الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
37/08/25
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الضدّ الخاصّ ونظريّة الترتّب
... وأمّا في الضدّ الخاصّ :
فإنْ وجَبَ الأهمُّ ـ كالإنـقاذ ـ فإنه لا تحرم أضدادُه ـ كالصلاة ـ وإنما يكون تحريم الضدّ ـ أي الصلاة ـ من باب لزوم تقديم الأهمّ ، لا من باب التحريم الذاتي للصلاة . مثال آخر : أنت تعلم حرمةَ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ، لقول الله تعالى ( إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا البَـيْعَ )[1] ولكنْ تحريمُ البـيع عند النداء لصلاة الجمعة ليس تحريماً للبـيع من باب مبغوضيّة نـتيجة المعاملة ـ كما كان الحال في المعاملة الربويّة وفي بـيع الخمر المبغوضَين ذاتاً لِبُغْضِ نـتيجتهما ـ وإنما هو تحريم تزاحمي فقط ، أي لأجل وجوب تقديم الأهمّ ـ وهي الصلاة ـ على البـيع فقط ، ولذلك إذا باع عند النداء لصلاة الجمعة فقد أجمع العلماءُ على صحّة البـيع ، وتمسّكوا لذلك بأكثر من دليل من قبـيل ( اَوفوا بالعقود ) و ( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَـيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ )[2] ولا وجه لبطلان البـيع . نعم ، يقع البائع في الحرمة التكليفيّة بلا شكّ ، لا أنّ بَـيعَه يكون باطلاً والثمنُ سحتاً . وكذا الأمْرُ في الصلاة ـ التي هي ضدّ خاصّ للإنـقاذ ـ فلو تَرَكَ المكلّفُ الإنـقاذَ وصَـلّى ، فإنّ صلاته لا يكون منهيّاً عنها بالذات ، وإنما لو فرضنا النهيَ عنها ـ وليس منهياً عنها في الواقع كما سيأتي ـ فهو نهي تزاحمي ليس إلاّ ، ولذلك لو ترك الإنـقاذَ وصلّى لكانت صلاته صحيحةً بلا شكّ ، وذلك لعدم النهي عنها ذاتاً .
أمّا أنْ يقول شخصٌ بأنّ (ترْك الصلاةِ واجبٌ مقدّمةً للإنـقاذ ، إذن فالصلاةُ منهيٌّ عنها) ، فهذا اشتباه واضح ، فإنّ ترْك الصلاةِ ـ مع فرض عدم إرادة الإنـقاذ ـ لا يكون مقدّمة للإنـقاذ ، ولا يصحّ أن يكون مانعاً وجزءَ العلّة للإنـقاذ ، فقد يَتركُ الإنـقاذَ ويَترك الصلاةَ أيضاً ويذهبُ ويلعب أو ينام ! إذن ترْكُ الصلاةِ ليس مقدّمة للإنـقاذ . على أنّ التركَ أمْرٌ عدميّ فلا يمكن أن يكون مقدّمة للإنـقاذ التي يجب أن تكون ـ أي المقدّمة ـ أمْراً وجودياً ، فإنّ العدم هو لا شيء ، فكيف يكون مقدّمة أو جزءً للعلّة ؟! فلو أراد أن يُنقِذَ ، فجاءه مانعٌ ، فلَمْ يَستطِـعْ على الإنـقاذ ، فهذا المانع هو أمر وجودي .
وبتعبـير آخر : مع عدم وجود المقتضي للإنـقاذ لا يصحّ أن يقال كانت الصلاة مانعاً عن الإنـقاذ ، ومع عدم وجود النار لا يصحّ عقلاً أن يقال كان وجود الحديدة مانعاً عن احتراق الورقة .
فإن قلتَ : يكفي عدمُ وجودِ أمْرٍ بالعبادة للقول بـبطلان العبادة ، بلا حاجةٍ إلى إثبات النهي عن الصلاة ، كما يقول الشيخ البهائي[3] ، ومع وجود الأهمّ لا يمكن عقلاً أن يؤمر بالصلاة .
قلتُ : بل لا شكّ في وجود أمْرٍ بالعبادات بنحو الإطلاق ـ أي حتى في حال مزاحمتها بالأهمّ ـ فالأمرُ بالصلاة ونحوِها غيرُ مقيّد بعدم الأمر بالأهمّ ـ وهنا بدأنا بالتعرّض لـ نظريّة الترتّب[4] ـ وذلك للإطلاق اللفظي في الأمر بالصلاة وغيرها ، نحو (اَقيمُوا الصلاةَ ) و ( آتُوا الزكاةَ ) و (للهِ على الناسِ حِجُّ البـيتِ مَنِ استطاعَ إليه سبـيلاً ) و (كُتِبَ عليكم الصيامُ ) فهي عبادات محبوبةٌ ذاتاً ومأمور بها مطلقاً ، لكنها في مقام الإمتـثال من الطبـيعي أن يقدّم الواجبُ الأهمّ ـ كالإنقاذ ـ على المهم .
لا ، بل تقديمُ الأهمّ هذا لا يقتضي أن يَرفع الحكمَ الفعليّ عن المهمّ ، وإنما يقتضي أن يَرفع التـنجيز لا أكثر ، ولا داعي لأنْ يَرْفَعَ الفعليّةَ أيضاً ، بل لا وجه عقليّ لِرَفْعِها .
