الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/05/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : هل الشهيد طاهرٌ ولا يُوجب غُسل المسّ ؟

وأمّا قضيّةُ طهارة أو نجاسة بَدَنِ الشهيد الذي حُكْمُه أنه لا يغسَّل ، فقبل أن نخوض فيها يجب ذِكْرُ أمرَين :

الأوّل : لا شكّ ولا خلاف في أنّ دمه وكلّ نجاسة منه كالبول والغائط هي اُمور تبقى على نجاستها ، وذلك تمسّكاً بإطلاقات نجاستها .

والثاني : كما أنه لا شكّ في أنّ مجرَّدَ خروجِ الروح فهذا يُوجب نجاسةَ بدن الميّت حتى وإن كان قبل البرد من غير فرق بين الإنسان وغيره ، وهذا هو العموم الذي يجب الرجوع إليه فيما لو شككنا في طهارة بدن الشهيد أو نجاسته ، وقد ذكرنا أدلّةَ ذلك سابقاً في مسألة 12 ص 241 .

إذن الكلام في بَدَنِ الشهيدِ الذي حُكْمُه أنه لا يغسّل ، فهل هو طاهر أو نجس ؟ أي هل خرج بدليل خاصّ من تحت العموم السالف الذكر أم لا ؟

يجب القول أوّلاً بأنّ استصحاب طهارته من حين كان حيّاً لا يجري ، وذلك لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة ، وذلك لتغيّر حالتِه من الحياة إلى الموت ، فليست الحالة هي نفسها ، إذن فلعلّ حُكْمَها في عالم الجعل قد تغيّر . كما لا يصحّ القول ـ عند الشكّ في طهارة ونجاسة الشهيد ـ بأنّ الأصل ـ بعد عدم صحّة الرجوع إلى الإستصحاب ـ هو الطهارة ، وذلك لوجوب الرجوع إلى العموم الفوقاني وهو نجاسة الميّت . ثانياً : لم يَرِدْ روايةٌ تنفعنا فيما نحن فيه .

إذن ما هو وجْهُ القولِ بطهارة بدن الشهيد ؟

لم يَرِدْ دليلٌ واضحٌ يُفهم منه طهارةُ بدنِ الشهيد ، إنما عرَفنا ذلك من مجموع عدّة وجوه :

أوّلاً : ممّا رواه الشيخ الصدوق رحمه الله ، قال في الفقيه : ( واستشهد حنظلةُ بنُ أبي عامر الراهب بأُحُدٍ فلم يأمُرِ النبيُّ (ص) بغَسْلِه ، وقال : رأيتُ الملائكةَ بين السماء والأرض تغسل حنظلة بماء المزن في صحاف من فضة ، وكان يسمى غسيل الملائكة )[1] ، ويمكن تصحيحُ هذه الرواية لإنه ينقلها جازماً ، مع احتمال كون نقلها معتبرةً عن حسّ ، وهي تعني أنّه طاهر بدناً ولا يوجب غُسل المسّ ، لأنه غسّلته الملائكة ، والمناط في تغسيل الملائكة لحنظلة هو كونه شهيداً لم يدركه المسلمون حيّاً ، ولا يُحتمَلُ وجودُ مِيزةٍ بينه وبين شهدائنا الأبرار .

ثانياً : إنّ عدم جواز تغسيله يُرشِدُنا إلى طهارة بدنه ـ طبعاً ما عدا النجاسات المعلومة النجاسة كالدم ـ فعدمُ جوازِ تغسيله يعني أنّ ملائكة الله قد غسّلته ، وأنه طاهر ، وأنّ مسّه لا يوجب غُسْلَ مسِّ الميّت ، وإلاّ لصار الميّتُ المغسَّلُ العادي الفاسق أفضلَ من الشهيد من هتين الناحيتين ، فإنه طاهر بدناً ولا يوجب مسُّه غُسْلَ المسّ ، والشهيدُ نجس بدناً ، ويوجب مسُّه غُسْلَ مسّ الميّت ، وهذا غير محتمل بالوجدان .

