الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : مقدّمة الواجب

تذكير تابع للدرس السابق : قلنا سابقاً إنّ المراد بالحكم الظاهري ليس هو حجيّةَ خبر الثقة أو حجيّة سوق المسلمين واليد وغيرِها من الأمارات ، وليس هو حجيّةَ الأصول العمليّة ـ كما ادّعى بعض الناس ـ فهذه أحكام واقعيّة جُعِلَتْ لإفادة أحكام ظاهريّة ، والحكم الظاهري هو مؤدّى الأمارات الحجّة وهو الوظائف العمليّة المستـنبطة من الأصول العمليّة ، ولكنْ لمّا لم يتأمّل بعضُهم بما يقولون وقعوا بما وقعوا .

الأمر الثامن : مقدّمة الواجب

تساءل بعضُ الناسِ عن حُكْمِ مقدّمة الواجب شرعاً فقالوا : هل يَدِلّ الأمْرُ بشيءٍ على الوجوب الشرعي لمقدّمته أم لا ؟ لذلك جعلوا هذا البحثَ في هذا الموضع ، والصحيح أن يُجعل في المباحث العقليّة ، وذلك لوضوح عدم دلالة الأمْرِ على الوجوب الشرعي لمقدّمته ، وإنما الأمْرُ يدلّ على طلب خصوص الطبـيعة ، ولا يَنظُرُ إلى الوجوب الشرعي لمقدّمته أو لا، وإنما قلنا إنّ الصحيح هو جعْلُه في المباحث العقليّة لأنّ السؤال في هذه المسألة ـ كما سترى من أدلّة القوم ـ هو : هل الأمر بشيء يستلزم الأمر الشرعي بمقدّماته أم لا ؟ طبعاً بعد التسليم عند كلّ الناس بوجوب المقدّمة عقلاً ، فإذا أوجب المولى الحجّ فقد وجب السير إليه عقلاً ، لكن ليس كلام أحد في الوجوب العقلي ، وإنما هو في وجوب المقدّمة شرعاً .

وبتعبير آخر : حينما أوجب الله تعالى الحجَّ ، هل قال ويجب السير إليه أيضاً ؟ قطعاً لا ، لأنه لغوٌ محض . وإذا سألتَ النبيَّ عن وجوب السير إليه لأجابك النبيُّ : قطعاً يجب السير إلى الحج عقلاً ، وإلاّ كيف تحجّ إن لم تذهب إليه ؟!

وقد تقول : إنّ وجوب المقدّمة تبعي لوجوب ذيها ، بمعنى أنّ وجوبها معلول لوجوب ذيها ، ومعلول الوجوب الشرعي هو شرعي .

فأقول : لا يمكن أن يُنـتِجَ الوجوبُ الشرعيُّ للحجّ ـ مثلاً ـ وجوباً شرعيّاً للسير إليه ، وإلاّ لكان الوجوب الشرعيّ للسير قَهْرِيّاً على المولى تعالى ، وهذا لا يمكن . نعم لا شكّ في حكم العقل بلزوم الإتيان بالسير لتوقّف الواجب عليه ، وبهذا ينبغي أن يفسَّرَ الوجوبُ التبعي للواجب ، إذن وجوب المقدّمة عقليّ ، ولا يمكن ـ ثبوتاً ـ أن يكون شرعيّاً ، لأنه سوف يكون لغواً محضاً أو قهْرِيّاً على المولى تعالى ، وكلاهما غير ممكنَين .

 

ثم هل الوضوء هو واجب غيري شرعي أو عقلي أو ماذا ؟

الجواب : لا شكّ في أنّ الوضوء مستحب في نفسه لقوله تعالى [ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ ، قُلْ : هُوَ أَذًى ، فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُـتَطَهِّرِينَ (222)] [1] وللروايات المستفيضة في ذلك من قبيل أنه نور على نور وو ... ، ولكن هذه الأدلّة تـفيد استحباب الكون على طهارة ، وكلامنا الآن هو في الوجوب الشرعي أو العقلي للوضوء الذي هو مقدّمة للواجب فأقول : لا شكّ في أنّ الوضوء هو مقدّمة عقليّة لتحصيل الطهارة ، وأنّ آية [ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..][2] تدلّ على اشتراط الصلاة بالطهارة ، وعليه فالوضوء هو مقدّمة عقليّة للطهارة ، وإنما أرشدنا الله إليه ليقول لنا هذا هو الطريق لتحصيل الطهارة المعنويّة التي هي شرط الصلاة .

ثم اعلمْ أنّ المقدّمة قد لا تتصف بنفس صفات ذي المقدّمة ، فقد يكون الحجّ واجباً والسيرُ إليه محرّماً ، كما لو كان يسير إلى الحجّ في سيّارة مغصوبة . وكما لو دخل شخصٌ أرضاً غصباً لإنقاذ الغريق ، فلا شكّ في كون الإنقاذ واجباً عقلاً وشرعاً ، ورغم ذلك يكون الدخول في الأرض المغصوبة مبغوضاً ذاتاً وبالتالي حراماً فِعْلاً ، وذلك لأنّ الحرمة الفعليّة هي نتاج تكويني وقهري وطبـيعي وعقلي للملاك المبغوض . نَعَم ، هذا الدخولُ المحرّم فِعْلاً هو غير منجَّز على المنقِذِ ، لكونه يرتكب السيِّئَ لِدَفْعِ الأسوأ ، ولذلك إذا انحصر الإنقاذ بهذا الفرد المحرّم فِعْلاً فهو لا يستحقّ العقابَ ، وإنما يستحقّ الثواب . واستحقاقُ الثواب لا ينافي المبغوضيّةَ الفعليّة للمقدّمة .

ومِثْلُه ما لو اضطرّ الإنسانُ لأكْلِ المَيتةِ لإنقاذ حياته ، فيكون أكْلُه للمَيتة مبغوضاً ذاتاً وتكويناً وشرعاً ، وبالتالي هو يفعل الحرام الفعلي ، فأكلُ الميتة مبغوضٌ مطلقاً وتكويناً وحرام مطلقاً ، حتى ولو كان مضطراً إلى أكل الميتة ، ومع ذلك على مستوى التـنجيز هو يفعل الواجبَ شرعاً وعقلاً .

 


[1] سورة البقرة : 222.
[2] المائدة : 6.