الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
37/08/27
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : آخر بحث الضدّ ونظريّة الترتّب
وأمّا في الضدّ الخاصّ :
قلنا أمس إنه إذا بَنَى المكلّفُ على عدم الإنقاذ ، فلا معنى عقلاً لبقاء تـنجيز الحكم بالإنقاذ ، لأنّ التـنجيز هو حكم عقليّ محض ـ وليس حكماً شرعياً ـ وبقاؤه العقلي لغْوٌ محض ، بمعنى أنه لا يـبقى الإنقاذ مانعاً عقلاً ، فيرجع تـنجيزُ وجوب الصلاة عقلاً ، بلا مانع . أمّا سقوط الوجوب الفعلي للصلاة ـ بعد تحقّقه بوجود العقل والبلوغ والزوال ، أي بعد تحقّق العلّة التامّة للوجوب الفعلي للصلاة ـ فلا وجه له عقليّ . أمّا وجوبُ الإنقاذ فلا شكّ في بقاء فعليّته ، لأنه أمْرٌ عقلي تكويني محض ، وذلك لبقاء علّة فعليّته ، ولا داعي لِرَفْعِ فعليّتِـه ، بل لا وجه لذلك . فيصير وجوبُ الإنقاذ فِعليّاً لا منجّزاً ـ بسبب البناء الأكيد على المعصية ـ ويصير وجوب الصلاة فعليّاً ومنجّزاً ، لعدم وجود مانع من رجوع تـنجيزه ، أي بعكس ما لو أراد الإنقاذَ ، فإنّ وجوب الإنقاذ يكون ح فعلياً ومنجّزاً ، ووجوب الصلاة يكون فعليّاً ، لكنْ غيرَ منجّز . وبتعبـير آخر : حين يصمِّم المكلّفُ على معصية الأمر بالإنقاذ يقول له العقلاء : إذن إنـتقل إلى المرحلة الثانية ـ وهذا معنى سقوط تـنجيز الأمر بالإنقاذ ـ وهي وجوب امتـثال الأمر بالصلاة ـ وهو معنى رجوع التـنجيز إلى وجوب الصلاة ـ ، ولعلّك تعلم أنه لا مزاحمة بين الوجوبين الفعليـين للإنقاذ وللصلاة ، وإنما المزاحمة بين حكمين منجّزين ، كما لا تعارض ـ أي في عالم الجعل ـ بين وجوب الإنقاذ ووجوب الصلاة .
ثم إنه يكفي إثباتُ إمكانِ الترتّب للقول بوجوده ـ أي بوجود أمْـرٍ بالمهمّ ـ فلو أثبتـنا إمكانَ الترتّب الطولي بين الأهمّ والمهمّ ـ بمعنى أنه لو أثبتـنا مجرّدَ إمكان أن يقول الباري تعالى "إنْ لم تُرِدِ امتـثالَ الأهمّ فأتِ بالمهمّ" ـ فهو كافٍ في القول بأنه هو الحقّ في الخارج ، وأنه منجّزٌ علينا ، وذلك لأنه حكم عقليّ محض ، ولا مانع منه عقلي أو شرعي ، فهو لا ينـتـظر شيئاً آخر ـ غير التمسّك بإطلاقات الأدلّة ـ ليصير منجّزاً .
لا شكّ أنك تعلم أنّ الكسر والإنكسار في مرحلة الملاك إنما هو من شأن المولى تعالى ، فهو العالم بالمصالح والمفاسد ، وأمّا نحن فيصعب علينا أن نعرف بالنـتيجة وحُكْمِها ـ بعد الكسر والإنكسار بين المصالح والمفاسد ـ في الكثير من الحالات ، وأمّا تشخيص الأهمّ ـ لِنُقَدَِّّمه على المهمّ ـ فقد يكون من وظيفة العبد ، والعبدُ وإن كان قد يخطئ في بعض الحالات في تشخيص الأهمّ إلاّ أنّ عليه أن يَـبْذُلَ جُهدَه في امتـثال أوامر المولى جلّ وعلا ، ولو بأن يَسأل الفقيهَ المجتهدَ ، فإنه أدرَى بالأهمّ عادةً ، فمثلاً : لو وَجَدَ العامّي القليلَ من الماء لا يكفي إلاّ لشيء واحد من تطهير ثوب صلاته الذي لا يملك غيرَه أو يكفي لوضوئه فقط ، فالمجتهدُ يقول له طهّرْ ثوبَك وتيمّمْ ، لأنّ للوضوء بدلاً شرعياً فإنّ الأرض أحدُ الطهورين ، وهذا هو المتعيّن وهو أحوط من أن يصلّيَ عارياً أو بنجاسة ، وكذلك إذا تردّد العامّيُ بين الوضوء وإدراك ركعة واحدة فقط من صلاته وبين أن يتيمّم ويوقعَ كلّ صلاته في وقتها ، فإنه إذا رجع العامّيُ إلى الفقيه لقال له أن يتيمّم لتقع كلّ الفريضة ضمن الوقت ، وكما في معلوميّة ترجيح الواجبات الإلهيّة الأوليّة على الواجبات بالعناوين الطارئة ، كما لو أوجب على نفسه زيارةَ الإمامِ الحسين (عليه السلام) كلّ يوم عرفات ، فإنه لو استطاع إلى الحجّ لوجب عليه تقديمُ الواجبات الشرعيّة الأوليّة على الواجبات الطارئة بنذر أو يمين أو عهد ، فإنّ شرط الله قبل شرطكم ، وكذا لو نذر أن يسبّح الله تعالى من أذان الظهر إلى غروب الشمس ، بحيث لا يـبقى مجالٌ لصلاة الفريضة ، فإنّ عليه أن يصلّي ويترك امتـثال الواجب العرَضي ، فإنّ شرط الله قبل شرطكم كما في الرواية[1] .. فإنْ لم يعلمِ المكلّفُ الأهمَّ ـ رغم المراجعة وبذْلِ الجهد ـ فح مِنَ الطبـيعي أنّ العقل يَحكُمُ بترجيح مظنونِ الأهميّة ، وإلاّ فمع عدم الظنّ يكون مخيّراً بـينهما ، كما لو كان يغرق غريقان لا نُرَجّحُ واحداً منهما على الثاني بنظر الله تعالى ، أي لا نعرف أيّهما الأهمّ عند الله جلّ وعلا ، وبهذا يحكم العقلُ .