الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/04/03

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص

الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص

بيان الأمر باختصار : قد يقال بجواز التمسّك بعموم العام ، ومبنى جواز التمسّك بعموم العام هو البناء على عدم تعنون العام بعنوان ما عدا الخاص ، وإنما يبقى العام على عموميّته، فلو قال المولى (أكرم علماء الحوزة) ثم قال (لا تُكرم فسّاقَهم أو لا يجب إكرام فسّاقهم) ، ثم شككنا في عدالة زيد ـ الذي هو أحد علماء الحوزة ـ أو في فسقه ، فإنّ علينا أن نرجع إلى عموم (أكرم علماء الحوزة) حتى يثبت فسقه ، طبعاً إن لم يكن يوجد عنده حالة سابقة بالعدالة أو الفسق ، وإلاّ فإنها تُستصحَبُ .

ومبنى عدم الجواز هو تَعَنْوُنُ العامِّ بعنوان (العام المخصَّص) ، أي يصير العامُّ جزءً مِنَ الموضوع بالتخصيص بعد اَنْ كان العامُ تمامَ الموضوع قبل التخصيص ، أي تصير الجملة هكذا (أكرم علماء الحوزة العدول) ، فمع الشكّ في فسق زيد أو عدالته فإننا يجب أن نرجع إلى براءة الذمّة من وجوب إكرامه .

والصحيح أن يقال : إنّ المولى تارةً يكون ـ ولو ظاهر حاله ـ في مقام البيان للعمل ، فح يؤخذ بالعام ، ولا ينبغي تَعَنْوُنُ العامّ حِينَها بما عدا الخاصّ ، وإنما يبقى العام على عمومه ، ويُحمَلُ الخاصّ حينئذٍ على الإستحباب ، كما لو قال المولى ـ حينما سأله سائل عن كفّارة الإفطار العمدي ـ أعتق رقبةً ، وحينما سأله شخص آخر نفسَ السؤال أجابه (أعتق رقبةً مؤمنة) ، فح يجب أن نحمل وصفَ الإيمان على الإستحباب ، وتارةً يكون المولى في مقام بيان أصل الموضوع والحكم ، كما لو ورد (أكرموا العلماء والمؤمنين وأهل الكرم والجود وكبارَ السنّ والوالدين ) ثم يأتي مخصّص متّصل أو منفصل فيقول (لا تكرموا الفسّاق والمنافقين والكفّار ، أو لا ينبغي إكرامهم ، أو لا يجب إكرامهم) ، فهنا نأخذ بالمخصّص ، ونوجب إكرام العلماء إلاّ الفسّاق منهم ..

مثال ذلك : قال الله تعالى[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)] [1] ، وثَبَتَ في الشرع خِيارُ الغَبن ، فلو شُكَّ في أنّ خيار الغبن هو على نحو الفَور أو على نحو التراخي ، فهل يصحّ التمسّك بـ [اَوفُوا بالعُقود] ـ في حال زوال الوقت الأوّل ـ لإثبات وجوب الإيفاء بالعقد أم نستصحب بقاء خيار الغبن ؟

