الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/08/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التميـيز بين الواجبات النـفسيّة والواجبات الغَيريّة

التميـيز بين الواجبات النـفسيّة والواجبات الغَيريّة

لا شكّ أنك تعرف الفرق بين الواجب النفسي والواجب الغَيري ، فقد قالوا إنّ الواجب النفسي هو ما يكون محبوباً ومطلوباً وواجباً بحدّ ذاته لما يترتّب عليه من فوائد ومصالح في نفسه مع غضّ النظر عن غيره ، كمعرفة الباري عزّ وجلّ والصلاة والصيام وأداء الدَين ، إذن فالواجب النفسي هو ما يكون وجوبه ابتدائيّاً ، أي غيرَ مترشِّحٍ من وجوب آخر .

وأمّا الواجبُ الغَيري فهو الذي يكون الداعي إليه التمكّنَ من الإتيانِ بالواجب النفسي لتوقّفه عليه ، كالسير إلى الحجّ والوضوء للصلاة ، فإنّ المكلّف إنما يسير إلى الحجّ ويتوضّأ ليتمكّن من الإتيان بالواجب ، أو قُلْ ليتهيّأ للإتيان بواجبٍ آخر، ولذلك نقول إنّ الواجب الغيري هو الذي يكون وجوبُه مسبـَّباً عن وجوب الغَير ، ولذلك إن لم يُصَلِّ الإنسانُ مثلاً ولم يحجَّ فإنه لا يستحقّ العقابَ على ترك الوضوء والسير إلى الحجّ ، وذلك لما قلناه من أنّ الواجب الغَيري هو ما وجب لغيره ، ولا مطلوبـيّةَ ذاتيّة لِفِعْلِه لولا إرادةُ الإتيان بالواجب النفسي .

وعلى هذا الأساس قد يقال بكون العبادات كلِّها واجباتٍ غيريّةً ، فالصلاةُ واجبةٌ للوصول إلى مراتبَ عالية ، قال الله تعالى ﴿ اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَـنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْـنَعُونَ (45) [1] ولأنها معراج المؤمن ، وكذا الصيام ، لقوله تعالى ﴿ ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَـتَّـقُونَ (183) ﴾ [2] ... ومثلُهما سائرُ العبادات .

والجواب هو أنّ غايات العبادات لم تكن محطّ نظرِ المولى تعالى في الإيجاب ، خاصةً إذا صعب الوصولُ إلى الغايات المذكورة، ولذلك لو لم تَعْرُجِ الصلاةُ ببعض المصلّين إلى المراتب العليا لكانت صلاتُهم ـ رغم ذلك ـ صحيحةً ، ولو صام الشخصُ ولم يَصِرْ تَقِيّاً لصحّ صومُه أيضاً ... نعم الوصول إلى مراتب النهي عن المنكر وإلى مرتبة التـقوى هو أمْرٌ مطلوبٌ جداً ، ولكن لم يُوجِبْه الباري تعالى في هذه الموارد ، ولذلك قال جميع العلماء بأنّ الصلاة ونحوَها ليست واجبةً لواجب آخر، ولذلك قالوا هي واجباتٌ نفسيّة ، لا سيّما وأنّ نفس العبادات هي حسنة ومطلوبة في نفسها ، كمعرفة الباري جلّ وعلا ، فإنها واجبةٌ لنفسها ، لا لغيرها .

فإن قيل : إن قلتَ إنّ الصلاة وسائرَ العبادات هي واجبة لنفسها لحُسنها الذاتي ، فنقول : كذلك الوضوء وتطهير البدن والثياب هي أيضاً أمور محبوبةٌ في نفسها ، فلِمَ قلتم الصلاةُ وسائر العبادات واجبةٌ بالوجوب النفسي ، ولَمْ تقولوا الطهارتان المعنويّة والماديّة محبوبتان بذاتهما ومطلوبتان بالطلب النفسي أيضاً ؟!

قلنا : الفرقُ بـينهما هو أنّ الملحوظ في أحدهما غيرُ الملحوظِ في الآخر .

بـيانُ ذلك : المسألة راجعة إلى نظر الشارع المقدّس أوّلاً ، وبالتبع إلى نظر العرف ، فإنْ نظرْنا إلى الطهارة في نفسها ـ كما يَنظر إليها الشارعُ المقدّس في بعض الأحيان ـ قلنا هي محبوبةٌ شرعاً ومطلوبةٌ في نفسها ، وإن نظرنا إليها كمقدّمة لغيرها ـ كما هو نظَرُ آيةِ الوضوء ـ قلنا هي مقدّمة الواجب أو هي مقدّمة الصلاة . أمّا الصلاة والصيام فالعرف ينظر إليهما بحدّ ذاتهما ـ تَبَعاً لِنَظَرِ الباري عزّ وجلّ ـ لا بما أنهما مُوصِلان إلى العروج وإلى التقوى ، فإنّ العرف يرى أنّ نفس عبادة الله بالصلاة والصيام والحجّ وغيرها هي مطلوبةٌ في نفسها ، ولو نظروا إليها من جهة أنها مُوصِلةٌ إلى العروج والتقوى لقالوا هي واجبات غيريّة ، ولكنهم لا ينظرون إليها من هذه الجهة ، وذلك تبعاً للشارع المقدّس ، فإنّ الشارع المقدّس لم يقل بأنّ العروج والتقوى واجبان كوجوب الصلاة والصيام ـ كما قال في الوضوء ـ فإنّ جُلّ المؤمنين حينما يُصَلّون ويصومون ويحجّون لا يَصِلُون إلى المراتب العالية من العروج وامتلاك ملكة النهي عن الفحشاء والمنكر والتقوى ، ولو لصعوبة تحصيل ذلك على الناس ، فأمَرَ اللهُ جلّ وعلا بالعبادات لأنها عِلَلٌ مُعِدَّةٌ ومُقَرِّّبَةٌ مِنَ الغايات المنشودة . ولك أن تقول : العرفُ يَفهم من الأمر بالعبادات أنّ هناك غايات : دُنيا وقُصوَى وبـينهما مراتب ، أمّا الدنيا فأن يأتي الإنسان بالصلاة وغيرها من العبادات بشرطها وشروطها ، وأمّا القصوى فأن يصل إلى مراحل عالية من العروج والتقوى ، ويَفهم العرفُ من الآيات والروايات مطلوبـيّةَ نفسِ العبادات ولو بدرجتها الدنيا ، فهي إذن مطلوبةٌ في نفسها ، على الأقلّ على مستوى الدرجة الدنيا .


[1] سورة العنكبوت، آيه 45.
[2] سورة البقرة، آيه 183.