الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : لو تعارَضَ خبرُ ثِـقةٍ مع خبر ثـقةٍ آخر

ذكرنا أمس صحيحةَ عبد الرحمن بن أبي عبد الله التي قال فيها : قال الصادق (عليه السلام) : ( إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله ، فما وافق كتابَ الله فخُذُوه ، وما خالف كتابَ اللهِ فردوه ، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامّة ، فما وافق أخبارَهم فذَرُوه ، وما خالف أخبارَهم فخُذُوه )[1] ، وهي تامّةُ الدلالة على الترجيح بالكتاب الكريم أوّلاً ثم بمخالفة العامّة ثانياً .

كما ذكرنا مصحّحة عمر بن حنظلة إذ قال : سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازَعَةٌ في دَين أو ميراث فتحاكما .. إلى أن قال : فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرَين في حقِّهما واختُلِف فيما حَكَما ، وكلاهما اختَلفا في حديثكم ؟ فقال : ( الحُكْمُ ما حَكَمَ به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) قال فقلت : فإنهما عَدْلان مرضيان عند أصحابنا لا يفضل واحد منهما على صاحبه ؟ قال فقال : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتِهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنما الأمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : "حلالٌ بيِّنٌ ، وحرامٌ بيِّنٌ ، وشبُهاتٌ بين ذلك ، فمَن ترَكَ الشبهاتِ نجا من المحرمات ، ومَن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات وهلك من حيث لا يَعلم .. ) ، قلتُ : فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم ؟ قال : ( ينظر فما وافق حكمه حُكْمَ الكتابِ والسُّنَّة وخالف العامَّة فيؤخذ به ويتركُ ما خالف حُكْمُه حُكْمَ الكتاب والسُّنَّة ووافق العامّة ) ، قلت : جُعِلْتُ فِداك ، إن رأيت إن كان الفقيهان عَرِفا حُكْمَه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقاً للعامّة والآخرُ مخالفاً لهم ، بأيِّ الخبرين يؤخذ ؟ فقال : ( ما خالف العامَّةَ ففيه الرشادُ ) ، فقلتُ : جعلت فداك ، فإن وافقهما الخبران جميعاً ؟ قال : ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ ، حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، قلت : فإنْ وافق حكامهم الخبرين جميعاً ؟ قال : ( إذا كان ذلك فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ، فإنَّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ مِنَ الإقتحام في الهلكات )[2] وهي مقبولة السند .

وقولُه (عليه السلام) ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتِهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك ـ يعني المشهور عند الأصحاب فتوى وعمَلاً وروايةً ـ فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمعَ عليه ـ أي المشهور ـ لا ريبَ فيه ـ أي يُطمأنّ إليه ويوثَقُ به ـ وإنما الأمورُ ثلاثةٌ : أمْرٌ بيِّنٌ رُشْدُهُ فيُتَّبَعُ ، وأمْرٌ بيِّنٌ غَيُّهُ فيُجتنَبُ ، وأمْرٌ مشْكِلٌ يُرَدُّ عِلْمُهُ إلى الله وإلى رسوله ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (حلالٌ بيِّنٌ ، وحرامٌ بيِّنٌ ، وشبُهاتٌ بين ذلك .. )

وهي تفيدنا ما يلي : (1) وجوب تقديم حُكْمِ ( أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ، ولا يُلتـفَت إلى ما يحكم به الآخر ) ، فالترجيحُ أوّلاً كان ناظراً إلى الحَكَم ـ لا إلى الراوي ـ ، فإنْ تساويا من هذه الجهة (2) ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك فيُؤخَذُ به مِن حُكْمِنا ويُترَكُ الشاذُّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمعَ عليه لا ريب فيه ) أي يؤخذ بالرواية التي اجتمع عليها أكثرُ العلماء ، أي عملاً وفتوى ، ولو لشهرتها الروائيّة ، ولكن بشرط إفادتها للإطمئنان والوثوق ، فإن تساويا من هذه الجهة فإنه (3) ( يُنظَرُ ، فَما وافق حُكْمُه حُكْمَ الكتابِ والسُّنّة وخالف العامّةَ فيؤخذ به ويُترَكُ ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنة ووافق العامَّة < فإنّ > ما خالف العامةَ فيه الرشادُ ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً فإنه (4) ( يُنظَرُ إلى ما هم إليه أمْيَلُ حكامهم وقضاتهم فيُترك ويؤخذ بالآخر ) ، فإن تساويا من هذه الجهة أيضاً (5) ( فأَرْجِئْهُ حتى تَلْقَى إمامَك ) أي إعمل بالإحتياط .