الجواب : يجب أن نقول هنا إنّ المولى تعالى لم يكن ـ في قوله [اَوفُوا بالعُقود] ـ في مقام بيان جميع تفاصيل الحكم وحدودِه ، وذلك بدليل تخصيصه بالخيارات وببعض الشروط ، ثم بعد قراءة التخصيصات المذكورة في الشرع نأخذ بعموم [ أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ] وندّعي عموميّة هذه الآية لنرجع إليها عند الحاجة . أمّا خِيارُ الغبن ـ مثلاً ـ فالقدرُ المتيقّن منه هو أنّه في الوقت الأوّل ، ونشكّ في ثبوته بعد ذلك ، فيجب الرجوع إلى الإطلاق الأزماني لدليل [اَوفُوا بالعُقود] وهو وجوب الإيفاء بالعقود في كلّ الأزمان ، سَقَطَ الزمانُ الأوّلُ شرعاً بسبب الغبن ، فنبقى على إطلاق [اَوْفُوا] في سائر الأزمنة . وبتعبير آخر : معنى الإطلاق الأزماني لـ [اَوفوا بالعقود] هو وجوب الإيفاء به في الدقيقة الاُولى وفي الدقيقة الثانية وفي الثالثة وفي كلّ دقيقة ، والرجوعُ إلى هذا الإطلاق الأزماني أقوى من الرجوع إلى إطلاق (خِيار الغَبْن) ، لأنه مع الشكّ في مقدار وحدود هذا الخِيار يجب الإقتصار على القدر المتيقّن من الخروج من تحت العمومات الفوقانية والرجوعُ دائماً إلى العمومات الفوقانية ، ولا صحّة للتمسّك باستصحاب بقاء خيار الغبن ، وذلك لسببين : الأوّل : لأنه مع وجود أمارات وأدلّة محرزة لا يصحّ عقلاً ولا شرعاً التمسّكُ بالإستصحاب ، وثانياً : لأنّ الشكّ في بقاء خيار الغبن إلى المدّة البعيدة هو شكّ في مقدار الجعل ، وأنت تعلم أنّ الإستصحاب لا يجري في الشبهات الحكميّة ، فيبقى أن نرجع إلى عموم العامّ ، ولك أن تقول بأنّ مرجع ذلك إلى أصالة عدم التخصيص الزائد ، ولا مجال للقول باستصحاب بقاء الخيار .

مثال ثاني : لو تردّد أثناء سفره في إكمال سفره أو في رجوعه إلى وطنه ثم عاد إلى الجزم بإكمال السفر قبل أن يقطع شيئاً من الطريق ولم يكن الذهاب الباقي مع العَود مسافةً ، فإمّا أن تكون فترة التردّد طويلة عرفاً كأكثر من ساعة فهنا يجب عليه صلاةُ التمام بوضوح ، لكون القصد الثاني غير القصد الأوّل ولكون وظيفته ـ لو أراد أن يصلّي أثناء تردّده ـ أن يصلّي تماماً .

وإمّا أن تكون فترة التردّد قصيرة عرفاً فهنا كان السير ثمانية فراسخ عن قصدٍ متصلاً عرفاً ولم يفصل بين أجزائها ما هو فاقد للقصد لِفَرْضِ عدمِ قطعه شيئاً من الطريق حال التردّد . فاللازمُ هنا التمسّكُ بعموم أنّ حُكمَ مَن ضَرَبَ في الأرض هو التقصير ، ولا يوجد دليل يدِل على أنّ مجرّد التردّد ـ ولو القصير ـ يُفسد الشرطَ الثاني ـ وهو قصْدُ قطْعِ المسافة ـ ، ذلك لأننا استفدنا الشرط الثاني من روحية الروايات لا من نصّ صريح ، فيكفي بقاءُ القصد عرفاً ـ ولو كان بالدقّة العقلية قصْداً ثانياً ـ خاصةً إذا كانت فترة التردّد قصيرة للغاية . وما اُريد قولَه هو عدم صحّة استصحاب البقاء على التمام بذريعة أنه مجرّد أنه تردّد ـ ولو دقيقة ـ فقد صار حُكْمُه التمام ، فنستصحب التمامَ !! وإنما يجب أن تقول : الأصلُ عدمُ التخصيصِ الزائد في شرطيّة القصد .

