الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
37/12/17
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الإنتهاء من مباحث الأوامر ننظر إلى بقيّة مباحث الألفاظ وهي :
الموضوع : الإطلاق والتقيـيد
إن تصوّرتَ مفهوماً ما ولم تـتصوّر معه قيداً ما ، فهذا التصوّر مطلق ، أي غير مقيّد ، وذلك كما لو تصوّرتَ الفقير ، من دون أن تـتصوّر مع الفقير كونَه هاشميّاً مثلاً ، فهذه الماهيّة المتصوّرة مطلقة ، وأمّا إن تصوّرتَ معها بعضَ القيود ـ ككونه هاشمياً مثلاً ـ فهي ماهيّة مقيَّدة .
من هنا تعلم أنّ الإطلاق إنما يكون في عالم التصوّر فقط ، أي في الذهن فقط ، ولا يكون المطلق في الخارج أصلاً وأبداً، إلاّ اللهَ جلّ وعلا ، ففي الخارج يكون الفرد مقيّداً بلوازمَ وعوارضَ قهريّةٍ ، وذلك لأنّ كلّ فرد خارجي ـ ما عدا الباري تعالى ـ يكون له ماهيّة ، أي حدود ، مِن كمٍّ وكيف ووَضْعٍ وزمانٍ وو .. ، أمّا الباري تعالى فماهيّتُه عينُ وجودِه ، فهو المطلق من كلّ قيد ، وما عداه مقيّد بماهيّة ، حتى ولو كان الصادرَ الأوّل . ولم يتعرّض علماؤنا للباري عزّ وجلّ وخلْقِه في هذا البحث ، لأنّ كلامنا إنما هو في المفاهيم الذهنيّة ، وليس في الوجودات الخارجيّة .
وقد وقع الكلام في أن اسم الجنس ـ كالإنسان والفقير والعالِم ـ هل هو موضوع للمعنى الملحوظ بنحو الإطلاق فيكون الإطلاق قيداً في المعنى الموضوع له ـ كما كان الرأيَ السائدَ قَبل زمان سلطان العلماء ـ أم هو موضوع لذات المعنى الذي قد يطرأ عليه الإطلاقُ تارة والتقيـيد أخرى ـ كما هو رأي سلطان العلماء وإلى زمانـنا هذا ، كالمحقّق النائيني والسيد الخوئي وغيرهما [1] ـ ؟
لا شكّ في أنّ الصحيح هو الثاني ، وهو أنّ اسم الجنس موضوعٌ لذات المعنى الذي قد يَطرأ عليه الإطلاقُ تارةً والتقيـيد أخرى ، أي أن إسم الجنس كالإنسان ـ مثلاً ـ موضوع لماهيّة الإنسان المهمَلةِ من الإطلاق والتقيـيد ، ولذلك يصحّ أن يقيَّد من دون أن نقع في المجاز ، أمّا لو كان الإطلاق داخلاً في المعنى ثم قيّدناه فسوف نكون قد استعملنا اللفظَ المطلقَ في المقيّد ، وهو استعمال في غير المعنى الموضوع له ، وبالتالي سوف يكون الإستعمالُ مجازيّاً ، والمفروض أننا لا نشعر بالمجازيّة ، إذن ليس الإطلاقُ دخيلاً في معنى إسم الجنس ، وإنما اسمُ الجنسِ موضوعٌ لذات الماهيّة المهمَلة من ناحية الإطلاق والتقيـيد والقابلة للإطلاق والتقيـيد من دون أن نقع في المجازيّة وإنما يـبقى الإستعمالُ حقيقيّاً ، وهذا أمْرٌ ينبغي أن يكون بديهيّاً .
ثم اعلم أنّ الإنسانَ قد يَلحظ الماهيّةَ مطلقةً ، أي شاملة لكلّ عالِمٍ ـ كما لو قال المولى لخادمه (إحترمِ العالِمَ) ـ ، وقد يَلْحَظُها مقيّدةً بِقَيد العدالة ـ كما لو قال (إحترمِ العالِمَ العادلَ) ـ ، وقد يَلحظها مهملةً من قيد العدالة ، لكنه يقيّدها بقيد آخر كالهاشمي مثلاً ، فتكون مهملة من جهة ومقيّدة من جهة اُخرى ، وقد يلحظها مهمَلةً من جميع الجهات ، كما لو قال (إنّ الإنسانَ لفي خسر ، لأنه يخسر من عمرِه في كلّ دقيقة ...) أي المنظور إليه هو الإنسان من حيث هو إنسان، مع غضّ النظر عن صفاته . ولا شكّ في أنّ اسم الجنس موضوع للمعنى الأخير وهو ذات الماهيّة المهمَلة ـ أي الغير مطْلَقة ولا المقيّدة ـ القابلة لإيجاد مصاديقِها في الخارج ، وهذا أمْرٌ نشعر به بالوجدان ، فإنك إذا سُئِلْتَ عن معنى (إنسان) مثلاً فسوف تجيـب بماهيّة الإنسان المهملة من جميع الجهات ، ولن تقول (هو البشر المطلق بشرط الإطلاق) ، لأنّ هذا المعنى هو ذهنيّ محض ولا يوجَد له مصاديق في الخارج .
