بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/21

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الحكومة والورود
تعريف الحكومة : هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مُتَعَرِّضاً لتفسير موضوع دليل آخر ومُبَيِّناً لمقدار موضوعه تعبّداً، وبالتالي فقد يكون مضيّقاً تعبّداً للموضوع في الدليل السابق أي رافعاً لبعضِ أفرادِ موضوع المحكوم ـ كما في (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) ـ وهذا يعني أنّ المعصوم حينما أطلق كلمة (الربا) لم يكن ناظراً إلى كلّ تفاصيل الربا، وإنما كان ناظراً إلى إثبات أصل حرمة الربا، فقط لا غير، مع غضّ النظر عن كلّ التفاصيل .
وقد يكون الدليل الحاكمُ موسّعاً تعبّداً لموضوع الدليل السابق ـ كما في (يُشترَطُ في الصلاة الطهارةُ)، والدليلُ الحاكم هو (الطواف في البيت صلاة) فهنا صار الدليل الحاكم موسّعاً لمفهوم الصلاة ـ وبالتالي فيكون الدليلُ الحاكمُ مثبتاً لحُكْمِ الطهارة في هذا المثال الثاني . إذن يجب أن يكون الدليل المحكوم موجوداً أوّلاً، وثانياً يجب أن يكون الدليلُ الحاكمُ ناظراً للدليل المحكوم، وإلاّ ـ لو فرضنا عدمَ وجودِ (الربا حرام) أو فرَضْنا عدمَ نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ـ لم يَعُدْ هناك معنى لقولنا (لا ربا بين الوالد وولده)، لأنه ح لا مورد له، أو قُلْ لأنه لا يوجد (رِبا) ليفسّره، أو هو غير ناظر إلى موضوع الدليل الثاني ليفسّره . ومن الطبيعي أن نأخذَ بمقدار نظر الدليل الحاكم فقط، لا أكثر . فمثلاً : في المثال السابق (الطواف في البيت صلاة) النظرُ في هذا التنزيل هو إلى خصوص اشتراط الطهارة الماديّة والمعنويّة في الطواف، دون الإتجاه إلى الكعبة الشريفة ودون الركوع والسجود . وأمّا المقدار المشكوك ـ كالضحك مثلاً ـ فيجب أن ننظر إلى الإطلاق في دليل الحاكم، فإن كان مطلقاً فعلينا أن نتمسّك به في الاُمور المشكوكة .
أمّا الدليل المخصّص فهو الدليل المُخْرِجُ لبعض أفراد العام مِن تحت العام، حكماً ـ لا موضوعاً ـ مثل (أكرِمِ العلماءَ) و (لا يجب إكرامُ فسّاقِ العلماء)، ففسّاقُ العلماء هم علماء، ولكنهم خرجوا عن وجوب الإكرام لسبب خارجي مهمّ ـ وهو هنا كونُهم فسّاقاً ـ . ومثالُها العملي : الأدلّةُ الدالّةُ على أنه لا حُكْمَ للشك في النافلة، أو مع كثرة الشك، فإنّ هذه الأدلّةَ مخصِّصةٌ للأدِلَّةِ المتكفِّلَة بأحكام الشكوك .
