الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل نرجع في التعارض إلى التخيير ؟

وقد تقول بمعارَضة روايات الطائفة الاُولى ـ وهي صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ومقبولة عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة ـ بروايات التخيـيـر بين الخبرين المتعارِضَين ، فهي تـفيد أصلاً عمليّاً ظاهريّاً هو التخيير بين خبرَي الثـقتين المتعارِضَين تعارضاً مستقرّاً ، وأهمُّها :

روى أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في (كتاب الإحتجاج) في جواب مكاتبة محمد بن عبد الله بن جعفر الحِمْيَري (القمّي كان ثقة وجهاً كاتَبَ صاحبَ الأمْرِ (عج) وسأله مسائلَ في أبواب الشريعة ، وله كُتُب) إلى صاحب الزمان (عليه السلام) : يسألُني بعضُ الفقهاء عن المصَلّي إذا قام مِنَ التشهُّدِ الأوّلِ إلى الركعة الثالثة ، هل يجب عليه أن يُكَبِّرَ ، فإنّ بعض أصحابنا قال (لا يجب عليه التكبير ، ويُجزيه أن يقول بحول الله وقوته أقوم وأقعد) ؟! فكتب (عليه السلام) في الجواب : ( إنّ فيه حديثين : أمّا أحدُهما فإنه إذا انـتـقل مِن حالةٍ إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنه رُوِيَ (أنه) إذا رَفَع رأسَه من السجدة الثانية وكَبَّرَ ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرٌ ، وكذلك التشهُّدُ الأوَّلُ يَجري هذا المجرَى ، وبأيِّهما أخذْتَ مِن جهة التسليم كان صواباً )[1] ، ورواها الشيخ في (كتاب الغَيبة) وهي صحيحة السند لاعتبار طريق الشيخ الطوسي إلى مصنّفات محمد بن عبد الله بن جعفر الحِمْيَري ورواياته ، إذ قال في ست : أخبرنا جماعةٌ عن محمد بن علي بن الحسين عن أحمد بن هارون الفامي وجعفر بن الحسين بن علي بن شهريار القمّي(شيخ أصحابنا القميين ثقة) عنه، وهو سند صحيح .

وفقرةُ الإستدلال منها قولُه تعالى ( وبأيِّهما أخذْتَ مِن جهة التسليم كان صواباً ) ، والإستدلالُ بها باعتبار كلمة ( مِن جهة التسليم ) وذلك عند عدم إمكان الجمع بين الروايتين ، بحيث يستشعَرُ منها القارئُ إرادةَ إعطاء قاعدة عامّة ـ أي أصل عملي ظاهريّ ـ في حال التعارض المستقرّ بين الروايتين المعتبرتين وهي قاعدة التخيـير بالأخذ بأحد الخبرين ، فأوّلُ الخبرين يقول باستحباب التكبير عند القيام من التشهّد الأوسط ، والثاني يُنكِرُ الإستحبابَ !! ولا نجِدُ مخرَجاً لقوله (عليه السلام) ( مِن جهة التسليم ) إلاّ إرادةَ إعطاء قاعدة عامّة عند تعارض الروايتين المعتبرتين وهي التخيير بينهما . وقولُه ( مِن جهة التسليم ) أي أنك إذا أخذت بأيٍّ من الخبرين كان صواباً ، بمعنى أنّ لك أجراً على التسليم لله ولرسوله .

والصحيح أنّ الإستدلال بالرواية غيرُ وجيهٍ ، وذلك :

إنه لا يمكن أن يصدر من ساحة العصمة ما فيه تعارض مستقرّ ، فإمّا أنْ نُرجِـعَ الروايةَ إلى أهلها ، وإمّا أن نجد لها جمْعاً عرفيّاً .

إنّ جملة ( وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرَى ) أخصُّ مِن جملة ( إذا انـتـقل مِن حالةٍ إلى حالة أخرى فعليه التكبير ) ، ويمكن الجمع العرفي بينهما بأن تقول (إذا انـتـقل مِن حالةٍ إلى حالة أخرى فعليه التكبير ، إلاّ إذا رَفَع رأسَه من السجدة الثانية وكَبَّرَ ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبيرٌ، وكذلك التشهُّدُ الأوَّلُ يَجري هذا المجرَى الثاني) . يمكن القول بأنّ الحديث الثاني هو حاكم على الحديث الأوّل ـ لا مخصّص كما قلنا في الجواب السابق ـ وذلك بتقريب أنه يضيِّق معنى ( مِن حالةٍ إلى حالة أخرى ) ويعتبر أنّ القيام من التشهّد ـ بعدما كبّر بعد القيام من السجدة الثانية ـ لا يُعتبَرُ من حالة إلى حالة .

لا شكّ أنّ الحديثين المرويين عن طريق الإمام هما قطعيّا الصدور ، لأنّ الإمام (عليه السلام) لا يروي الروايةَ الخاطئة ، وعليه فمرادُ الإمام هو أنّ الإنسانَ مخيّرٌ في حال التعارض المستقرّ إذا كانت كلتا الروايتين مقطوعتَي الصدور ، فإنّ التخيـير بين الأحكام الواقعيّة أمْرٌ ممكنٌ جداً ، وقولُه ( كان صواباً ) قرينة واضحة على إرادة التخيـير الواقعي أيضاً . وكلامُنا إنما هو في الأمارات الظنّيّة ، لا في الأمارات القطعيّة .

ولكن السؤال المهم هو : ما هو المراد من قوله (عليه السلام) ( مِن جهة التسليم ) ؟

يظهر أنّ المراد هو أنك بأيّهما أخذتَ كان صواباً ، لأنّ الأمرَ داخلٌ في عالم الإستحباب ، فلو كبّرتَ بعد التشهّد كان ذِكْرَ اللهِ وهو حَسَنٌ على أيّ حال ، وإنِ استغنيتَ بالتكبير السابق بعد القيام من السجدة الثانية كان أيضاً صواباً لأنك قد فعلتَ الإستحباب .

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج4، ب13 من أبواب السجود، ح8، ص967، الاسلامية.