الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تحديد دَلالات الدليل الشرعي الغير لفظي

تحديد دَلالات الدليل الشرعي الغير لفظي

دَلالة الفعل

لا شكّ في أنه إنِ اقترن الفعلُ بقرائن توضّح سبب صدوره ، فإنه يجب الأخذُ بما هو واضح ، كما لو عَلِمْنا أنّ الإمام (عليه السلام) كان في مقام التقيّة ، أو في وضْعٍ خاصّ يجب فيه أن يَفديَ بنفسه وعياله وأهل بـيته وأصحابه في سبـيل الله ، وفي هكذا حالة يجب تقيـيدُ فِعْلِ الإمام بالوضع الذي كان فيه ، وعلى هذا يُحمل الفرقُ بـين صلح الإمام الحسن وقيام الإمام الحسين على يزيد اللعين وبـين سكوت الأئمّة بعد الإمام الحسين (عليه السلام) على ظُلْمِ السلاطين في زمانهم ، وأمّا في غير ذلك ـ أي في حال الشكّ في حدود الأمر ـ فعلينا أن نأخذ بالقدر المـتَيقّن .

مثلاً : روى يونس(بن عبد الرحمن) قال : أخبَرَني مَن رأى أبا الحسن(عليه السلام) بمِنى يمسحُ ظهرَ القدمين ، من أعلى القدم إلى الكعب ، ومن الكعب إلى أعلى القدم[1] ـ مع غضّ النظر عن ضعف سندها لعدم معرفة الشخص الذي أخبر يونسَ ـ فهل تَحمِلُ المسحَ من أعلى القدم إلى الكعب وبالعكس على التساوي بـينهما في الفضيلة ؟ قطعاً لا ، وذلك لاحتمال كون أحدِهما من باب التعليم .

وكذا وَرَدَ أنّ رسول الله (ص) كان إذا ركب لم يستظلّ بالمحمل ... هذا الفعلُ لم نعرف حدودَه ، فهل أنّ استظلالَه في المنزل الذي لم يـبرحه حرامٌ ، أو أنه من باب السهولة عليه كي لا يرفعَه عند حدود المنزل ، أو هو لإرشاد الناس أنهم في طريقهم للخروج من هذا المنزل ؟

دَلالة التقرير

المراد بالتقرير هو رضا الإمام بفِعْلٍ قام به أحد الناس ، ويُعرَفُ عادةً بسكوت المعصوم عن فعل رآه من الناس ، هذا الرضا هو المراد من قولهم (التقرير) ، فقالوا قرّره الإمامُ وأقرّه وأمضاه ورَضِيَ به . ومن الطبـيعي أنه يشترط أن يكون الإمام قادراً ـ حين الواقعة ـ على بـيان الحكم الشرعي ، إذ لو لم يكن قادراً لن يكون سكوتُه أمارةً على رضاه .

وأنـت تعلم أنّ الإمام ـ ككلّ الأنبـياءِ والأوصياء (عليهم السلام) ـ هو لسان الله الناطق ، وأنّه يجب عليه بمقتضى ذلك ، وبمقتضى كونه خليفةَ اللطيفِ بعباده ، يجب عليه أن يهديَ الناسَ إلى الصراط المستقيم وأن ينبّههم على أخطائهم وانحرافاتهم ، ولو من باب النهي عن المنكر ولإبقاء شعلة الإسلام وضّاءةً إلى قيام الساعة .

كما وتعلمُ أنّ الله تعالى إنما ارسل كلّ هؤلاء الأنبـياء لهداية البشر ، وأتْبَعَهُمْ بالأوصياء ، كي لا تخلو الأرضُ من حجّة، ويكفينا أن نـتبرّك بذِكْرِ آيتين فقط ، لوضوح الأمر جداً ، قال الله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبـينَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَـفَكَّرُونَ (44))[2] ، وقال تعالى ( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنـت مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)) [3] .