مثال ثالث : لو كان شخص يضارِبُ بمال شخص آخر ، ثم انتهت مدّة المضاربة أو أنهم فسخوها ، بعد هذا الفسخ ذهب العاملُ ليَجْلِبَ المالَ فرجع وهو يدّعي تلفَ المالِ ! فهل يُسمَعُ قولُه لبقاء حُكْمِ أمانـتِه ـ كما كان الأمْرُ كذلك حين المضاربة ، بدليل أنّ العامل أمين فلا يَضمن أي لا يُغَرَّمُ وأنه إذا اتُّهِم يُستحلَفُ ولا يُطلب منه البيّنةُ ـ كما قال السيد الخوئي والسيد عبد الهادي الشيرازي والسيد محمد الفيروزآبادي ؟

أو يُطلَبَ منه البيّنةُ لخروجه عن كونه أميناً ـ فيُرجَعُ إلى عموم (على المدّعي البيّنةُ) ـ ؟

أو يفصّل كما قال الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد الكلبايكاني والسيد حسن الطباطبائي القمّي[2] والسيد محسن الحكيم[3] فقد قالوا : (لا ريب أنّ الفسخ لا يخرجه عن الإئتمان إلاّ إذا طالبه المالكُ بالمال وقصّر العاملُ في الدفع ، وإلاّ فإن كان المال عند العامل بإذن المالك فهو أمين ويُسمع قولُه) ؟

الجواب : إختلف الفقهاءُ في هذا المسألة ، ولا شكّ في صحّة التفصيل الأخير ، لكنْ أمانتُه بعد فسخ المضاربة ليست نفسَ أمانتِه حين المضاربة ، فهما سنخان متغايران ، لأنّ الأمانة بعد فسخ المضاربة تكون من باب الوديعة والإذن المالكي ، لا من باب (العامِلُ المضارِبُ أمين) .

وما ينفعنا في بحثنا هنا هو أنه لو فَرضنا تقصيرَه قليلاً بحيث شككنا في بقاء نزوله تحت عنوان (الأمين) ، فح يلزمُ الرجوعُ في هكذا حالةٍ إلى عموم (البيّنةُ على المدّعي) لنفس السبب الذي ذكرناه في الأمثلة السابقة ، فإنّ البناء على كونه أميناً عند الشكّ في التخصيص الزائد ـ أي بعد انتهاءِ حالةِ كونه مضارباً أميناً وبعد عدم وضوح أنه وَدَعِيّ فهو إذَنْ أمينٌ شرعاً ـ لا دليل عليه ، فيُرجع ـ لا محالة ـ إلى الإطلاق الأزماني في الدليل الفوقاني العامّ وهو وجوبُ أن يقَدِّمَ بيّنةً على صحّة ادّعائه ، والظاهر أنّ مقصود الآغا[4] ضياء الدين العراقي هو هذا ، ولو لم يكن كلامه واضحاً فيما نقول ، فقد قال (.. وجهان مبنيّان على تقيـيد أمانته بخصوص بقاء المضاربة أو إطلاقه ، والتحقيق هو الأوّل)(إنتهى) [5] .

أقول : لكن قد لا يكون التمسّكُ بعموم العامّ هنا هو عَينُ ما كنّا نريده في مستهلّ هذا المطلَب ، وإنما رجعنا إليه لأنّ الأصلَ هو عدمُ وجود إذن شرعي بعد الفترة المتيقّنة حينما كان عامِلاً مضارِباً ، وكذا إن شككنا في كونه وَدَعِيّاً أو مأذوناً من قبل المالك ، لأنّ الفرْضَ هو حصولُ شكّ في وجود هكذا اُذون شرعيّة أو مالكيّة ، فلا يصحّ استصحاب بقاء الإذن ، لأنّ الأصلَ عدمُه ، يعني أنه إذا شَكّ القاضي بين كون الإذن يوماً أو يومين فإنه يبني دائماً على الأقلّ ، وهذا أمْرٌ بيّنٌ وواضحٌ شرعاً وعقلاً ، فيُرجَعُ ـ لا محالةَ ـ إلى إطلاق (البيّنةُ على المدّعي) بَعدَ فَقْدِ تخصيصٍ زائد ، والأصل عدمه ، ولذلك نرجع إلى إطلاق (البيّنةُ على المدّعي) .

