بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/09

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الدرس الأخير في الرجوع إلى عموم العام
الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص
قلنا في الدروس إنه يُتمسّكُ بعموم العام، ولا يجري استصحاب الحكم المخصّص لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة ...
بـيانُ المطلب : قد يكونُ عندنا مطلق أزماني مثل [اَوْفُوا] في قول الله تعالى[اَوْفُوا بِالعُقُود] وتخصيصٌ مثل (الغبن حرام لأنه إضرار بالمسلم، سواء كان المغبونُ البائعَ أو المشتري) وحصل عند العرف شكّ في مقدار مدّة خيار الغبن، ففي المدّة المشكوكة الشمول لخيار الغبن، هل يُستصحَبُ هذا الحقُّ أم لا ؟
الجواب : قطعاً لا، لأنّ المقدار المتيقّن هو الساعة الاُولى ـ مثلاً ـ بعد ظهور الغَبن، والزائدُ عن مقدار الساعة الأولى لا عِلْمَ لنا بثبوت خيار الغبن فيه، أو قُلْ : اِنخدش الركن الثاني من أركان الإستصحاب لِتَعَدُّدِ الموضوعِ أو قُلْ لتغيّر الظروف، فلا يجري الإستصحاب في عالم الجعل، وذلك لاحتمال تغيّر الحكم في الساعة الثانية، بل لو بقي نفس سنخ الحكم لكان حكماً ثانياً، ولذلك نقول ( لا يكون له خيار في الساعة الثانية ) لأصالة عدمه بعد تحقّق العقْد، وإنما الإستصحاب يكون في عالم الشبهات الموضوعيّة فقط . ولذلك يتعيّنُ علينا ـ بعد انتهاء الساعةِ الأولى ـ الرجوعُ إلى الإطلاق الأزماني لـ [اَوْفُوا] في قول اللهِQ [اَوْفُوا بِالعُقُودِ]، ولا يجري استصحابُ بقاءِ الحكمِ المخصِّص، أي لا يجري استصحاب بقاء حقّ خيار الغبن إلى ما بعد الساعة الأولى، وذلك لأنّ [اَوْفُوا] مطْلَقَةٌ بلحاظ جميع الأزمنة، أي أنّ المولى تعالى يأمرنا بالإيفاء بالعقود في الساعة الأولى وفي الساعة الثانية والثالثة وهكذا ... خَرَجَ مِن وجوبِ الإيفاء بالعقود الساعةُ الأولى ـ بمقتضى الغبن ـ فيجب ـ مع عدم رجوع المغبون إلى البائع في الساعة الأولى ـ أن يُتمسّك بالإطلاق الأزماني لـ[اَوفوا]، ولذلك قالوا بأنّ خيار الغبن فوريّ كما ذهب إلى ذلك الشيخ الأعظم الأنصاريوغيره .
نعم، في مثال خيار المجلس نتمسّك بالعموم الأفرادي لـ [العقود]، فقد استدلّوا على خيار المجلس بقول النبيّw ـ في الروايات الصحيحة ـ : ( البيِّعانِ بالخيار حتى يفترقا، وصاحب الحيوان بالخيار ثلاثة أيام )[1] فأثْبَتَََw لكلّ منهما الخيارَ قبل التفَرُّق ولو من أحدهما لغايةِ إخراج الطرف الآخر من حقّ خيار المجلس . ويظهر أنّ اختيار الفسخ ـ باستعمال حقّ خيار المجلس ـ هو من باب فسخ البيع السابق لا من باب البيع الثاني . المهم هو أنه في خيار المجلس يجري نفس الكلام تقريباً، إلاّ أنه في الحالة المشكوكة ـ كما لو انفصلا بخطوتين فقط ـ يجب أن نرجع إلى العموم الأفرادي لـ [العقود] لا إلى الإطلاق الأزماني، أي يجب أن نـتمسّك ـ في الحالة المشكوكة ـ بعموم [العقود] لا بإطلاق [اَوفُوا]، وذلك لعدم ثبوت [أوفوا] من أوّل الأمر، فإنه في نفس المجلس لا يجب الإيفاءُ بالعقد طالما هما جالسان في المجلس، وقد يقال (لا، بل نستصحب بقاءَ خيار المجلس بالخطوتين الاُولتين) . ولكنك تعرف أنّ خيار المجلس هو مخالف لمقتضى العقد شرعاً وعقلائيّاً، فيجب أن يُقتصَرَ فيه على القدر المتيقّن .
