الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
37/12/19
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الفرق بـين الماهيّة الشاملة والماهيّة المهمَلة
الماهيّة المطلـَقة على نحوين : فإمّا أن تـفيد الشمولَ وإنما أن تكون مهمَلةً .
بـيانُ ذلك : إذا كان المتكلّمُ في مقام بـيان موضوع الحكم وتفاصيله ، أو على الأقلّ يُحتمَل أن يكون في مقام بـيان تمام الموضوع ، فإنه يستفاد من إطلاق كلامِه الشمولُ أو البدليّة ، وفي هكذا حالة نطلق على موضوع الحكمِ تعبـيرَ (الماهيّة الشاملة) ، إشارةً إلى استفادة الشمول من إطلاق الماهيّة ، لكون المتكلّم في مقام البـيان أو يحتمل أن يكون في مقام البـيان ، مثالها قول المولى لخادمِه وهو في مقام البـيان للعمل : (أكرِمِ العالِمَ) .
وأمّا إن لم يكن المتكلّمُ في مقام بـيان تفاصيل موضوع الحكم فإنّ السامع لا يستفيد من إطلاق كلام المتكلّمِ الشمولَ ولا البدليّة ، وإنما يستفيد إرادةَ أصل الحكم فقط ، وفي هكذا حالة يكون موضوع الحكم مهمَلاً ، ويطلقون عليه إسمَ (الماهيّة المهمَلة) ، فالماهيّةُ المهملة هي التي يفيدها اللفظُ الصادر من المتكلّم الذي لا يكون في مقام بـيان جميع التفاصيل ، وإنما يكون في مقام بـيان أصل الحكم ، ولذلك لا يستفاد من الإطلاق ـ في هكذا حالة ـ الشمولُ ولا البدليّة .
مثلاً : قولُ الله تعالى ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) [1] ليس في مقام بـيان تفاصيل الصلاة والزكاة ، وإنما هو في مقام إفادة أصلِ وجوبهما ، كلمةُ (الصلاة) هنا مطلقةٌ مِنَ القيود ، ومع ذلك هي ماهيّة مهمَلة من حيث الحدود . وكذا في كلام العرف ، فلو قال الأبُ لأولاده ( تصدّقوا على الفقير واعطفوا على المسكين وعاشروا الزوجةَ بالمعروف وساعدوا المحتاج ...) فإنه لا يستفاد منها الشمول لكلّ فقير ومسكين وزوجة ومحتاج ، وذلك لأنّ المولى ليس في هكذا سياق في محلّ بـيان جميع خصوصيّات الفقراء والمساكين والأزواج والمحتاجين ، وإنما هو في محلّ بـيان أصل الأحكام ، وليس في مقام بـيان جميع تفاصيل الفقراء والمساكين ...
أمّا لو قال المولى لخادمِه وهو في مقام البـيان للعمل : (أكرمِ الفقيرَ) فالسامعُ يستفيد من هذا الإطلاقِ الشمولَ الإستغراقي لكلّ فقير ، وكذا إذا قال (أكرم فقيراً) فإنه يستفاد من هذا الإطلاقِ الشمولُ البدلي ، أي لك أن تكرم أيّ فقير حتى ولو كان كافراً ، ولذلك تكون كلمتا (الفقير) و (فقيراً) هنا ماهيّتين شاملتَين .
وإنما قلنا قبل قليل (أو على الأقلّ يُحتمَل أن يكون المتكلّمُ في مقام بـيان جميع تفاصيل الموضوع ) لكون الأصل العقلائي أن يكون المتكلّم في مقام بـيان جميع التفاصيل ، فأنت إذا قلتَ لخادمك (تصدّقْ على فقير) ولم تقيّد ذلك ، فإنّ للفقير أن يقول : (الأصلُ أن يكون الآمِرُ في مقام بـيان تفاصيل الموضوع) ، فللخادم أن يتمسّك بهذا الظهور ـ أي بهذا الإطلاق ـ ليكون حجّةً له أمامك .
هذا ، ولكن جرت عادة علمائنا (رحمهم الله وحشرنا معهم) أن يجعلوا (الإطلاقَ) في مقابل (الإهمال) ـ مع أنّ الإطلاق والإهمال كلاهما غير مقيّدين ـ ويقصدون بالإطلاق إرادةَ الشمول والإستغراق أو البدليّة ، فوضعوا الماهيّة المطلقة في مقابل الماهيّة المهملة ، مع أنّ المهملة هي أيضاً مطلقة ، لكنهم اتفقوا على اصطلاح الإهمال ويقصدون منه ما إذا لم يكن المتكلّمُ بصدد بـيان تمام الموضوع . على كلٍّ نحن نراعيهم في الإصطلاحات ، والأمر سهل لأنها مجرّد اصطلاحات معلومة المعنى .
فصلٌ : هل الأوامر والنواهي متعلقةٌ بالطبائع الكليّة أم بالأفراد الشخصيّة ؟
وبتعبـير آخر : هل الأحكامُ القانونية الكليّة متعلّقةٌ بالموضوعات الكليّة الذهنيّة فقط ، أم أنّ خصوصيّات الأفراد مطلوبةٌ أيضاً ؟
لا شكّ في أنَّ الأحكام القانونية الكليّة متعلقةٌ عقلاً ـ في مرحلتَي التصوّر والتقنين ـ بالطبائع الكليّة القابلة للإيجاد في الخارج ، وإلاّ فلا معنى لِطَلَبِ الطبـيعة دون طلبِ إيجادها ، فإذا قال المولى (آمُرُكَ بالصلاة) فمعناه آمُرُكَ بإيجاد الصلاة، وليس معناه آمرك بماهيّة الصلاة دون إيجادها ، فإنه لا معنى له ، ولكن من باب التساهل في التعبـير يقولون إنّ الأوامر والنواهي متعلقةٌ بالطبائع ، ومرادُهم (بوجود الطبائع) . على كلٍّ ، ليست الأحكامُ القانونيةُ متعلّقةً بخصوصيّات الأفراد ولوازمِ الجزئيّات والمقارِنات الوجوديّة[2] ، أو قُلْ : إنّ موضوعات الأحكام القانونيّة ـ في مرحلتَي التصوّر والتقنين ـ هي كلّيّة ذهنيّة . ومراد العلماء من الطبائع هنا هو وجودها العنواني في الذهن القابلُ للإيجاد مع غضّ النظر عن الأعراض واللوازم الخارجيّة ، كما أن المراد بالأفراد هو الطبـيعة مع الأعراض الخارجية. وليس مرادنا من كلامنا السالف الذكر هو أنّ الأحكام متعلّقةٌ بالموضوعات الذهنيّة المحضة الغير قابلة للتحقيق والإيجاد في الخارج ـ كالصلاة الكلّيّة أي الموصوفة بوصف عقلي ، فتصير بسبب هذا الإتّصاف العقلي غيرَ قابلة للوجود في الخارج ، وهذا الكلّي يعبّرون عنه بالكلّي العقلي ـ فإنّ هذا المعنى لا يصدر من العقلاء ، فلا يمكن أن يريد الآمرُ الحكيمُ إيجادَ الصلاة الذهنيّة المحضة الخالصة من الأعراض الخارجيّة ، وذلك لأنّ كلّ فرد ممتـثَل لا بدّ أن يتخصّص بخصوصيّات خارجيّة معيّنة .