مثال رابع : المشهور بين العلماء هو أنه لو رَضِيَ المكرَهُ بما أكرِهَ عليه من العقد فإنّ العقدَ ح يصح . وخالف في ذلك صاحب مجمع الفائدة والبرهان ، فقد استظهر البطلانَ لعدم حصول القصد من الأوّل ولعدم صدور العقد عن تراض ، ولأنه لا اعتبار بذلك الرضا اللاحق في نظر الشارع فهو بمنزلة العدم ، ثم قال : ( وبالجملة : لا اِجماع فيه ولا نصّ ، والأصلُ والإستصحابُ وعدمُ الأكل بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض يدل على عدم الإنعقاد ، إلا أن المشهور الصحة وما نعرف لهم دليلاً)(إنتهى ما في مجمع الفائدة والبرهان)[6] . وفي الكفاية ـ بعد نسبة الصحة إلى الأصحاب ـ قال : (.. إِستناداً إلى تعليلات اعتبارية من غير نص)(إنتهى) [7] . وفي الجواهر : (.. إن لم تكن المسألة اِجماعيةً فللنظرِ فيها مجالٌ كما اعترف به في جامع المقاصد ضرورةَ عدم اندراجه في العقود بعد فرض فقدان قصد العقدية وأن صدور اللفظ من المكرَه كصدوره من الهازل والمجنون)(إنتهى) [8] .

أقول : لا شكّ في أنّ المكرَه قاصدٌ للعقد ، إلاّ أنّ المانع من صحّة عقده هو الإكراه ، لا عدم القصد ، فبَعد القبولِ بالعقد أي بعد رضاه به وطيبِ نفسِه لا يكون أكْلُ المالِ ح أكلاً له بالباطل ، وقد عرفتَ أنّ العُمدة في إثبات قدح الإكراهِ هو الإجماعُ وحديثُ الرفع ، ودلالتهما على قادحيته مختصة بحال وجود الكراهة ، فإذا زالت الكراهة المذكورة وتبدلت بالرضى فلا يصلحان ح لإثبات البطلان ، وأما حديث الرفع فلأنّ اجراءَه حينئذ ـ أي رغم القبول بالعقد ـ هو خلافُ الإمتنان في حق المكرَه . فالمرجع حينئذ هو عموم [اَوفوا بالعقود] و [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ][9] وليس (استصحابَ الحكمِ السابق الذي هو البطلان) والذي هو من قبيل استصحاب حكم المخصِِّص ، وحيث إنّ التحقيق ـ كما مرّ معنا قبل أسطر ـ هو الرجوع إلى عموم العام في مثل المقام ـ حيث يدور الأمْرُ بينه وبين الرجوع إلى استصحاب حكم المخصِّص ـ فإنه يتعين البناء على صحة العقد ونفوذه ، ولا يصحّ التمسّك باستصحاب حكم المخَصِّص ليقال ببطلان العقد ، وذلك لأنه استصحاب في الشبهات الحكميّة . وللبحث تتمّة .


[1] سورة النساء، آیة 1 .
[2] العروة الوثقى، السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، ج5، ص236، ط جماعة المدرسین.
[3] مستمسك العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج12، ص397، ط قم.
[4] تُكتَبُ بالفارسيّة (آقا)، ولكنها تُلفَظُ بالعربـيّة (آغا)، فراعَينا التلفُّظَ العربي .
[5] العروة الوثقى، السيد محسن الطباطبائي الحكيم، ج5، ص236.«وفيها ترى تعليقات السيد الخوئي والسيد الشيرازي والسيد الفيروزآبادي والشيخ كاشف الغطاء والسيد الكلبايكاني
[6] مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان، للفقيه المحقق أحمد المقدس الأردبيلي، ج8، ص156.
[7] كفاية الفقه المشتهر‌(كفاية الأحكام)، للمولى محمد باقر السبزواري، المتوفَّى 1090 هـ، ج1، ص449.
[8] جواهر الكلام، ج22، في شرائط المتعاقدين، ص267 .
[9] سورة النساء، آیه29 .