الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

38/01/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مفهوم الجملة الحَصْرِيّة

مفهوم الجملة الحَصْرِيّة

لم نذكرِ الجملةَ الإستـثـنائيّةَ بمفردها ، لأن مرجعها إلى الجملة الحَصْرِيّة ، كما سترَى في التفصيل التالي :

فأمثلةُ الجملةِ الإستـثـنائيّة قولُنا : (أكرِمِ الفقراءَ إلاّ الفسّاقَ منهم) ... والكلامُ هنا هو أنه إنْ فهِمْنا مِن الحكمِ في جملة الإستـثـناء طبـيعيَّ الحكم كان للجملة مفهوم وإلاّ فلا . وفي قولنا السابق (أكرِمِ الفقراءَ إلاّ الفسّاقَ منهم) تَفهم منها معنى (أكرمِ الفقراء العدولَ) ، أي أنها تفيد معنى الجملة الوصفيّة بوضوح ، لأنّ الإستـثـناء فيها هو استـثـناء من الموضوع ، فهي بمثابة قولك (العلماء إلا الفساق منهم يجب إكرامهم) ، فإنّ هذا الإستـثـناء هو تضيـيقٌ للموضوع بقيد متّصل ، فهو بمثابة الوصف بكلمة (غير) ، وهي أيضاً بمثابة قولنا (جاء القومُ إلاّ زيداً ) ، إذن فلن يكون لها مفهوم . ومِثْلُها ما لو قال المعترِفُ (في ذمتي لزيدٍ عشرةُ دراهمَ إلا درهم) ، فإنّ قوله (إلاّ درهم) هي قيد متّصل ، وقد استـثـناه المقِرِّ ، فهي بمثابة قوله (في ذمّتي لزيد عشرةُ دراهم غيرُ درهم) ، واعتبروا (غَير) وصفاً لـ (عشرة) ولذلك رفعوها بالضَّمّ ، ولم يَنْصِبُوها بالفَتح ، فكأنه قال (في ذمّتي لزيدٍ تسعةُ دراهمَ) ، لذلك لا يصحّ إدخالُ (الإستـثـناء من الموضوع) في بحث المفاهيم ، لأنه صريح في المـنطوق .

ولكنْ إن كانـت الجملة الإستـثـنائيّة سلبـيةَ الصدرِ ثم جاءت (إلاّ) فإنّ الإستـثـناءَ فيها يكون استـثـناءً من الحكم ، أو قُلْ: مدلولُها المطابقي يُفيد سلبَ طبـيعي الحكم وانحصارَ الحكمِ الأوّلي بالمستـثـنَى منه ، كما في مثال (لا يجوز الكذبُ إلاّ في الضرورة) فإنّ مدلولها المطابقي يعني (لا يجوز الكذبُ أصلاً ولأيّ سببٍ ، إلاّ في الضرورة) فهنا رأيتَ كيف كان الحكم المنفيُّ طبـيعياً ، ورأيتَ كيف كان المراد من (الكذب) هو جنس الكذب ، فكأنّ القائل قال : (جنس الكذب حرام حرام ، لا يجوز بأيّ شكل ولأيّ سبب ...) ، ولذلك يكون لها مفهوم ، ويكون مفهومها (وأمّا إن كان ضرورةٌ فإنه يجوز الكذبُ أو يجب) ، ولا يُحتمل أن يجوز الكذبُ في غير الضرورة ، بمعنى أنك إن شككت في جواز الكذب في غير حال الضرورة لوجب عليك الرجوعُ إلى عموم (جنس الكذب حرام مطلقاً) ، أي يجب عليك أن تـتمسّك بإطلاق حرمة الكذب . إذَنْ في الجملة الإستـثـنائيّة السلبـية لاحظتَ أنّ الإستـثـناء كان من الحكم ، أو قُلْ مِن طبـيعي الحكم .

إذَنْ لك أن تُدخِل قولَنا (لا يجوز الكذبُ إلاّ في الضرورة) في جملة الإستـثـناء ، لأنّ فيها أداةَ استـثـناء ، كما أنّ لك أن تُدخِلَها في جملة الحصر ـ وهو الاَولى ـ لأنها تفيد معنى الحصر بوضوح ، لأنّ الإستـثـناء فيها هو استـثـناءٌ مِن سلْبِ طبـيعة الحرمة .