مثال ثاني : لو تردّد أثناء سفره في إكمال سفره أو في رجوعه إلى وطنه ثم عاد إلى الجزم بإكمال السفر قبل أن يقطع شيئاً من الطريق ولم يكن الذهاب الباقي مع العَود مسافةً، فإمّا أن تكون فترة التردّد طويلة عرفاً كأكثر من ساعة فهنا يجب عليه صلاةُ التمام بوضوح، لكون القصد الثاني غير القصد الأوّل ولكون وظيفته ـ لو أراد أن يصلّي أثناء تردّده ـ أن يصلّي تماماً .
وإمّا أن تكون فترة التردّد قصيرة عرفاً فهنا كان السير ثمانية فراسخ عن قصدٍ متصلاً عرفاً ولم يفصل بين أجزائها ما هو فاقد للقصد لِفَرْضِ عدمِ قطعه شيئاً من الطريق حال التردّد . فاللازمُ هنا هو التمسّكُ بعموم أنّ حُكمَ مَن ضَرَبَ في الأرض هو التقصير، ولا يوجد دليل يدِل على أنّ مجرّد التردّد ـ ولو القصير ـ يُفسد الشرطَ الثاني ـ وهو قصْدُ قطْعِ المسافة ـ، ذلك لأننا استفدنا الشرط الثاني من روحية الروايات لا من نصّ صريح، فيكفي بقاءُ القصد عرفاً ـ ولو كان بالدقّة العقلية قصْداً ثانياً ـ خاصةً إذا كانت فترة التردّد قصيرة للغاية . وما اُريد قولَه هو عدم صحّة استصحاب البقاء على التمام بذريعة أنه مجرّد أنه تردّد ـ ولو دقيقة ـ فقد صار حُكْمُه التمام، فنستصحب التمامَ !! وإنما يجب أن تقول : الأصلُ عدمُ التخصيصِ الزائد في شرطيّة القصد .
مثال ثالث : لو كان شخص يضارِبُ بمال شخص آخر، ثم انتهت مدّة المضاربة أو أنهم فسخوها، بعد هذا الفسخ ذهب العاملُ ليَجْلِبَ المالَ فرجع وهو يدّعي تلفَ المالِ ! فهل يُسمَعُ قولُه لبقاء حُكْمِ أمانـتِه ـ كما كان الأمْرُ كذلك حين المضاربة، بدليل أنّ العامل أمين فلا يَضمن أي لا يُغَرَّمُ وأنه إذا اتُّهِم يُستحلَفُ ولا يُطلب منه البيّنةُ ـ ؟
أو يُطلَبَ منه البيّنةُ لخروجه عن كونه أميناً ـ فيُرجَعُ إلى عموم (على المدّعي البيّنةُ)ـ ؟
أو يفصّل كما قال بعضهم فقد قالوا : (لا ريب أنّ الفسخ لا يخرجه عن الإئتمان إلاّ إذا طالبه المالكُ بالمال وقصّر العاملُ في الدفع، وإلاّ فإن كان المال عند العامل بإذن المالك فهو أمين ويُسمع قولُه) ؟
الجواب : إختلف الفقهاءُ في هذا المسألة، ولا شكّ في صحّة التفصيل الأخير، لكنْ أمانتُه بعد فسخ المضاربة ليست نفسَ أمانتِه حين المضاربة، فهما سنخان متغايران، لأنّ الأمانة بعد فسخ المضاربة تكون من باب الوديعة والإذن المالكي، لا من باب (العامِلُ المضارِبُ أمين) .
وما ينفعنا في بحثنا هنا هو أنه لو فَرضنا تقصيرَه قليلاً بحيث شككنا في بقاء نزوله تحت عنوان (الأمين)، فح يلزمُ الرجوعُ في هكذا حالةٍ إلى عموم (البيّنةُ على المدّعي) لنفس السبب الذي ذكرناه في الأمثلة السابقة، فإنّ البناء على كونه أميناً عند الشكّ في التخصيص الزائد ـ أي بعد انتهاءِ حالةِ كونه مضارباً أميناً وبعد عدم وضوح أنه وَدَعِيّ فهو إذَنْ أمينٌ شرعاً ـ لا دليل عليه، فيُرجع ـ لا محالة ـ إلى الإطلاق الأزماني في الدليل الفوقاني العامّ وهو وجوبُ أن يقَدِّمَ بيّنةً على صحّة ادّعائه [2].