ومن هنا كانـت السيرة العقلائيّة التي نعلم برضا المعصومين عنها حجّةً ، ولذلك أيضاً كانـت سيرة المتشرّعة الناشئة من أفعال المعصومين ورضاهم حجّةً ، وهذا يعني أنه ليست نفس هتين السيرتين هما الحجّة ، وإنما الحجّة هي رضا المعصومين (عليهم السلام) ، وليست هاتان السيرتان إلاّ كاشفتَين عن رضا المعصومين .

 

الفرقُ بـين سيرة المـتـشرّعة وسيرة العقلاء وسيرة العرف

سيرةُ العقلاء هي السيرة الناتجة من عقل العقلاء ، وليست من عرف الناس ، فقد يوجدُ قومٌ تعارفوا على شرب الخمر أو على الفواحش ، فهذه ليست سيرة عقلاء ، وإنما هي سيرة بعض الناس ، وليس هذا هو مقصود العلماء من سيرة العقلاء . ولذلك كانـت سيرة العقلاء حجّة دائماً ، لأنّ الشرع لا يخالف العقل مطلقاً ولا في حالة واحدة .

فإن قلتَ : كيف لا يخالف الشرعُ العقلَ ولا في مورد واحد وقد وردنا في كتاب الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبـيه ، وعن محمد بن اسماعيل عن الفضل بن شاذان جميعاً عن ابن أبـي عمير عن عبد الرحمن بن الحجّاج (ثقة ثقة ثبت وجه) عن أبان بن تغلب (ثقة فقيه جليل القدر عظيم الشأن في أصحابنا) قال قلت لأبـي عبد الله (عليه السلام) : ما تـقول في رجل قَطَعَ إصبعاً من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : ( عشَرةٌ من الإبل ) ، قلت : قطع اثـنـتين ؟ قال : ( عشرون ) ، قلت : قطع ثلاثاً ؟ قال : ( ثلاثون ) ، قلت : قطع أربعاً ؟ قال : ( عشرون ) ، قلت : سبحان الله !! يقطع ثلاثاً فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعاً فيكون عليه عشرون ؟! إنّ هذا كان يـبلغُنا ونحن بالعراق فنبرأ ممّن قاله ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : ( مَهْلاً يا أبان ، هذا حكمُ رسولِ الله) ص) ، إنّ المرأة تُعاقِلُ الرجلَ إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجَعَتْ إلى النصف ، يا أبان اِنّك أخذتـني بالقياس ! والسُّـنَّةُ إذا قِيْسَتْ مُحِقَ الدِّين )[4] ، ورواها في يـب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن محمد بن أبـي عمير ، ورواها في الفقيه بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجّاج مثله ، وهي صحيحة السند .

قلتُ : هذه الرواية لا تـنافي العقلَ أصلاً ، ولسنا هنا في موضع بـيان كيف أنها لا تـنافي العقل ، لأننا لا نعرف كلّ ملاكات الأحكام ، لكن علينا أن ننظر إلى مرتبة المرأة من حيث هي امرأة ومن حيث فطرتها وتكوينها الخُلُقي والعاطفي ومع غَضِّ النظرِ عن إيمانها أو إيمان الرجل أو كفرهما ، فنقول :