ثالثاً : تُفهم طهارتُه ممّا ورد في المرجوم والمرجومة ... فقد رَوَى في الكافي عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمّون (البصري واقف ثم غلا كان ضعيفاً جداً لا يلتفت إليه) عن عبد الله بن عبد الرحمن (الأصمّ المسمعي بصريّ ضعيف غال ليس بشيء له كتاب في الزيارات يدلّ على خبث عظيم ومذهب متهافت وكان من كذّابة أهل البصرة) عن مسمع(بن عبد الملك) كردين(أبو سيّار الكوفي ثقة ، هو شيخ بكر بن وائل بالبصرة ووجهها وسيّد المسامعة ، روى عن أبي عبد الله(عليه السلام) وأكثر واختصَّ به) عن أبي عبد الله(عليه السلام) قال : ( المرجوم والمرجومة يُغَسَّلان ويُحَنَّطان ويُلْبَسانِ الكفَنَ قبل ذلك ثم يرجمان ويصلَّى عليهما ، والمقتصُّ منه بمنزلة ذلك ، يغسل ويحنط ويلبس الكفن (ثم يُقاد) ويصلَّى عليه )[2] ضعيفة السند ، ورواها الصدوق مرسِلاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ، ورواها في يب بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن علي بن الريان عن الحسن بن راشد عن بعض أصحابنا عن مسمع كردين عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله . ولا يحتمل أن يكون هذا المرجوم والمرجومة والمقتصّ منه طاهرَين عند الدفن ولا يوجب مسُّهم غُسل المسّ ، والشهيدُ الذي قاتل وقُتِلَ في سبيل الله ـ كالحمزة بن عبد المطّلب وعمّار بن ياسر ـ يُدفَنُ نجسَ البدن ، ومَسُّه يُوجِبُ الغُسلَ !!

يمكن ادّعاء الإنصراف من روايات نجاسة الميّت إلى غير الشهيد ، لأنّ الشهيد له حكم آخر وميزة عظيمة تميّزه عن سائر الأموات ، وهي ميزة مغايرةٌ للميّت العادي ، وهي أنه لا يغسّل، فيصحّ في هكذا حالةٍ الرجوعُ في الشهيد إلى أصالة الطهارة . تنزّلنا ، فنقول : لا أقلّ من حصول ظن في عدم شمول روايات نجاسة الميّت للشهيد ، وذلك بسبب تلك الميزة العظيمة التي ميّزه اللهُ فيها ، فيصحّ في هكذا حالةٍ الرجوعُ في الشهيد إلى أصالة الطهارة .

ولعلّه لكلّ ما ذكرناه ذَهَبَ السيدُ القائد الخامنئي ـ بحقّ ـ إلى طهارته فقال : (بَدَنُ الشهيدِ طاهرٌ وهو الذي يجاهد في سبيل الله من أجل حفظ الإسلام ويقتل في ساحة الحرب ، بحيث يفارق الحياة في أرض المعركة)(إنتهى) [3] .

وأمّا قضيّة وجوبِ غُسْلِ مسّ الميّتِ على مَن مَسَّ بَدَنَ الشهيد الذي حُكْمُه أنه لا يغسَّل فأيضاً لم يرد دليل واضح فيه ، كما لا شكّ أنك تعلم عدمَ صحّة الرجوع إلى استصحاب عدم وجوب غُسل المسّ ، لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة .

لكن يجوز الرجوعُ إلى أصالة البراءة ، وذلك بعد كون الروايات الواردة في وجوب غُسْل مسِّ الميّت منصرفةً إلى الميّت العادي ، وعلى الأقلّ : المظنونُ هو نَظَرُ الرواياتِ إلى الميّت العادي بحيث يحصل عندنا شكّ في حُكْمِ مَن مسَّ الشهيدَ ، فيُرجَعُ فيه إلى البراءة من وجوب الغسل . ولننظر إلى أجواء الأحاديث لنرى الإنصرافَ القطعي أو المظنون إلى خصوص مورد مسّ الميّت العادي لا مسّ الشهيدِ :