ونَظَرُ علمائنا دائماً إلى المخصِّص المنفصل، وذلك لعدم وجود أيّ إشكال في المخصّص المتّصل، فإنّ في قول المولى مثلاً (أكرم العلماءَ العدولَ) أو (أكرِمِ العلماءَ إلاّ الفسّاقَ منهم) دَخَلَ التخصيصُ في مرحلة الدلالة التصوّريّة إلى (العلماء) بحيث تلاحظ أنّ التغيُّرَ طَرَأ على الدلالة التصوّريّة أيضاً ـ وليس على الدلالة الإستعمالية فقط ـ وذلك بدليل أننا أوّلَ ما نتصوّرُه من هكذا تخصيص متّصلٍ وأوّلَ ما يَتبادر إليه ذهنُنا هو (أكرم خصوص العدول من العلماء) ـ حتى ولو سمعنا ذلك من حجرين، أي مع غضّ النظرِ عن حال المتكلّم وهل أنه جادٌّ أو هازلـ، فإنّ الدلالة التصوّريّة لمجموع (العلماء العدول) هي وليدة (الوضع المركّب) الذي هو عبارة عن حصول قَرْنٍ أكيدٍ بين اللفظ المركّب والمعنى، بحيث يحصل تبادرُ المعنى الموضوع من اللفظ تكويناً . وأنت إذا نظرت إلى (العلماء العدول) ـ ككلمةٍ واحدة مندمجة معنىً، أي أنّ النسبة بينهما هي نسبة اندماجيّة ـ سوف يتبادر إلى ذهنك معنى واحدٌ، تكويناً . فالتعدّدُ في كلمة (العلماء العدول) هو كالتعدّد في أحْرُفِ الكلمة الواحدة، فكما أنك لا تتصوّر معنى الكلمة حتى يكتمل لفْظُها، فكذا هنا، لكنك في كلمة (العلماء العدول) عَدَّدْتَ الكلامَ مِن باب القهر والضرورة، لأنك أحياناً لا يمكن لك أن تعطي الصورةَ المطلوبةَ إلاّ مع ذِكْرِ هذا التعدّدِ، ولذلك قال العلماء بأنّ النسبة المعنويّة بينهما هي (إندماجيّة) لذلك قالوا هي نسبة ناقصة لأنه لا يصحّ السكوت عليها، بخلاف النسبة المعنويّة الذهنيّة بين معنى (أكرِمْ) ومعنى (العلماءَ العدولَ) فإنّ النسبة المعنويّة بينهما هي غير إندماجيّة، وإنما هي نسبة تامّة طلبيّة، يصحّ السكوت عليها، وكذلك الأمر تماماً في قولك (رأيتُ أسداً) وفي قولك (زيدٌ قائمٌ) فإنّ النسبة بين الكلمات فيها غيرُ إندماجيّة، يصحّ السكوتُ عليها، لإفادتها معنى تامّاً .
صحيح أنّك إذا نظرتَ إلى كلّ كلمة لوحدها فسوف يتبادر ذهنُك تكويناً إلى معناها الخاصّ، فإنّ المعنى الأوّل المتبادَر هو المدلول التصوّري لخصوص كلمة (العلماء)، والمعنى الثاني المتبادَرُ هو المدلول التصوّري لخصوص كلمة (العدول)، وإلاّ فلولا هذه المداليلُ التصوّريّة الجزئيّةُ لا يمكن تصوّر المدلولِ التصوّري المجموعي لمجموع الكلام . المهم هو أنّ هذه المداليل التصوّريّة الجزئيّة لكلّ كلمة كلمة لا تمنع من صحّة كلامنا، لأنّ المعنى المجموعي لكلتا الكلمتين ـ في مرحلة الدلالة التصوّريّة ـ هو (العلماء العدول) . فأنت إذا قلتَ (أكرِمْ العلماءَ العدول الموجودين في هذه الحوزة) ـ رغم تعدّد الكلمات ـ فكأنك قلتَ (أكرم هؤلاءِ) بكلمة واحدة، وإذا قلتَ (أكرِمْ غلامَ زيدٍ القصيرَ الأسمرَ) فكأنك ذَكَرْتَ إسمَه وقلتَ (أكْرِمْ عَمْرَواً)، وإذا قلت (لا إلهَ إلاّ اللهُ) أو (وَيلٌ للمُصَلّين، الذين هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُون) فإنك لا تتصوّر المداليلَ التصوّرية المجموعيّة إلاّ بعد انتهاء مجموع الكلام .. لذلك كان التخصيص المتّصل مؤثّراً في مرحلة الدلالة التصوّريّة فضلاً عن المرحلة التصديقيّة .