ثم إنّ القيد قد يكون أمراً وجودياً ـ كما لو قال المولى لخادمه أكرِمِ الفقيرَ العادلَ ـ وقد يكون أمراً عدميّاً ـ كما لو قال له أكرِمِ الفقيرَ إلاّ الفقيرَ الفاسقَ ـ ، ويعبّرون عن القيد الوجودي بـ شرط شيء ، وعن الشرط العدمي بـ شرط لا ، وأمّا الإطلاق فهو عدم الشرط ، وقد يعبّرون عنه بـ لا بشرط .
والمراد من (الماهيّة المهمَلة) هو الماهيّة اللابشرط المـقْسَمي ، فإنها موجودة في الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ، وليست هذه الماهيّة عقليّةً محضة ـ كالإنسان النوع الذي لا يوجد إلاّ في الذهن ـ كي يقال بأنها لا يمكن إيجادُها في الخارج ، وإنما المراد من الماهيّة اللابشرط المـقْسَمي هي تلك الماهيّة التي توجد في الخارج ، ولكن مع غضّ النظر عن مَقْسَمِيّتها وجامعيّتها ، وإنما النظر مقصور على ذات الماهيّة لا غير .
وهي ـ أي الماهيّة المهمَلة ـ نفسُها الماهيّةُ المرئيّة من الماهيّة اللابشرط القِسْمي ـ التي هي في مقابل الماهيّة المطلقة والماهيّة المقيّدة ـ ولا فرق بـينهما .
ثم اعلمْ أنّ المولى العادي إذا أمَرَ خادمَه بأن يتصدّق على الفقير ـ مثلاً ـ ولم يقيد الفقيرَ بقيدٍ ، فهو عادةً لا يلحظُ إلاّ ذاتَ الماهيّة ، ولا يلحظ كلّ التقيـيدات ، ولو لأنها لا حدّ لها ، ولكنْ عدمُ اللحاظ لا يُتصوّر في الباري تعالى ، فيجب عقلاً أن نقول إنّ الإطلاق عند المولى عَزّ وجَلّ هو لحاظ عدم التقيـيد . صحيحٌ أنه يكفي عدمُ لحاظ القيود في تحقّق الإطلاق ، لكنْ عدمُ اللحاظ لا يُتصوّر في الله جلّ وعلا الملتفِتِ دائماً إلى كلّ شيء . ولذلك نقول إنّ الإطلاق عند المولى العادي هو عدم اللحاظ ، وعند الله جلّ وعلا هو لحاظ العدم .
على كلٍّ ، فإن لم يقيّد المولى الفقيرَ بقيدٍ مع قدرته على التقيـيد ومع كونه في مقام بـيان تفاصيل الموضوع ومع التفاته إلى الإطلاق والتقيـيد فهذه المقدّمات تـثبِتُ أنّ المتكلّمَ لا يريد ـ ثبوتاً ـ التقيـيدَ ، إذ لو كان يريد التقيـيدَ لَقَيَّدَ . هذه المقدّمات اللفظيّة والحاليّة يسمّونها ـ كإصطلاح ـ مقدّمات الحكمة أو قرينة الحكمة ، وإن كان الاَولى أن نسمِّـيَها مقدّمات الإطلاق .
وأمّا إنْ قيَّدَ ، فالتقيـيدُ على نحوين ، فإمّا أن يكون من قبـيل "أكرمِ الفقيرَ العادلَ" وإمّا أن يكون من قبـيل "إن كان الفقير عادلاً فأكرِمْه" ، وسيأتي في بحث المفاهيم الفرقُ بـينهما ، ومختصرُه هنا هو أنه ـ في الصيغة الأولى ـ إنِ انتفتِ العدالةُ من الفقير فقد يجب إكرامُه بملاك آخر كالعالميّة أو الهاشميّة ، أي إن انتفت عدالته فإنّ شخص وجوب الإكرام ينـتـفي ، وذلك لأنّ (الفقير العادل) هما بمثابة الكلمة الواحدة ، فكأنك قلتَ أكرِمْ هذا الصنفَ من الناس ، فهكذا جملةٌ لا تـنفي وجوبَ إكرام صنف آخر من الناس ، كالفقير الهاشمي .
لكن ـ في الصيغة الثانية ـ إن انـتـفتِ العدالةُ وكنّا قد استفدنا انحصارَ وجوب إكرامه بكونه عادلاً فلا يجب ح إكرامُ الفقير بأيّ ملاك آخر ، أي ينـتـفي طبـيعي وجوب الإكرام ، وهذا هو الفرق بـين الجملة الوصفية والجملة الإنحصارية .
ولو تعارض الدليلُ المطلَقُ مع الدليل المـقيّد فلا شكّ ـ عند الناس ـ في لزوم تقديم الدليل المقيِّد على الدليل المطلق ، لأنّ الدليل المقيد فيه تصريح بالتقيـيد ، وأمّا الدليلُ المطلق فالإطلاقُ فيه يَعتمد ـ كما عرفتَ ـ على ظهور الحال ، والنصّ الصريحُ أقوى بـياناً من الظهور .