بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/16

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : في معنى الورود
 تعريف الورود : هو رَفْعُ أو إيجادُ فردٍ في موضوع دليل آخر حقيقةً وتعبّداً، كما إذا كان أحد الدليلين نافياً حقيقةً لشرط الحكم في الدليل الآخر فهو وارد، والدليلُ الذي انتفى شرطُه هو المورود عليه، ولذلك كان العلمُ وارداً على الأمارات والأصول ـ لأنّ العلمَ يُلغي شرطَ الأمارات والأصول وهو الجهل بالحكم الواقعي ـ، وكورود بعض الأمارات على البعض الآخر منها كورود البيّنة على أماريّة اليد وعلى أماريّة سوق المسلمين، وكورود الأماراتِ على الأصول العمليّة لأنها تُلغي حُكْمَ شرطِها ولا تُلغي نفسَ شرطِها، لأنّ الشكّ يَبقَى بالوجدان ولا يَلتغي ـ أي أنّ الأمارات تُلغي جريانَ الأصولِ العمليّة الجزئيّة، وهذا هو المراد مِن حُكْمِ شرْطِها ـ وذلك كورود خبر الثقة (العصير العنبي المغلي حرام) على (إذا شككت في حليّة أو حرمة العصير العنبي المغلي فالأصلُ الحليّة)، فإنّ الدليل الأوّل يُلغي حُكْمَ شرطِ الأصلِ ـ أي أنّ خبر الثقة بالحرمة يُلغي حليّةَ العصير العنبي المغلي ـ، وكما لو قال الثقةُ (هذا الثوب متنجّس) فإنه واردٌ على (أصالة طهارة هذا الثوب)، ومعنى (الورود) هنا هو أنّ خبر الثقةِ يجلب الثوبَ من تحت (قاعدة الطهارة) ويقول لها (هذا المورد موردي وليس موردَكِ) فيُطَبّق عليه حُكْمَه، وكورود بعض الأصول على بعض، كورود استصحاب نجاسة الشيء الفلاني على أصالة طهارته، فإنّ (الورود) هنا يعني أنّ استصحاب نجاسته هو المتّبع وهو المقدّم على أصالة طهارته، وكأنما استصحابُ نجاسته يجلب الشيء الفلاني إليه ويقول لأصالة الطهارة (هذا المورد موردي وليس موردَكِ) فيطبّق عليه حُكْمَه .
المهم هو أنه إذا كان يوجَدُ دليلٌ واردٌ فلا قيمةَ للدليل المورود أصلاً، وكأنه عدم تماماً، مثلاً: إذا حصل عندنا عِلْمٌ بشيءٍ فلا قيمةَ للأمارة المخالِفة أصلاً، وكأنها عدم تماماً، وإذا جاءت أمارةٌ فلا يعود للأصل المخالِف أيُّ قيمة، وكأنه عدم تماماً، وإذا علمنا بالحالة السابقة فلا يبقى لأصالة الطهارة قيمة، وكأنّ أصالة الطهارةِ عدمٌ تماماً ... وهكذا .
وعليه فالفَرْقُ بين الوارد والحاكم ـ الذي سوف يأتي بيانُه بعد قليل ـ هو أنّ الوارد يرفع حكم شرط جريان الدليل المورود تكويناً وحقيقةً، وأمّا الحاكم فإنه يتصرّف في موضوع الدليل المحكوم تعبّداً كما في (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) بمعنى أنّ الحاكم يتصرّف في معنى الموضوع في الدليل المحكوم تضيـيقاً أو توسعةً، ولذلك فهو يجب أن يكون ناظراً إلى موضوع الدليل المحكوم، وبالتالي يجب أن يكون الدليل المحكوم موجوداً قبل وجود الدليل الحاكم، وأمّا الواردُ فإنه يرفع حُكْمَ شرطِ جريان الدليل المورود ولا يتصرّف بمعنى الموضوع المورود، ولذلك لا يجب أن يكون الدليلُ الوارد ناظراً إلى الدليل المورود، ولا يجب أن يوجد قبل الدليل المورود .
وقد يوجِدُ أحدُ الدليلين فرداً من موضوع الحكم في الدليل الآخر، فالأوّل وارد، والثاني مورود عليه، مثالُ ذلك : يقول دليل الإفتاء مثلاً (إذا كان يوجد حُجّةٌ ـ كخبر الثقة ـ فإنه ح يجوز الإفتاءُ)، فجاء خبر الثقة وقال (الظنّ في عدد الركعات بحكم اليقين)، فالدليلُ الثاني أَوجَدَ فرداً من أفراد الحجّة، وبالتالي أوجد ـ حقيقةً وتعبّداً ـ موضوعَ جواز الإفتاء، وكذا إذا ورد (المؤمنون عند شروطهم إلاّ شرطاً خالف كتاب الله أو السُنّة)، ثم جاء دليل شرعي يقول (الشرطُ الفلاني حرام)، فالدليل الثاني وسّع في الشروط التي تخالف كتاب الله والسُنّة، فهو إذَنْ وارِدٌ، وكذا لو قلنا (يشترط في متعلّق اليمين والنذر أن يكون راجحاً أو غير مرجوح) ثم يأتي دليل آخر يقول (الشيء الفلاني راجح أو مرجوح) فهو إذن يزيد أو ينقص من المتعلّق، فهو إذن وارد . 