ثم بعد معرفة المدلول التصوّري لمجموع الكلام ننظرُ إلى حال المتكلّم هل أنه متوجّهٌ في هذا الكلام ويريد استعمال هذه الكلمات، أم أنه مخطئ في كلامه، وقاله اشتباهاً، فإنْ عَرَفْنا مِن حالِه أنه غير مخطئ ـ وهو الأصل في كلام العقلاء ـ إستفدنا ـ من مجموع ظهور كلامه مع ظهور حاله ـ أنه يريد إفادة المعنى الفلاني على صعيد الإرادة الإستعماليّة، حتى ولو كان هازلاً، فإذا عرفنا ـ من ظهور حاله أيضاً ـ أنه جادّ إستفدنا المدلولَ التصديقي الثاني، وهو المراد الجدّي. ومن الطبيعي أنّك ـ حين تريد استفادة المعنى المرادِ إفادتُه في مرحلة الإستعمال ـ تلاحظ حالَ المتكلّم هل أنه يريد استعمال هذه الكلمة وهذه وهذه، لتصل أخيراً إلى أنه أراد استعمال هذه الكلمات وليس مخطئاً فيها، فتستفيد بعد ذلك المدلولَ الإستعمالي المجموعي . لكن في مرحلة استفادة المراد الجدّي ليس الأمْرُ هكذا، وإنما السامعُ ـ بعدما تركّب المعنى المرادُ استعمالُه في ذهنه ـ يَنظُرُ إلى المتكلّم ليرى هل أنه جادٌّ في كلامه أو أنه هازل، فهو عمَلٌ بسيط، لا مركّب، أي هو ـ في مرحلة استفادة المراد الجدّي للمتكلّم ـ بخلاف تحقيقه في مرحلتَي الدلالتين التصوّريّة والإستعماليّة .
 ثم إنه دائماً يكون إخراجُ المخصِّص لبعض أفراد العام من تحت حكم العام لسبب مهم قد يغلب موضوع العام في الملاك، وذلك لأنّ العام حينما كان السببَ في جعْلِ الحكم، وكان المخصِّصُ سبباً في رفْعِ الحكمِ، إذن كان هناك مقتضي ـ في مرحلة الملاك ـ يقتضي رفْعَ حُكْمِ العام . هذا المقتضي الذي اقتضى التخصيصَ هو ذو قوى مختلفة ومتغايرة :
فقد تكون المفسدةُ في ملاك الخاص أعظمَ بكثير مِن مصلحة إكرامه، فتكون النتيجةُ سبباً في تشريع تحريم إكرامه، كما إذا كان العالِمُ يرتكب الكبائرَ مثلاً فيحرّم ح المولى إكرامَه، وكما في أدلّة (لا ضَرَرَ)، فإنّ غُسْلَ الجنابةِ ذو مصلحةٍ إلزاميّة، لكن ـ في حال الضرر المعتدّ به عقلائيّاً ـ يوجد مفسدة أعظم بكثير من هذه المصلحة اقتضت تحريم الغُسْلِ، لذلك كانت (لا ضرر) مخصّصة للأحكام الواقعيّة الأوّليّة .
وقد تكون المفسدةُ في ملاك الخاص أكبرَ مِن مصلحة إكرامه، لكنْ لا تَصِلُ المفسدةُ إلى حدّ التحريم، فح تقتضي نتيجةُ الكسر والإنكسار الحكمَ بكراهة إكرامه . ولنمثّلْ لذلك بالمثال التالي : ذَكَرَ الفقهاءُ في العروة الوثقى بأنه يستحبّ الإسباغُ في الوضوء[1] وذلك لحوالي 12 رواية ذَكَرَها في جامع أحاديث الشيعة في ذلك، مثل ما رواه محمد بن الفضل ـ فيما كتبه الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى ابن يقطين ـ ( إغسل وجهك مرة فريضة، وأخرى إسباغاً )، لكن إذا زاد على الإسباغ فهو مكروه، لأنه إسراف، إذن فلتكن هذه الحالةُ مِن هذا الباب، لأنّ المصلحة في الإسباغ كبيرة، لكنْ إن زاد صَرْفُ الماءِ على مقدار الإسباغ كانت المفسدة في الإسراف أكبر .



[1] راجع وسائل الشيعة، الحر العاملي  : ج 1، ب 32، ح 3، ص 313 . وهو غَسْلُ الأعضاءِ بشكل جيّد ومِن دون تباخل في الغَسل، ومَن غَسَلَ وجهَه ويديه مرّتين مرّتين فقد أسبغ وضوءَه.، وكان رسول الله (ص) يتوضّأ ـ مع مستحبّات الوضوء ـ بمُدّ من الماء وهو يساوي 737 غراماً ..