إذن صحيحةُ عبد الرحمن بن أبي عبد الله ذكرَتْ الترجيحَ بكتاب الله أوّلاً ، ثم بمخالفة أخبار العامّة ، وأمّا هذه المقبولة فإنها تَذْكُرُ أوّلاً الترجيحَ بصفات الحاكم ، ثم الترجيحَ بشهرة الرواية المفيدة للإطمئنان والوثوق بصدور الرواية وبأنها صادرة لبيان الواقع ، ثم الترجيح بالكتاب والسُّنَّة ، ثُمّ بمخالفة العامّة ، إذن فالمقبولةُ قد تقيّدُ إطلاقَ صحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله ، بمعنى أنها قد تدلّ على أن الإنتهاء إلى الترجيح بكتاب الله ومخالفة العامّة يكون بعد عدمِ وجود أرجحيّة بلحاظ صفات الحاكم ولا أرجحيّة بلحاظ شهرة الرواية . والنتيجةُ العمليّة للجمع بين الروايتين هو : (1) الترجيح بصفات الحاكم ، (2) الترجيح بالشهرة التي تفيدنا الإطمئنان والوثوق ، (3) مخالفة العامّة .

ثم إنه يمكن القولُ بأنّه يُفهم من خلال الرواية أنّ الحاكِمَ ـ خاصّةً في عصرهم (عليهم السلام) ـ ليس إلاّ راوياً ومطبّقاً للرواية على المورد ، كما هو ظاهر الرواية ، وبالتالي المناطُ بين الحاكم وبين الراوي واحد ، أو أنّ هذا عَينُ ذاك ، فإذا قلنا بهذا فهذا يعني أنّ الترجيح هو بصفات رواة الرواية، وذلك لعدم الفرق بين الراوي الأخير ـ وهو الحاكم ـ وبين سائر أفراد رواة السند .

أقول : لكنَّ الجَزْمَ بذلك صعب ، بعد عدم وضوح المراد في ذلك ولا وضوح وحدة المناط بينهما ، فإنّ لكلّ حاكم نظَرُه في كلّ القضايا ، والحاكمُ الأعلمُ قد يميّز بين الرواية الصحيحة التطبيق في هذا المورد وبين الرواية الباطلة ، خاصّةً إذا كان أعرفَ بالرواة من الحاكم الآخر وبصحّة المتون وصدورها وبكيفيّة الجمع بين الروايات وبأمور كثيرة قد تكون دخيلة في الواقعة ، لذلك كان من الحكمة أن يُقتصَرَ في هذا الترجيح بين خصوص الحاكمَين فقط ، لا بين الراويين أيضاً . أمّا في الروايتين المعتبرتين المتعارضتين تعارضاً مستقرّاً فقد يكون من الباطل أن نقدّم الصحيحةَ السند على المقبولة أو الموثّقة أو المعتبرة ، بعد اعتبارها جميعاً شرعاً ، لا بل قد يروي فقيهُ عصرِه بعض الروايات المنسجمة مع فتاوى أهل العامّة حفاظاً عليه من أئمّتنا ، كما نرى ذلك بوضوح في الكثير من الروايات .

ولهذا لا نتجرّأ على الترجيح بالرواة إبتداءً فيما لو تعارضت الروايات المعتبرة السند .

وقد يُعترَضُ على استفادة هذين الترجيحين ـ بالصفات وبالشهرة ـ من المقبولة بأن الترجيح بالصفات وبالشهرة في المقبولة لعلّه ترجيحٌ في مقام الحكم وفضّ النزاعات ، لا أنه ناظر إلى حالة التعارض بين الروايتين .

