الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/07/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : التعبّدية والتوصليّة والنـَّفْسِيّة والعَينيّة والتَّعْيِـينيّة

الأمر الأوّل : التعبّدي والتوصّلي

هل صيغةُ الأمر تدلّ بالإطلاق على عدم وجوب نيّة القربة في الفعل ـ كما في التطهير ـ أو لا ـ كما في الصلاة والصيام ـ ؟ بتعبير آخر : هل الأصلُ في الواجبات هو التعبّديّة أو التوصليّة ؟

قلنا في الدروس السابقة إنه مِنَ المعلوم أنه يمكن التمسّكُ بالإطلاق المقامي ، إذ لو كان الواجب تعبّديّاً لَذَكَرَه المعصومون (عليهم السلام) ...

ثم اعلمْ أن نيّة القربة في العبادات تصحّ بأيّ وجه مقرِّبٍ إلى الله تعالى ، كأنْ تكونَ لوجه الله أو تقرّباً إلى الله ، أو امتـثالاً لوجهه عز وجل ، أو شكراً له ، أو طمَعاً في ثوابه ، أو خوفاً من عقابه ... ولذلك إذا حصل عندنا شكٌّ في وجوب نيّة القربة فلك أن تجري الإطلاق المقامي أو الأحوالي ، فإن لم يمكن فالبراءة ، ولا وجه لجريان أصالة الإشتغال .

فإن قلتَ : كيف تُجري البراءةَ ، والحالُ أنه لا يمكن ـ أي على مستوى الجعل ـ إدخالُ نِـيّة امتـثال الأمر في نفس الواجب ـ طبعاً إذا أراد المولى تعالى هذه النيّةَ بالخصوص ـ فقد قيل إنّ هذا المعنى يورث التسلسل أو الدورَ .

قلتُ : يمكن للمولى عزّ وجلّ أن يجعل جعلاً أوّليّاً مهمَلاً ـ كأنْ يكونَ ( إدفعِ الخُمسَ ) ـ وجعْلاً ثانياً متمِّماً للجعل الأوّل أي بنحو (إمتَـثِلْ التكليفَ الأوّلَ بِـنِيّة القربة) ، على أنه ـ كما قلنا قبل قليل ـ يكفي في التعبّديّة أن يعمل الإنسانُ العملَ قربةً إلى الله تعالى ونحو ذلك من المقرِّبات إليه عز وجل ، ولذلك قال علماؤنا بجريان البراءة ، لأنه شَكٌّ في أصل التكليف بأمْرٍ زائدٍ في المركّب .

فإن قلتَ : إن لم يَـنوِ المكلّفُ نِـيّةَ القربة إلى الله سبحانه ، وكان الواجب عباديّاً في الواقع ، فهو لن يحقّق الغرضَ ، فعليه يجب القول بجريان أصالة الإشتغال ، أي العمل بالإحتياط .

قلتُ : نحن نعترف أنه لن يتحقّق الغرضُ الواقعي ، ولكن لا يَدخل الغرضُ الواقعيُّ في ذمّة المكلّف ، وإنما الذي يَدخل في ذمّته هو خصوص ما يعلمه ، بمعنى أنه لا يتـنجّز على المكلّف إلاّ ما عَلِمَ به فقط ، فأنت تعلم أنه رُفِعَ عن اُمّةِ رسول الله ) ص) ما لا يعلمون ، وهذا أمرٌ واضح عند جميع العلماء . وبعد هذا لا داعي لإتلاف الوقت فيما لا فائدة فيه .

الأمر الثاني : النـَّفْسِيّة والعَينيّة والتَّعْيِـينيّة

 

هل إطلاق صيغة الأمر يـقتـضي النفسيّة والعينيّة والتعيـينيّة أم لا ؟

لا شكّ في أنّ عدم تقيّد صيغة الأمر بكونه مقدّمةً لغيره يقتضي الإطلاق ، أي أنّ الأصل يقتضي أنّ الأمر هو نفسيّ ، لا غيري ، لأنّ كونَه غيرياً ، فيه تقيّدٌ زائد يُنفَى بالأصل العقلي والنقلي . فلو شككتَ في كون شيء نفسياً أو غيرياً لأجل أمْرٍ فلاني ، فالتقيّد بكونه لأجل أمر آخر فلاني هو قيد زائد . وبتوضيح أكثر : لو حصل عندك شكّ بين كون الحكم هكذا (إذا وجب شيء فتوضّأ) وبين كونه (توضّأ) ـ أي مطلقاً سواء وجب شيء أو لا ـ ماذا كنتَ فاعلاً ؟ ألا ترى نفسَك أنك تنفي القيدَ الزائدَ بأصالة البراءة وقاعدتها ؟ ليثبت بالتالي عدم التـقيّد ؟ مثالُ ذلك : لو قال لك المولى (توضّأ) ولم يقيّد هذا الأمرَ بوجوب الصلاة ـ أي لم يقل [إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ..] ـ فماذا تفهمُ منها ؟ ألا تفهم منها أنّ الوضوء واجب نفسي ؟ فأنت تلقائيّاً سوف تقول : لو كان الأمْرُ غَيريّاً لَقيَّدَ الوضوءَ بوجوب الصلاة، أي لَذَكَرَ غايةَ الوضوءِ ولَرَبَطَ المقدّمةَ بغايتها ، فحينما لم يقيّدِ الوضوءَ بالصلاةِ صار الوضوءُ واجباً مطلقاً ، أي سواء أردنا أن نصلّي أم لا .