روى في (عيون الأخبار) وفي (العلل) بأسانيده عن الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال : ( إنما اُمِرَ مَن يُغَسِّلُ الميِّتَ بالغُسْل لِعِلَّةِ الطهارةِ ممّا أصابه مِن نَضْحِ الميت ، لأنّ الميت إذا خرج منه الروح بقي منه أكثر آفَّتِه )[4] ، ويـَبْعُدُ لياقةُ استعمال ( بَقِيَ منه أكثرُ آفَّتِه ) في الشهيد ، لأنّ المراد من الآفَّة هو الوسخ ، أي وسخ بدنه , ولعلّه لذلك يجب صَرْفُ الحديثِ إلى الميّت العادي ، دون الشهيد .

وروى في الكافي عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ( يَغتسِلُ الذي غَسَّلَ الميِّتَ ، وإنْ قَبَّلَ الميِّتَ إنسانٌ بعد موته وهو حارٌّ فليس عليه غُسْلٌ ، ولكنْ إذا مَسَّهُ وقَبَّلَه وقد بَرَدَ فَعَلَيه الغُسلُ ، ولا بأس أنْ يَمَسَّه بَعد الغُسْلِ ويُقَبِّلَه )[5] . قال العلاّمة الحلّي في منتهى المطلب ـ تعليقاً على هذه الرواية ـ : (الأقربُ في الشّهيد أنّه لا يجب الغُسلُ بمسّه ، لأنّ الرّواية تدلّ بمفهومها على أنّ الغُسْل إنّما يجب في الصّورة التي يجب فيها تغسيل الميّت قبل غسله)(إنتهى) [6] .

أقول : وورد في صحيحة محمد بن الحسن الصفّار أيضاً أنّ مَن مَسّ الميّتَ بعدما يغتسل فلا يغتسل غُسْل المسِّ ، ومعنى هذه الروايات أنّ الشخص الذي يُقَبّل الشهيدَ الذي لا يغسّل إمّا أنه لا يجب عليه أن يَغتسل وهو المطلوب ، وإمّا أنه يجب عليه أن يغتسل غُسْل المسِّ ، فإنْ كان يجب عليه أن يغتسل فقد صار الميّتُ العادي المغسَّل الفاسقُ أطهرَ من الشهيد من هذه الناحية ، وهو أمْرٌ مستبعَد جداً . وبتعبير آخر : وجوب غُسل المسّ بمسّ الشهيد ووجوبُ تطهير اليد إن مسسناه برطوبةٍ هو إسقاطٌ لمرتبة الشهيد عن الميّت المسلم المغسَّل الفاسق ، وهذا أمر يرفضه وجدانُ المؤمن . إضافةً إلى عدم تنبيه الأئمّة (عليهم السلام) المؤمنين إلى أنه يبقى نجساً وأنه يجب غُسْلُ المسّ بمسّه ، مع كون التنبيه إلى هذين الأمرين مهمّاً جداً ، لأنّ المتشرّعة سوف يفهمون من الروايات الصحيحة القائلة بعدم جواز تغسيل الشهيد كون حكمه حُكْمَ المغسّلين تماماً ، على الأقلّ توهم بطهارتهم وعدم وجوب غسل المسّ بمسّهم ، فكان الواجب التنبيه على ذلك لِدَفْعِ هكذا توهّمٍ متوقّع .

 


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج2، ب14 من أبواب غسل الميّت، ص698، وهذه الرواية رقمها 1، الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج2، ب17 من أبواب غسل الميّت، ح1، ص703، الاسلامية .
[3] منتخب الأحكام، أحكام الميتة، إعداد وتنظيم الشيخ حسن فياض، ص19 .
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج2، ب1 من أبواب غسل المسّ، ح11، ص929، الاسلامية .
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج2، ب1 من أبواب غسل المسّ، ح15، ص930، الاسلامية.
[6] منتهى المطلب، العلاّمة الحلّي : ج2، ص457 .