بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/04/01

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص
الرجوع إلى عموم العام أو استصحاب حُكْمِ المخصِّص
بيان الأمر باختصار : قد يقال بجواز التمسّك بعموم العام وحكي ذلك عن السيد اليزدي، ومبنى جواز التمسّك بعموم العام هو البناء على عدم تعنون العام بعنوان ما عدا الخاص، وإنما يبقى العام على عموميّته، فلو قال المولى (أكرم علماء الحوزة) ثم قال (لا تُكرم فسّاقَهم)، ثم شككنا في عدالة زيد ـ الذي هو أحد علماء الحوزة ـ أو في فسقه، فإنّ علينا أن نرجع إلى عموم (أكرم علماء الحوزة) حتى يثبت فسقه، مع غضّ النظر عن الخصوصيّة في هذا المثال، فإنه إذا كانت الحالة السابقة هي العدالة، ولو قبل بلوغه، فإنه لا إشكال ح في وجوب إكرامه، وذلك لاستصحاب عدالته الثابتة قبل بلوغه .
 ومبنى عدم الجواز هو تعنون العام بعنوان (العام المخصَّص)، أي يصير العامُّ جزءً مِنَ الموضوع بالتخصيص بعد اَنْ كان العامُ تمامَ الموضوع قبل التخصيص، وح يُرجع إلى الأصول العمليّة .
ذكرنا أمس هذا المثال العملي : لو استغنتِ المرأةُ العجوزُ في أثناء السنة عن حِلِيّها فهل تخمّسه ـ تمسّكاً بعموم (الخُمسُ في كلّ فائدة وغنيمة) ـ أم لا ـ تمسّكاً بالمخصِّص الذي يقول (الخمس بعد المؤونة)، والحِلِيُّ كان مؤونةً ـ ؟
وقلنا إنه يجب الرجوع إلى عموم العام الذي هو (غنيمة) و (فائدة) . وإنما لم نقل بوجوب تخميس الحِلِيّ ـ حينما كان مؤونة ـ لأنه كانت مؤونة، وهذا هو الذي كان مانعاً عن أن يَعمَلَ الدليلُ العامُ عَمَلَهُ، فحينما رُفِعَ عنوانُ المؤونةِ عن هذا الحِلِيّ يجب الرجوع إلى الدليل العام، لأنّ هذا الحليّ هو في الواقع (ربح) و (فائدة)، فيجب أن يأخذ حكمَ الربحِ والفائدة .
مثال ثانٍ : قال الله تعالى[أَوفُوا بالعُقود]، وثَبَتَ في الشرع خِيارُ الغَبن، فلو شُكَّ في أنّ خيار الغبن هو على نحو الفور أو على نحو التراخي، فهل يصحّ التمسّك بـ [اَوفُوا بالعُقود] ـ في حال زوال الوقت الأوّل ـ لإثبات وجوب الإيفاء بالعقد أم نستصحب بقاء خيار الغبن ؟
الجواب : إنّ القدر المتيقّن هو أنّ خيار الغبن هو الوقت الأوّل، ونشكّ في ثبوته بعد ذلك، فيجب الرجوع إلى العموم الأزماني لدليل [اَوفُوا بالعُقود] وهو وجوب الإيفاء بالعقود، ومعنى الإطلاق الأزماني لـ [اَوفوا بالعقود] هو وجوب الإيفاء به في الدقيقة الاُولى وفي الدقيقة الثانية وفي الدقيقة الثالثة وفي كلّ دقيقة، والرجوعُ إلى هذا الإطلاق الأزماني أقوى من الرجوع إلى إطلاق (خِيار الغَبْن)، لأنه مع الشكّ في مقدار وحدود هذا الخِيار يجب الإقتصار على القدر المتيقّن من الخروج من تحت العمومات الفوقانية والرجوعُ دائماً إلى العمومات الفوقانية، ولا صحّة للتمسّك باستصحاب بقاء خيار الغبن، ذلك لأنه مع وجود أمارات وأدلّة محرزة لا يصحّ عقلاً ولا شرعاً التمسّكُ بالإستصحاب .