ولبـيان الفرق أكثر بـين الإستـثـناء من الحكم والإستـثـناء من الموضوع نُـقَدّم المثالَ التالي أيضاً :

قد يقول المولى (أكرِمِ الفقراءَ إلا الفسّاقَ منهم) ـ بنحو الإيجابـية ـ وقد يقول (لا تكرِمِ الفسّاقَ إلاّ العلماءَ منهم) ـ بنحو السلبـية ـ فالجملةُ الأولى لا تفيد المفهومَ ، لأنّ الإستـثـناء فيها ـ كما عرفتَ ـ هو استـثـناءٌ من الموضوع ، لأنها بقوّة ( أكرِمِ الفقراءَ العدولَ) ، لذلك لا مفهوم لهذه الجملة ، ولذلك قد يأتي حُكمٌ آخر يُوجِبُ إكرامَ الفقراء الفسّاق بملاك آخر كالهاشميّة مثلاً . وأمّا القولُ الثاني فإنه يَنهَى عن الإكرام أصلاً ومطلقاً ، ثم يَستـثـنِي الآمِرُ من الحرمةِ إكرامَ العلماءِ فقط، ولذلك لا يصحّ أن يأتي استـثـناءٌ آخر بملاك آخر ، لأنه خدشة بعموم حرمة إكرام الفاسق ، لذلك كانـت الجملة السلبـية تفيد المفهومَ بوضوح .

ومثلُها جملةُ (لا إلهَ إلاّ اللهُ) فإنها تفيدُ المفهومَ بوضوح ، لأنّ مدلولها المطابقي يفيد أنه (لا يوجَدُ إلهٌ أصلاً إلا اللهَ) فإذَنْ المنفيُّ هو أصلُ وجودِ إلهٍ مطلقاً ، لذلك كان لهذه الجملةِ مفهومٌ .

ومِثلُها قولُ المدّعَى عليه (ليس لِزَيدٍ عليّ مالٌ إلاّ درهم واحد) ، وقولُنا (ما جاء إلاّ زَيدٌ) ، وقولُنا (كلُّ هذه المكتبةِ لزيدٍ إلاّ هذين الكتابـين) ، فإنّ استـثـناء المستـثـنَى فيها هو استـثـناء من الحكم ، وذلك لأنّ مدلولها المطابقي يفيد أنّ كلّ هذه المكتبة ، بلا استـثـناء أصلاً ، هي لزيد ، إلاّ هذين الكتابـين ، فلو شككنا في بعض الكتب ، فعلينا أن نرجع إلى عموم أنّ كلّ المكتبة هي لزيد . ولشدّة وضوح المفهوم فيما ذكرنا لا يـبعُدُ صحّةُ أن نقول إنّها من المدلول المطابقي ، لاحِظْ مثلاً قولَنا (ما جاء إلاّ زَيدٌ) ترى أنه لا مانع أصلاً من أن نجعل دلالتَها على مجيء زيد بالدلالة المطابقية .

من خلال ما ذكرنا تعرفُ أنّ (إلاّ) الموضوعةَ للإستـثـناء ـ فقط ـ قد تفيد الإستـثـناءَ من الموضوع وقد تفيد الإستـثـناء من الحكم .

فإنْ قلتَ : ما ذكرتَه من الإستـثـناء من الحكم هو استـثـناءٌ من الموضوع أيضاً ، لأنّ معنى قولِنا (لا تجوز الغِيـبةُ إلاّ للمظلومين فقط) هو استـثـناءٌ للمظلومين من المغتابـين ، ولولا الإستـثـناءُ من الموضوع لما صحّ الإستـثـناءُ من الحكم ، وعليه فلا فرق بـين الجملتين من هذه الناحية !

قلتُ : إعلمْ أنه لمّا كان الحكم المنفيُّ ـ في المدلول المطابقي ـ هو الطبـيعي ـ لأنه بمعنى لا تجوز الغِيـبةُ مطلقاً ولأيّ سبب ـ والنهيُ عن الطبـيعة يفيد شمولَ الحكمِ واستغراقَه ، فكأنّ النظرَ الأوّليَّ كان إلى إطلاق الحكم ، لأنه بصدد إعطاء قاعدة عامّة ، أي أنّ كلّ غِيـبة حرامٌ مطلقاً ولأيّ سبب ، لذلك كان النظرُ في هذا الإستـثـناء هو إلى تقيـيد الحكم المطلَق وتقيـيدِ القاعدة العامّة ، ويُستبعَدُ عقلائيّاً الخدشةُ ـ برواية منفصلة ـ في القاعدة العامّة ، وهذا بخلاف قولنا (أكرِمِ الفقراءَ إلاّ الفسّاقَ منهم) فإنّ النظر فيه ليس إلى إعطاء قاعدة عامّة ، وإنما النظر فيه خاصّ بموضوع خاصّ ، فهو يريد أن يقول (أكرِمِ الفقراءَ العدولَ) ، لذلك ـ أي لكون الموضوع خاصّاً ـ كان الحكم خاصّاً ـ لا طبـيعياً ـ وح يصحّ مجيءُ رواية أخرى تقول (أكرم الفقراء الهاشميـين حتى وإن كانوا فسّاقاً) .