وهل أنّ (خبر الثقة حجّة) كحكم كلّي هو الوارد على (لا يجوز الإفتاء إلاّ بحجّة)، أم (خبرُ الثقة) الجزئي الخارجي هو الوارد على (لا يجوز الإفتاء إلاّ بحجّة) ؟
الجواب : يجب أن نَعْلَمَ أوّلاً أنّ اصطلاحات (الورود) و (الوارد) ونحوهما هي اصطلاحات القوم، وليست آياتٍ منزَلةً من عند الله عزّ وجلّ، ولذلك لا ينبغي الوقوف كثيراً على هكذا نقطة، وإن كان الصحيح أنّ (خبر الثقة) الجزئي هو الوارد، لأنه في مثالنا هذا يوجِد فرداً من أفراد الحجّة، وفي الأمثلة السابقة هو يُلغي حكم شرط جريان الأصلِ العملي، وليس (خبر الثقة حجّة) الكلّي هو الذي يلغي حكم شرط الإستصحاب مثلاً، وذلك لأنّ الكلّي ليس في مقام إيجاد فرد من أفراد موضوع المورود أو إلغائه، وإنما هو جعل كلّيّ لا أكثر، من قبيل (الصلاة واجبة) و (شرب الخمر حرام)، كما لا يصحّ القول بأنّ (الإستصحاب) ـ كحكم كلّي ـ واردٌ على (قاعدة الطهارة) ـ كحكم كلّي ـ بذريعة أنها تُلغي شرطها، وإلاّ لَوَلّتْ قاعدةُ الطهارة وذهبَتْ إلى غير رَجْعَة، وكذا لا يصحّ القولُ بأنّ (البيّنة حجّة) ـ كحكم كلّي ـ واردٌ على (أماريّة اليد) ـ كحكم كلّي ـ وإلا لإلتَغَتْ (أماريّةُ اليد) من أصل الجعل، وهكذا في سائر الأمثلة . ولذلك قلنا قبل قليل إنّ (استصحاب نجاسة الشيء الفلاني) ـ كاستصحاب جزئي ـ واردٌ على (أصالة طهارته) ـ كتطبيق جزئي لقاعدة الطهارة ـ . نعم، (خبر الثقة حجّة) كحكم كلّي هو العلّة والسبب في حجيّة الخبر الجزئي . وما ذكرناه هو المنسجم أيضاً مع صانع هذا المصطلح ـ وهو الشيخ الأنصاري ـ في كتابه (فرائد الاُصول) [1] .
تعريف الحكومة : هي أن يكون أحد الدليلين بمدلوله اللفظي مُتَعَرِّضاً لتفسير دليل آخر ومُبَيِّناً لمقدار موضوعه تعبّداً، وبالتالي فقد يكون مضيّقاً تعبّداً للموضوع في الدليل السابق أي رافعاً لبعضِ أفرادِ موضوع المحكوم ـ كما في (الربا حرام) و (لا ربا بين الوالد وولده) ـ وقد يكون الدليل الحاكمُ موسّعاً تعبّداً لموضوع الدليل السابق ـ كما في (يشترط في الصلاة الطهارةُ) والدليل الحاكم هو (الطواف في البيت صلاة) فهنا صار الدليل الحاكم موسّعاً لمفهوم الصلاة ـ وبالتالي فيكون الدليلُ الحاكمُ ملغياً لحُكْمِ الربا بين الوالد وولده، ومثبتاً لحُكْمِ الطهارة في المثال الثاني . إذن يجب أن يكون الدليل المحكوم موجوداً أوّلاً، وثانياً يجب أن يكون الدليلُ الحاكمُ ناظراً للدليل المحكوم، وإلاّ ـ لو فرضنا عدمَ وجودِ (الربا حرام) أو فرَضْنا عدمَ نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ـ لم يعد هناك معنى لقولنا (لا ربا بين الوالد وولده)، لأنه ح لا مورد له، أو قُلْ لأنه لا يوجد (رِبا) ليفسّره، أو هو غير ناظر إلى الدليل الثاني ليفسّره . وما ذكرناه هو الحكومة الواقعيّة لأنّ الأدلّة الحاكمة فيها هي أحكام واقعيّة وملاكُها واقعي ـ لا أصولاً عمليّةً شرطُها الشكّ ـ .



[1]  فرائد الاُصول،بحث التعادل والتراجيح  : ج 4، طبعة لجنة تحقيق تراث الشيخ الأنصاري، ص 13..