الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : لو تعارض خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقة آخر

ما لو تعارض خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقة آخر

رَوَينا في الدروس السابقة طائفة الترجيح وهي : صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ومصحّحة عمر بن حنظلة ومرفوعة ابن أبي جمهور في عوالي اللآلئ عن العلاّمة ، وأكثَرْنا فيها الكلامَ سنداً ودلالةً ... وقلنا أخيراً إنّ النتيجةَ هي أنّ الترجيح في الروايتين المتعارضتين تعارضاً مستقرّاً يكونُ ـ عمَليّاً ـ بمخالفة العامّة فقط .

درس اليوم :

وقد تقول بمعارَضة هذه الروايات المذكورة بروايات العرْضِ على كتاب الله الكريم ... وهاك أهمَّ رواياتِ العَرْضِ على القرآن الكريم :

رَوَى الحسن بن محمد الطوسي في الأمالي عن أبيه عن المفيد عن جعفر بن محمد عن محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن عمرو بن شمر(غُمِزَ فيه وضُعّف) عن جابر(بن يزيد الجعفي ثقة في نفسه له كُتُب) عن أبي جعفر (عليه السلام) ـ في حديث ـ قال : ( اُنظروا أمْرَنا وما جاءكم عَنّا ، فإنْ وجدتموه للقرآن موافِقاً فخُذوا به ، وإن لم تجدوه موافِقاً فرُدُّوه ، وإنِ اشتبه الأمْرُ عليكم فقِفُوا عنده ورُدُّوه إلينا حتى نشرحَ لكم من ذلك ما شُرِحَ لنا )[1] .

أقول : يكفي في موافقة الكتاب الكريم إمكانُ الجمع العرفي بين القرآن الكريم وخبر الثقة ، كما لو كان خبر الثقة يخصّص أو يقيّد أو يفسّر المراد من الآية الكريمة ، كما هو الحال في أكثر الروايات ، ويكفي في ردّ الخبرِ عدمُ إمكان الجمع .

ومثلُها ما رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عيسى عن (الحسن بن علي) ابن فضّال (ثقة جليل القدر) عن علي بن عقبة (بن خالد ثقة ثقة له كتاب) عن أيوب بن راشد (روى عنه صفوان بسند صحيح) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( ما لم يوافق من الحديثِ القرآنَ فهو زُخْرُف )[2] مصحّحة السند . والظاهر أنّ المراد من هذه الرواية بأنّ ما لم يوافق من الحديثِ القرآنَ بأيّ شكل كان ، فهو زخرف ، بدليل أنه لم يوافق القرآن الكريم بأي شكل ، لا بالحكومة ولا بالتخصيص ولا بغير ذلك . وبتعبيرٍ آخر : ما لم يمكن الجمع بينه وبين القرآن الكريم فهو زخرف ، أي غير صادر من ساحة العصمة ، وبتعبيرهم : لا تشمله أدلّةُ حجيّة السند .

وقد تـتساءل وتقول : قال الثقات عن المعصومين (صلاة المغرب ثلاث ركعات) وهذا غير مذكور في القرآن الكريم ، فهو لا يوافق القرآن الكريم ، فهو إذن زخرف ، فما الجواب ؟

فأقول : ليس المراد هو رفْضُ التفاصيلِ الشرعيّة التي لم يتعرّض لها القرآن الكريم ، وذلك بدليل الإستنكار الواضح من قوله (عليه السلام) ( زُخْرُف ) ، فقولُه ( زُخْرُف ) قرينةٌ واضحة على إرادة أنه (عليه السلام) يَرفض الحديثَ المخالف بصراحة للقرآن الكريم ، وليس المراد هو رفْضُ التفاصيل الواردة في الروايات المعتبرة والتي لم يتعرّض إليها القرآن الكريم ، أي ليس المراد هو رفْضُ الروايات المقيِّدة والمخصّصة والحاكمة على بعض الآيات أي المفسّرة لها بطريقة مقبولة متشرّعيّاً ، وإلاّ لرفَضْنا أغلبَ الروايات المعتبرة التي تفيدنا أغلب التفاصيل الشرعيّة .