ومِثالُها من كتاب الله الكريم قولُه تعالى ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ، وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)) [1] ، فإنّ الإستـثـناء فيها هو استـثـناء من الحكم ، لأنّه يفيد معنى (إلاّ من ظُلِمَ فإنّ الله يحبّه ...) ، ولذلك كان هذا القول الكريمُ ظاهراً في أنه يجوز للمظلوم أن ينـتصر لنفسه من الظالِمِ بالقول السيّئ ويجهرَ بذلك ويحبّ اللهُ ذلك ، ومن شدّة ظهوره في المفهوم قد يُتراءَى لك أنّ هذا المفهوم هو مدلول مطابقي . والمصاديقُ المعروفةُ للقول السيِّئ في هكذا حالة هما الغِيـبةُ والشَّتْمُ ، فإنهما اللذان ينصرَفُ إليهما الذهنُ ، وفي مرسلة العياشي عن الفضل بن أبـي قرة عن أبـي عبد الله (عليه السلام ) في قول الله تعالى ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) قال(عليه السلام ) : ( مَن أضاف قوماً فأساء ضيافتَهم فهو ممّن ظَلَمَ ، فلا جُناحَ عليهم فيما قالوا فيه )[2] أي مِن شتْمٍ وغِيـبة ، وقريـب منها مرسلةُ العياشي أيضاً عن أبـي الجارود عن أبـي عبد الله (عليه السلام ) قال : ( الجهر بالسوء من القول أن يُذكَر الرجلُ بما فيه )[3] أي من عيوبٍ كسُوءِ الأخلاق مثلاً .

المهم هو أنّ آيةَ ( لاَ يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ ) تفيد أصالةَ كراهة الله جلّ وعلا للجهر بالقول السيّئ ، أي تـفيد عمومَ كراهةِ القول السيّئ ـ كالشتم والغِيـبة ـ فهو الأصلُ الأعلائي في المقام ، فما خرج منه هو استـثـناء ، فيُؤخذ ـ مع الشكّ بمقدار المستـثـنَى ـ بالقدر المتيقّن من المستـثـنَى . المهم هو أنّ المفهوم هنا هو (أمّا ما كان منطلِقاً مِنَ المظلوميّةِ فإنّ اللهَ يحبّه) ، والأحوط أن يكون من باب الإنـتصار للنفس والإنـتصاف من الظالم ، لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنـتصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ ، إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انـتصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبـيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبـيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيـبغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42)) [4] ، ومن الطبـيعي عدمُ جواز أنْ يزيدَ الإنـتصارُ للنفس على مقدار الظلم، وإلاّ لصار المظلومُ ظالماً .

 


[1] سورة النساء : 148 .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج8، ب155، من أبواب أحكام العِشْرة، ح6، ص605، الاسلامية. . والفضل بن أبـي قرة تميمي ـ قال فيه النجاشي ـ (من السهند بلد من آذربـيجان . إنـتقل إلى أرمينية، روى عن أبـي عبد الله (عليه السلام )، لم يكن بذاك . له كتاب يرويه جماعة، أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثـنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثـنا محمد بن أحمد الكلابـي قال حدثـنا علي بن إسحق بن عمار قال حدثـنا شريف بن سابق عن الفضل بكتابه)(إنـتهى جش) . وقال عنه الطوسي في رجاله ... التفليسي . وفي رجال ابن الغضائري (هُوَ ضَعِيْفٌ، مُضْطَرِبُ الأمْرِ )، وقال فيه أيضاً (آذربـيجاني، أصله كوفي)
[3] تفسير العيّاشي : ج1، ح297، ص283. . في وثاقة أبـي الجارود كلام معروفٌ، ولكننا نوثّقه لتوثيق المـفيد له ولمدحه مدحاً بليغاً، ولتوثيق سعد بن عبد الله له، نقله النجاشي في ترجمة زياد بن عيسى، وقاله ابن فضّال، نَـقَلَه عنه الكشّي، وقال العلاّمة ثقة صحيح، ولا يضر فساد عقيدته بوثاقته
[4] سورة الشورى : 42 .