تذكير : لا شكّ أنك تعلم أنّ قولهQ[اَوفُوا] في قوله تعالى[اَوفُوا بالعُقود] مطلقٌ بلحاظ الزمان كما قلنا قبل أسطر، وأنّ قوله[العُقُود] هو عامّ بلحاظ جميع أنواع وأفراد العقود، أي أنّ الآية الكريمة تفيد الإستغراقَ والشمول طولاً ـ أي بلحاظ الزمان ـ وعرْضاً ـ أي بلحاظ جميع أنواع وأفراد العقود ـ، والعموم الأفرادي يفيد الإطلاق الأزماني، وذلك لعدم إمكان الإطاعة بلحاظ جميع الأفراد إلاّ مع وجود زمان يسع كلّ هذه الإطاعات، فلو قال المولى (أكرم جميعَ العلماءِ في الحوزة الفلانيّة في هذه الدقيقة) على نحو الإستغراق، فأنت بحاجة إلى زمان لإكرامهم جميعاً، ويكون قوله (في هذه الدقيقة) مطلقاً من حيث أوّل الدقيقة أو في وسطها أو في آخرها، حتى ولو ظهر لك التقييدُ بهذا الزمان الصغير .
مثال ثالث : المعروف هو أنّ لصلاة الجمعة وقتاً معيّناً ـ وهو إمّا إلى أن يصير الظلّ مثل الشاخص وهو المشهور والمنصور، وإمّا هو إلى أن تمضي ساعةٌ من زوال الشمس فقط ـ، فلو شككنا في حدوده وأردنا الصلاة بعد زوال الشمس بساعة ونصف مثلاً فهل لنا أن نصلّي الجمعةَ تمسّكاً باستصحاب بدليّة الجمعة عن صلاة الظهر، أم علينا أن ننتقل إلى صلاة الظهر رجوعاً إلى العموم الأزماني للعامّ ؟
 الجواب : لا شكّ أنّ علينا أن نصلّي الظهرَ، وذلك لما قلناه قبل قليل مِن لزوم الرجوع إلى العموم الفوقاني ـ وهو صلاة الظهر ـ فإنّنا مع الشكّ في جواز الإتيان بصلاة الجمعة بعد مرور ساعة من الزوال فإننا نشكّ في شرعيّتها وصحّتها، وصلاةُ الجمعةِ إستثناءٌ من الصلوات الخمسة، فيجب الإقتصار فيها على القدر المتيقّن فقط .
مثال رابع : لو تردّد أثناء سفره في إكمال سفره أو في رجوعه إلى وطنه ثم عاد إلى الجزم بإكمال السفر قبل أن يقطع شيئاً من الطريق ولم يكن الذهاب الباقي مع العَود مسافةً، فإمّا أن تكون فترة التردّد طويلة عرفاً كأكثر من ساعة فهنا يجب عليه صلاةُ التمام بوضوح، لكون القصد الثاني غير القصد الأوّل ولكون وظيفته ـ لو أراد أن يصلّي أثناء تردّده ـ أن يصلّي تماماً .
وإمّا أن تكون فترة التردّد قصيرة عرفاً فهنا كان السير ثمانية فراسخ عن قصدٍ متصلاً عرفاً ولم يفصل بين أجزائها ما هو فاقد للقصد لِفَرْضِ عدمِ قطعه شيئاً من الطريق حال التردّد . فاللازمُ هنا التمسّكُ بعموم أنّ حُكمَ مَن ضَرَبَ في الأرض هو التقصير، ولا يوجد دليل يدِل على أنّ مجرّد التردّد ـ ولو القصير ـ يُفسد الشرطَ الثاني ـ وهو قصْدُ قطْعِ المسافة ـ، ذلك لأننا استفدنا الشرط الثاني من روحية الروايات لا من نصّ صريح، فيكفي بقاءُ القصد عرفاً ـ ولو كان بالدقّة العقلية قصْداً ثانياً ـ خاصةً إذا كانت فترة التردّد قصيرة للغاية . وما اُريد قولَه هو عدم صحّة استصحاب البقاء على التمام بذريعة أنه مجرّد أنه تردّد ـ ولو دقيقة ـ فقد صار حُكْمُه التمام، فنستصحب التمامَ .