نَظْرَةٌ إلى مرتبة المرأة في الإسلام

ما أوَدُّ التوصّلَ إليه في هذه الكلمة هو أنه يجب أن تكون ديّةُ الرجل أكثر من دية المرأة لأنه الأصل في هذه الحياة الدنيا وهو الأساس في الخلق ، وآدم هو المنظور إليه أوّلاً في الخلق ، وإنّ الرجل يشعر أنّ المرأةَ خُلِقَتْ لتـتميم شؤون حياته ، فهي خُلِقَتْ له ، لا أنه هو الذي خُلِقَ لها ، ولذلك كان نظرُ المرأةِ إلى الرجل ، تـتـزيّن له وتـتدلّل ، ولذلك كان البـيتُ هو الموطن الأساسي للمرأة ، تـنجِبُ الأطفال وتربـيهم وتـنظّم أمور البـيت ... وأمّا الرجل فنظَرُه إلى الأرض والتراب ، وهذا أمر وجداني يشعر به الناس ، على أنّنا نرى بوجداننا أنّ الرجل أقرب إلى العقل من المرأة ، والمرأة أقرب إلى العاطفة من الرجل ، لذلك كان (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، فَالصَّالِحَاتُ قَانـتاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيـب بِمَا حَفِظَ اللهُ ، وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبـيلاً ، إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِياًّ كَبـيراً (34)) [5] . ، وكأنّ عالَمَ الرجُلِ هو تطويرُ هذه الدنيا ـ ولو كانـت المرأةُ مع غيرها تُقَدِّمُ الرجالَ للعالَم ـ لكلّ هذا كان لا بدّ أن تكون قيمته كرجل ـ مع غضّ النظر عن إيمانهما وقِيَمِهما الإنسانية ـ أغلَى من قيمة المرأة ، نعم لعلّ الأليق للمرأة ومجاملةً لها أن تساويه في الديّات البسيطة إلى حدّ معين، لكن إذا وصلت إلى هذا الحدّ الخطير فيجب أن تعود إلى نصف ديّة الرجل ، وإنك إنْ تلاحظُ الآياتِ والروايات تجدْ أكمليّةَ الرجل من المرأة عموماً ـ أي إجمالاً ومع غضّ النظر عن كلّ رجل رجل ـ ، بمعنى أنك تلاحظ أقربـيتَه إلى الحقّ والعقلِ من المرأة التي تـتأثر بعاطفتها وحنانها ورأفتها أكثر من الرجل ، ولذلك كانـت المرأةُ لا تُقبل شهادتها في أمور كثيرة ولايقبل حُكْمُها في القضاء ، تَرَى ذلك في النصوص المعتبرة واضحاً ، فمثلاً إذا نظرت إلى تفسير معنى قوله تعالى ( ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) ـ مثلاً ـ تَرَى في الروايات أنهم النساء والصبـيان ، فقد روى الشيخ الصدوق بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد عن أبـيه عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال : ( المرأةُ لا يوصَى إليها لأنّ الله يقول ولا تؤتوا السفهاءَ أموالَكم ) ، ورواها الشيخ أيضاً بإسناده عن السكوني مثله . ثم قال الشيخ الصدوق : وفي خبر آخر قال : سُئِلَ أبو جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى ( ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُم ) قال : ( لا تُؤْتُوها شَرَّابَ الخمْرِ ولا النساءَ )[6] ، وفي تفسير علي بن إبراهيم عن أبـي الجارود عن أبـي جعفر (عليه السلام) ـ في قوله تعالى ( ولا تؤتوا السفهاء أموالكم ) ـ ( فالسفهاء : النساءُ والولد ، إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة ، وولده سفيه مفسد لا ينبغي له ان يسلط واحداً منهما على ماله الذي جعله الله له قياماً ، يقول : له معاشاً )[7] ، وفي معتبرة عامر بن عبد الله جذاعة قال قلت لأبـي عبد الله (عليه السلام) : إنّ امرأتي تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم في الإستطاعة ؟! فقال(عليه السلام) : ( ما للنساء والرأي )[8] ...


[1] وسائل الشيعة، الحر لعاملي : ج1، ب20 من أبواب الوضوء، ح3، ص286، الاسلامية .
[2] سورة النحل : 44 .
[3] سورة الرعد : 7 .
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج19، ب44 من أبواب ديات الأعضاء، ح1، ص268، الاسلامية .
[5] سورة النساء : 34 .
[6] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج13، ب53 من كـتاب الوصايا، ح1 و 2، ص442، الاسلامية .
[7] مستدرك الوسائل :ج13، ب11 من أبواب عقد البـيع، ح5، ص241. و ج14 ب5 من أبواب كتاب الوديعة : ح7، ص18 . وجامع أحاديث الشيعة : 17، ب11 من أبواب البـيع وشروطه، ح10، ص163، الاسلامية
[8] مستدرك سفينة البحار : ج4، باب ذم تفسير القرآن بالرأي، ص15 .