وفي الكافي عن محمد بن يحيى عن عبد الله بن محمد (بن عيسى ، يلقّب بَنان ، هو أخ أحمد بن محمد بن عيسى لم يوثّقوه) عن علي بن الحكم عن أبان بن عثمان (ثقة ، قيل كان ناووسي) عن عبد الله بن أبي يعفور قال : وحدثني الحسين بن أبي العلا أنه حضر ابنُ أبي يعفور في هذا المجلس قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن اختلاف الحديث يرويه مَن نَثِقُ به ، ومنهم مَن لا نَثِقُ به ؟ قال : ( إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإلا فالذي جاءكم به اَولَى به )[3] مصحَّحة السند عندي لرواية الكافي لها من دون تضعيف أحد من الرواة ، ورواها البرقي في (المحاسن) عن علي بن الحكم مثله . وهذه الروايةُ تُلغي حجيّةَ أكثرِ أخبار الثقات ، لأنّ خبر الثقة إذا قال ـ مثلاً ـ (صلاةُ المغرب ثلاث ركعات) فلا شاهد عليه من القرآن الكريم ولا من أقوال رسول الله ) ص) الثابتةِ قطعاً لدينا ، إذن فتسقط عن الحجيّة ! بل أكثر أخبار الثقات لا شاهد عليها ، لأنّ القرآن الكريم يَنْدُرُ أن يَدخُلَ في تفاصيل الشريعة ، بل لو كان على خبرِ ثقةٍ ما شاهدٌ لاستَغْنَينا عن الخبر بالآية ! لا بل هذه الرواية تُلغي حجيّةَ خبر الثقة مِنَ الأصل ، لأنها تضع ميزاناً وحيداً لقبول الرواية وهو أن يوجَد شاهدٌ من كتاب الله أو من قول رسول الله (ص) عليه !! على أنّ هذه الرواية التي تنفي حجيّة خبر الثقة هي نفسها خبر ، فهي إذن تنفي حجّيّة نفسِها .

وروى سعيد بن هبة الله الراوندي في رسالته التي ألفها في أحوال أحاديث أصحابنا واثبات صحتها عن محمد وعلي (فقيه ثقة) ابني علي بن عبد الصمد عن أبيهما (عالم جليل فقيه) عن (الإمام الزاهد الثقة)أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه (الشيخ الصدوق) عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن يعقوب بن يزيد عن محمد ابن أبي عمير عن جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( الوقوف عند الشبهة خير من الإقتحام في الهلكة ، اِنَّ على كل حق حقيقةً ، وعلى كل صوابٍ نوراً ، فما وافق كتابَ اللهِ فخذوه ، وما خالف كتابَ اللهِ فدَعُوه )[4] ، ويمكن تفسير هذه الرواية بما قلناه قبل قليل وهو أنه إذا أمكن الجمع العرفي بينهما فخذوه وإلاّ فدعوه .

ومثلُها تماماً ما رواه سعيد بن هبة الله أيضاً في رسالته السالفة الذكر ـ أي التي ألَّفَها في أحوال أحاديث أصحابنا وإثبات صحتها عن محمد وعليّ ابنَي علي بن عبد الصمد عن أبيهما عن أبي البركات علي بن الحسين عن أبي جعفر بن بابويه عن أبيه عن سعد بن عبد الله ـ عن أيوب بن نوح عن محمد بن أبي عمير عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال قال الصادق (عليه السلام) : ( إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتابَ الله فخُذُوه ، وما خالف كتابَ اللهِ فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة ، فما وافق أخبارَهم فذَرُوه ، وما خالف أخبارَهم فخُذُوه )[5] وقد ذكرناها قبل قليل في روايات الترجيح (تحت رقم 3) . إذن ، لا دليل على الترجيح بكتاب الله الكريم .

وقد تقول بمعارَضة روايات الطائفة الاُولى بروايات التخيـيـر بين الخبرين المتعارِضَين ، فهي تـفيد أصلاً عمليّاً ظاهريّاً هو التخيير بين خبرَي الثـقتين المتعارِضَين تعارضاً مستقرّاً ، وسوف نرى أنّ النتيجة هي أننا لا نجدُ دليلاً على التخيـير أيضاً ، ويـبقَى الدليلُ على الترجيح بمخالفة العامّة فقط لا غير .

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح37، ص86، الاسلامية .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح14، ص79، الاسلامية .
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح11، ص78، الاسلامية.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح35، ص86، الاسلامية .
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح29، ص84، الاسلامية .