجبات الغير مقيّدة بالقدرة الشرعيّة كالصلاة ؟

قلتُ : ما يدرينا بالمصالح والمفاسد ، فلعلّ المصلحة أن يقع الفعل في الوقت لا خارجه ، كما هو الحال في الكثير من المؤقّتات كالحجّ الذي لا يُقضَى خارج موسم الحجّ وأركان الصلاة ـ كالركوع ـ وصلاة الجمعة وغسل الجمعة الذي لا قضاء له عصرَ يومِ السبت وما بعده . وسيأتي في البحث التالي مزيدُ كلامٍ وتفصيلٍ في المقام ، فلا نُعيد .

حالات ارتـفاع القدرة

قد تزول القدرةُ بالعصيان ، أي حتى تفوت القدرةُ على فِعْلِ المؤقّت في زمانه المرسوم ، ولو بتعجيز المكلّفِ نفسَه عن أداء الواجب المؤقّت ، كما لو دخل وقتُ الفريضة فأراق ماءَ الوضوء عن عِلْمٍ بعدم وجود ماء غيرِه ، أو تماهل حتى لم يَعُدْ يستطيعُ على الذهاب مع القوافل إلى الحجّ ، فهذا مُدانٌ شرعاً وعقلاً ، وبالتالي هو يستحقّ العقابَ عقلاً . وهنا نقول : إنّ العجز بسوء الإخـتيار لا ينافي العقابَ ، أي أنّ هذا الشخصَ الذي أوقَعَ نفسَه في العجْز لا يُقال له هو غير مختار فلا يستحقّ العقاب ، وإنما يقال له بأنك تستحقّ العقابَ . فلو أوقع نفسه من شاهق فليس له أن يقول "أنا الآن غير قادر على الإمتـثال ولا أستحقّ العقاب" ، وإنما يجب أن يقال له "بما أنك أوقعتَ نفسَك في العجز ، فإنّ اضطرارك الآن على الوقوع لا ينافي استحقاقك للعقاب عند جميع العقلاء قاطبةً ، لأنك كنـت قادراً على الإبتعاد عن الوقوع في المَهلَكَة ، فوقوعُك الآن حرامٌ عليك فعلاً ، لأنه مبغوض تمام المبغوضيّة ، ولذلك أنـت تستحقّ العقابَ عليه"، وكذا لو أدخل نفسَه في أرض مغصوبة ، وأراد أن يخرج ، فليس له أن يقول (أنا الآن غير مُدان ولا أستحقّ العقابَ لأنّ خروجي أقلُّ مكروهيةً من بقائي ، ويحكم العقلُ بلزوم خروجي لأنه أقلّ الضررين !! ) ، وإنما نقول له ـ كما قلنا فيمن ألقَى بنفسه من شاهق ـ (أنـت تستحقّ العقابَ على خروجك من الأرض ، حتى وإن كان الخروجُ واجباً عقلاً، وذلك لأنه أقلّ الحرامَين ، لكنْ خروجُك الآن هو حرام ، لا أنه يَسقُطُ قُبْحُه وحرمته الفعليّة ، نعم تُسقُطُ بالضرورةِ الحرمةُ الفاعليّة ـ أي المحرّكة ـ لأنه لا يمكن التحريك) . وإنما نقول بعدم سقوط الفِعْلِيّة في الأمور التي لا يُشترَطُ فيها القدرةُ الشرعيّة لأنّ الملاكَ يـبقَى محفوظاً حتى في حال سقوط القدرة على الحفاظ على النفس كما في إلقاء النفس من شاهق .

 


[1] راجع مثلاً : ص39، 46، وراجع أيضاً ص198 فقد تعرّضنا للقدرة الشرعيّة والعقليّة، وفي بحث الضدّ الخاصّ الآتي.
[2] أي لا دَينَ في ذِمّته .
[3] راجع المعتبَر للمحقّق الحلّي : ج2، باب قضاء الفوائت، ص405 .