وعليه فلو بَنَى على معصيةِ الأمرِ بالأهمّ ولم يُرِدْ تـنفيذَه ، فلا وجه عقلي ولا عقلائي لأنْ يَترُكَ الصلاةَ أيضاً ، وإنما تفعل فعليّةُ الأمر بالصلاة فِعْلَها ، فـتُرجِـعُ التـنجيزَ للأمر بالصلاة ، وذلك لعدم وجود مانع عقلي من التـنجيز حينـئذ ، ولذلك لو تَرَك الأهمَّ ـ كالإنـقاذ ـ وصلّى ، فلا شكّ في صحّة صلاته تمسّكاً بإطلاق ( اَقيموا الصلاةَ ) لإثبات بقاء فعليّة الحكم بوجوب الصلاة بل ولتـنجيز وجوب الصلاة ـ رغم استحقاق العقاب على ترك الأهمّ ـ ، فأنت تعلم أنه إذا كانت مقدّمات الوجوب متحقّقة في الصلاة ـ وهي البلوغ والعقل والزوال ـ فلا شكّ ح في وجوبها الفعلي ، وإنما الذي يرتـفع ـ بسبب الأهمّ ـ هو خصوصُ تـنجيز حكم الصلاة ، وهذا ما يسمّونه بـ (نـظـريّـة الـتـرتُّـب) أي يترتّب على عدم إرادة الإنقاذِ رجوعُ التـنجيز إلى الأمر بالصلاة ، أي يحكم العقل بأنه إن لم تفعلِ الأهمّ فافعلِ المهمَّ ولا تتركْه .
فإن قلتَ : ما الوجه أو قُلْ : ما الفائدة في بقاء فعليّة وجوب الصلاة وتنجيزه ـ مع وجوب الإنقاذ ـ ، أليس بقاء فعليّة الأمر بالصلاة وبقاء تنجيزه هما أمران لغويّان محضاً ؟ وهل أنه بمجرّد البناء على عدم الإنقاذ يرتفع الوجوبُ التـنجيزي للإنقاذ ؟ ثم كيف يمكن اجتماع حكمين فعليـين متزاحمين في وقت واحد ؟!
قلتُ : إعلمْ أنه إذا بَنَى المكلّفُ على عدم الإنقاذ ، فلا معنى عقلاً لبقاء تـنجيز الحكم بالإنقاذ ، لأنّ التـنجيز هو حكم عقليّ محض ـ وليس حكماً شرعياً ـ وبقاؤه العقلي لغْوٌ محض ، بمعنى أنه لا يـبقى الإنقاذ مانعاً عقلاً ، فيرجع تـنجيزُ وجوب الصلاة عقلاً ، بلا مانع . أمّا سقوط الوجوب الفعلي للصلاة ـ بعد تحقّقه بوجود العقل والبلوغ والزوال ، أي بعد تحقّق العلّة التامّة للوجوب الفعلي للصلاة ـ فلا وجه له عقليّ . أمّا وجوبُ الإنقاذ فلا شكّ في بقاء فعليّته ، لأنه أمْرٌ عقلي تكويني محض ، وذلك لبقاء علّة فعليّته ، ولا داعي لِرَفْعِ فعليّتِـه ، بل لا وجه لذلك . فيصير وجوبُ الإنقاذ فِعليّاً لا منجّزاً ـ بسبب البناء الأكيد على المعصية ـ ويصير وجوب الصلاة فعليّاً ومنجّزاً ، لعدم وجود مانع من رجوع تـنجيزه ، أي بعكس ما لو أراد الإنقاذَ ، فإنّ وجوب الإنقاذ يكون ح فعلياً ومنجّزاً ، ووجوب الصلاة يكون فعليّاً ، لكنْ غيرَ منجّز . وبتعبـير آخر : حين يصمِّم المكلّفُ على معصية الأمر بالإنقاذ يقول له العقلاء : إذن إنـتقل إلى المرحلة الثانية ـ وهذا معنى سقوط تـنجيز الأمر بالإنقاذ ـ وهي وجوب امتـثال الأمر بالصلاة ـ وهو معنى رجوع التـنجيز إلى وجوب الصلاة ـ ولعلّك تعلم أنه لا مزاحمة بين الوجوبين الفعليـين للإنقاذ وللصلاة ، وإنما المزاحمة بين حكمين منجّزين ، كما لا تعارض ـ أي في عالم الجعل ـ بين وجوب الإنقاذ ووجوب الصلاة . وأمّا اجتماعُ حكمَين فعليـَّين متخالفَين في وقت واحد ـ كالإنقاذ والصلاة ـ فأمْرٌ لا مشكلة فيه لا على مستوى الجعل ولا على مستوى الإمتـثال .
ثم اعلمْ أنه حتى لو قلنا بعدم وجود أمْرٍ في الصلاة وبارتفاع فعليّته فلا يـبعد تصحيحُ الصلاة بوجود ملاك فيها ، أي تصحَّح الصلاةُ لمحبوبـيّتها عند الله سبحانه وتعالى ، فعندئذٍ يمكن التقرّب بها إلى المولى جلّ وعلا [5] .