والجواب قلنا إنّ هذا الإعتراض وجيه بالنسبة إلى الترجيح بالصفات ولكنه ليس صحيحاً بالنسبة إلى غيره مما ورد في المقبولة كالترجيح بالشهرة .

أمّا وجاهته بالنسبة إلى الترجيح بالصفات فلأننا نلاحظ إضافةَ الصفاتِ في المقبولة إلى الحاكمين ـ لا إلى الرواة ـ في المرحلة الاُولى فقط ، حيث قال (عليهم السلام) ( الحكمُ ما حكم به أعدلُهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما ) ، بينما لو كان الترجيح بالصفات ترجيحاً لإحدى الروايتين على الأخرى لكان ينبغي تطبيقُه على مجموع سلسلة الرواة أو ـ على الأقلّ ـ على الراوي المباشِر من الإمام كما هو مقتضَى الصناعة .

وأمّا عدمُ صحّةِ الإعتراض في الترجيح بالشهرة فلأنّ الإمام (عليه السلام) انتقل من النظر إلى الحكّام إلى النظر إلى الروايتين ، فرجّحَ بأشهريّة الروايتين ، فقال : ( يُنظَرُ إلى ما كان مِن روايتهما عَنّا في ذلك الذي حَكَما به المجمعِ عليه عند أصحابك .. ) فلُوحِظَ في الترجيحُ بأشهريّة الروايتين . لكن نعود ونقول : لم يظهر أنّ الترجيح بالشهرة يفيدنا كثيراً ، وذلك لأنّ العلّة في الترجيح بالشهرة هو أنها تورث الإطمئنان والوثوق بصدور الرواية وبجهة صدورها .

3 ـ روى في عوالي اللآلئ قال : رَوَى العلاّمةُ ـ مرفوعاً ـ إلى زرارة بن أعيَن قال : سألت الباقر(عليهم السلام) فقلتُ : جُعِلْتُ فِداك ، يأتي عنكم الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيِّهِما آخُذُ ؟ قال (عليهم السلام) : ( يا زرارة ، خُذْ بما اشتهر بين أصحابك ودعِ الشاذَّ النادرَ ) ، فقلت : يا سيدي ، اِنهما معاً مشهوران مرويّان مأثوران عنكم ؟! فقال (عليهم السلام) : ( خُذْ بقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك ) ، فقلت : اِنّهما معاً عدلان مرضيان موثقان ؟! فقال (عليهم السلام) : ( اُنظرْ ما وافق منهما مذهبَ العامّةِ فاتركْه وخُذْ بما خالفهم ) ، قلتُ : ربما كانا معاً موافقين لهم أو مخالفين فكيف ؟ فقال (عليهم السلام) : ( إذاً فخُذْ بما فيه الحائطةُ لدِينِك ، واتركْ ما خالف الإحتياطَ ) فقلت : اِنهما معاً موافقان للإحتياط أو مخالفان له ، فكيف أصنع ؟ فقالt : ( إذاً فتخَيَّرْ أحدَهما فتأخذَ به وتدعَ الآخر )[3] ، وبما أنّ سند الحديث مرسل جدّاً فلا يمكن الإعتماد عليه ، فلا نعلّق عليه ، لكنه مؤيّد إجمالاً للمقبولة السابقة ، ومن أهمّ الفروق بين الروايتين هو تقديم ميّزات الراوي على الشهرة في المقبولة ، وتقديم الشهرة على ميّزات الراوي في المرسلة ، وكما قلنا في أوّل بحث التعارض : العقلُ لا يعرف أيهما الأجود .

والنتيجةُ هي أنّ الترجيح في الروايتين المتعارضتين تعارضاً مستقرّاً يكونُ ـ عمَليّاً ـ بمخالفة

العامّة فقط .

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح29، ص84، الاسلامية .
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج18، ب9 من أبواب صفات القاضي، ح1، ص75، الاسلامية.
[3] أنوار الاصول، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي : ج3، ص482 .