وكذا الأمر فيما لو شككنا في كون المأمور به عينيّاً على الشخص ـ كالصلاة والصيام ـ أو كفائيّاً ـ كوجوب دفْنِ الميّت والصلاة عليه ـ فإنّ العقلاء يرَون أنّ الأصل في الطلب أن يكون عينيّاً، إذ لو كان كفائياً لَذَكَرَه المتكلّمُ الحكيم ولقال (أنت أو غيرك) ، فعدمُ ذِكْرِ كفايةِ الغَيرِ كافٍ في إثبات الوجوب العيني عليك بالإطلاق . توضيح ذلك : لو تردّدت بين كون الأمر (حِجَّ) أو (حِجَّ أنت أو غيرُك ) ـ ولو لاحتمالنا أن يكون الهدف من نحو الكفاية هو أن لا تخلو الكعبة المكرّمة من طائفِين ـ فقد قيل : عدمُ التقيـيد يفيد العينيّة . أقول : هذا التوجّه وإن كان لا بأس به ، وهو محلّ بحثـنا ، لكن لعلّ الأفضل هو التوجّه نحو جريان أصالة الإشتغال العقليّة ، فإنها أوضح ، بمعنى أنك إنِ احتملت كفايةَ أن يقوم غيرُك بالحجّ نِـيابةً عنك ، فإنّ قيام غيرِك بهذا الحجّ بدلاً عنك بما أنه غير معلوم الكفاية ، فلا شكّ في جريان أصالة الإشتغال حينـئذ ، لأنه شكّ في سقوط المكلّف به ، لكنْ إجراؤنا لأصالة الإشتغال يسحب البحث من هنا إلى مبحث ( الأصول العمليّة ) .

وكذا الأمر تماماً في التردّد بين التعيـينيّة والتخيـيريّة ، فصيغةُ الأمر (حِجَّ) لا تفيد أكثر من وجوب الحجّ ، ولا تفيد التعيـينيّة ، لكن من خلال عدم ذكْرِ بدائل أخرى في روايات صحيحة يفهم الإنسانُ بالإطلاق عدمَ البديل ، بمعنى أنه لو كان له عِدْلٌ لقال المتكلّمُ الحكيمُ: حِجَّ أو صُمْ أو أَطْعِمْ ، لكنه قال فقط : (حِجَّ) ، وظاهرُ الإطلاقِ التعيـينُ .

ولك أن تستدلّ بدليل آخر وهو : لو قال لك المولى مثلاً (اَعتِقْ) واحتملتَ كفايةَ أن تُطْعِمَ بدلَ الإعتاق ، فإنك إن أطعمت فسوف تشكّ ـ بحسب الفرض ـ في كفاية ذلك عن العتق ، ولذلك تجري أصالةُ الإشتغال العقليّة لا محالة ، لأنه شكّ في سقوط المكلّف به . لكن هذا الدليل الثاني ـ كما قلنا قبل قليل ـ خارج عن بحثـنا الذي هو معرفة مفاد صيغة الأمر .

ولذلك قال العلماء بجريان الإطلاق اللفظي ـ أي إطلاق صيغة الأمر ـ أو الإطلاق الأحوالي أو الإطلاق المقامي أو أصالة الإشتغال ، لِدَفْعِ احتمالِ الغَيريّة أو الكفائيّة أو التخيـيرية .

الأمر الثالث : وقوعُ الأمْرِ عَقيبَ الحظر

قال الله تعالى [ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ] ، وقال عز وجل [ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ وَخُذُوَهُمْ وَاحْصُرُوَهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)] ، فهنا لاحظتَ ورودَ بعضِ الأوامر في سياق الحظر ، أو توهّم الحظر ، والسؤالُ هو : هل وقوع صيغة الأمر بعد توهّم الحظر يفيد الطلب أو الإباحة أو الإجمال ؟

أستبعد وجود جواب على هذا السؤال ، لأنّ المسألة استظهاريّةٌ بحتة ، أي أنّ المسألة صغرويّة ، فعلينا أن ننظر إلى كلّ مورد مورد لنستظهر المعنى المراد ... يُتبع