المهم هو أنه يجب الرجوع إلى إطلاق (على المدّعي البيّنة)، ولا نستصحب بقاء الإذن لمن كان عاملاً مضارباً،  لأنّ الأصلَ هو عدمُ وجود إذن شرعي بعد الفترة المتيقّنة حينما كان عامِلاً مضارِباً .
مثال رابع : المشهور بين العلماء هو أنه لو رَضِيَ المكرَهُ بما أكرِهَ عليه من العقد فإنّ العقدَ ح يصح . وخالف في ذلك صاحب مجمع الفائدة والبرهان، فقد استظهر البطلانَ لعدم حصول القصد من الأوّل ولعدم صدور العقد عن تراض، ولأنه لا اعتبار بذلك الرضا اللاحق في نظر الشارع فهو بمنزلة العدم [3].
أقول : لا شكّ في أنّ المكرَه قاصدٌ للعقد، إلاّ أنّ المانع من صحّة عقده هو الإكراه، لا عدم القصد، فبَعد القبولِ بالعقد أي بعد رضاه به وطيبِ نفسِه لا يكون أكْلُ المالِ ح أكلاً له بالباطل، وقد عرفتَ أنّ العُمدة في إثبات قدح الإكراهِ هو الإجماعُ وحديثُ الرفع، ودلالتهما على قادحيته مختصة بحال وجود الكراهة، فإذا زالت الكراهة المذكورة وتبدلت بالرضى فلا يصلحان ح لإثبات البطلان، وأما حديث الرفع فلأنّ اجراءَه حينئذ ـ أي رغم القبول بالعقد ـ هو خلافُ الإمتنان في حق المكرَه . فالمرجع حينئذ هو عموم [العقود] و إطلاق [تجارة] في قوله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ][4] وليس المرجع هو (استصحابُ الحكمِ السابق الذي هو عدم الإنعقاد) والذي هو من قبيل استصحاب حكم المخصِِّص، وحيث إنّ التحقيق ـ كما مرّ معنا قبل أسطر ـ هو الرجوع إلى عموم العام في مثل المقام ـ حيث يدور الأمْرُ بينه وبين الرجوع إلى استصحاب حكم المخصِّص ـ فإنه يتعين البناءُ على صحة العقد ونفوذه، ولا يصحّ التمسّك باستصحاب حكم المخَصِّص ليقال بعدم انعقادِ العقد من الأصل، وذلك لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة، وبتعبير آخر : لا يصحّ أن تقول بأصالة عدم حصول عقْدِ البيع، هذا أوّلاً، وثانياً : لأنّ القدر المتيقّن من العقود الباطلة هو عقد المكرَه وطالما هو مُكْرَه، وأمّا إخراج (عقْدِ المكرَهِ بعد رضاه) من تحت [العقود] فأمْرٌ فيه شكٌّ واضح، فيجب إبقاؤه تحت عموم [العقود]، وذلك لأنه (عقَدَ)، و(هو قاصدٌ للعقد)، ثم (رَضِيَ بعد ذلك)، فتمّت الصغرى، والكبرى هي [اَوْفُوا بِالعُقُودِ] و [إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ]، ونحن عندنا شكّ بالتخصيص الزائد في عالَمِ الجعْلِ ـ وهو عقْدُ المكرَهِ بعد رضاه ـ، فلذا صار من الطبيعي أن نرجع إلى إطلاق [العقود] في [اَوْفُوا بالعُقُود] . والنتيجة هي أنه يجب التمسّكُ هنا بعموم العام ولا يجري استصحابُ الحكمِ المخصِّص . ولعلّه لما ذكرناه اشتهر القول بالصحّة بين الفقهاء .  



[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي : ج 12، ب 1 من أبواب الخيار، ص 345، الاسلامية..
[2] العروة الوثقى : ج 5، مسألة 52 من كتاب المضاربة، ص 239  تعليقة رقم 1، وفيها ترى تعليقات السيد الخوئي والسيد الشيرازي والسيد الفيروزآبادي والشيخ كاشف الغطاء والسيد الكلبايكاني .
[3] مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان للفقيه المحقق أحمد المقدس الأردبيلي المتوفى سنة 993 هـ‍ ق : ج 8، ص 156..
[4] النساء : 29..