الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/03/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : إستصحاب الشرائع السابقة

إستصحاب بقاء الشرائع السابقة

ذكرنا أمس جواز نقْلِ الموتى إلى أماكن مقدّسة في الشرائع السابقة وقلنا إنه وَرَدَ في جملة من النصوص أنّ يوسف نقَلَ جنازةَ أبيه يعقوب oفي تابوت من مِصْرَ إلى كنعان من أرض الشام ، وحَمَلَ موسى بنَ عمران عظامَ يوسفَ إلى الشام .

وقلنا أيضاً إنه ورد عن العامّة بطرقهم عن زيد بن أرقم قال قلت أو قالوا : يا رسول الله : ما هذه الأضاحي ؟ قال : ( هي سُنَّةُ أبيكم إبراهيم )[1] .

وذكرنا أنه قد توهّم بعض الناس وجود تحريمات في بعض الشرائع السابقة نسخها الإسلام ، وقلنا بأنّ هذه الأحكام لم تكن أحكاماً خالدةً مؤبّدة ، وإنما كانت عقوبات لا غير ، هذه العقوبات هي المقصودة بالرفع في أحاديث الرفع الواردة عن النبيّ ( وُضِعَ عن أمتي تسعةُ أشياء : الخطأ والنسيان وما اُكرِهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطيقون وما اضطرّوا إليه والطيرة والحسد والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق الإنسان بشفة )[2] ، فلا يقال بأنّ هذه الاُمور كانت موضوعةً عليهم بنحو الأحكام الخالدة والمؤبّدة وأنها نسخت في الإسلام .

وقلنا إنّه ممّا يتوهّم أنه كان في الشرائع السابقة موجوداً ونسخ في الإسلام هي العزوبيّة والرهبانيّة ، وأجبنا عليهما أيضاً .

وقد يتوهّم بعضُ الناس أنّ الصيام عن الكلام كان جائزاً عندهم بدليل قوله تعالى في قصّة زكريّاt [ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا ( 10 )] [3] وهو غير ثابت ، وذلك لعدم علمنا بأنه كان شرعاً ، وإنما كان اعتقالاً للسان على ما قاله ابن عباس ، قال (اُعتُقِلَ لسانُه من غير مرض ثلاثة أيام) . وقال قتادة والسدي وابن زيد (اُعتُقِلَ لسانُه من غير خرس) [4] . والظاهر أنه تفرّغ للذكر والشكر ثلاثة أيام بلياليهن .

وقال المولى فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني(توفّي 988 هـ‌ ق) قال[ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا ] أي سويّ الخلق . والمعنى : علامتُك أن تُمنع الكلام ، فلا تطيقه وأنت سليم الجوارح صحيح البنية والآلات ، ما بك من خرس ولا بكم . وإنّما ذكر الليالي هنا والأيّام في آل عمران للدلالة على أنّه استمرّ عليه المنع من كلام الناس والتجرّد للذكر والشكر ثلاثة أيّام ولياليهنّ . وقال ابن عبّاس : اعتقل لسانه من غير علَّة ومرض ثلاثة أيّام ، فإنّه كان يقرأ الزبور ويدعو إلى الله سبحانه ويسبّحه ، ولا يمكنه أن يكلِّم الناس ، وهذا أمر خارج عن العادة)(إنتهى) [5] .

وقال الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل : (لا شك أن زكريا كان مؤمناً بوعد الله ، وكان مطمئناً لذلك ، إلا أنه لزيادة الإطمئنان طلب من ربه مثل هذه العلامة والآية ، فخاطبه الله : قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سوياً واشغل لسانك بذكر الله ومناجاته . لكن ، أية آية عجيبة هذه ! آية تنسجم من جهة مع حال مناجاته ودعائه ، ومن جهة أخرى فإنها تعزله عن جميع الخلائق وتقطعه إلى الله حتى يشكر الله على هذه النعمة الكبيرة ، ويتوجه إلى مناجاة الله أكثر فأكثر . إن هذه آية واضحة على أن إنساناً يمتلك لساناً سليماً ، وقدرة على كل نوع من المناجاة مع الله ، ومع ذلك لا تكون له القدرة على التحدث أمام الناس ! بعد هذه البشارة والآية الواضحة ، خرج زكريا من محراب عبادته إلى الناس ، فكلمهم بالإشارة : فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشياً لأن النعمة الكبيرة التي مَنَّ الله بها على زكريا قد أخذت بأطراف القوم ، وكان لها تأثير على مصير ومستقبل كل هؤلاء ، ولهذا فقد كان من المناسب أن يَهِبَّ الجميعُ لشكر الله بتسبيحه ومدحه وثنائه . وإذا تجاوزنا ذلك ، فإن بإمكان هذه الموهبة التي تعتبر إعجازاً أن تحَكِّمَ أسسَ الإيمان في قلوب الناس ، وكانت هذه أيضاً موهبة أخرى)(إنتهى) [6] .

إذن فلم يكن هذا (الصيام عن الكلام) تشريعاً كي يُستصحَب .

المهم هو أنه قد قال بعض الناس[7] ـ من غير تحقيق ـ بأنّ "الإسلام قد نسخ الأديانَ السابقة فقد قالw ( لا رهبانية في الإسلام ) وقالw ( لا صرورة في الإسلام ) وقالw ( لا إخصاء في الإسلام ) (إنتهى) من غير أن يعلم المراد من الرهبانيّة .

وأمّا قولهw ( لا صرورة في الإسلام ) فقد قالوا إن معناه ( لا يبقَ أحدٌ في الإسلام بلا حج ولا يحل لمستطيعٍ ترْكُه) على أساس أنّ المراد من الصرورة هو الذي صَرَّ بنفسه عن إخراجها في الحج ، كأنه وضع نفسه في الصرّة أي في الكيس ، وإنما المطلوب أن ينوي المسلمُ أن يحجّ فور استطاعته ، وإنه لا يصدق عليه ـ عند أهل الباطن ـ أنه صرورة إذا كان منتظِراً للإستطاعة ، وإنما يكون عند الله حاجّاً إذا كان ناوياً للحجّ بحيث لو مات لكُتِبَ عند الله حاجّاً وله أجر الحاجّ لأنه كان ناوياً الحجّ ، ولذلك لا يوجد في اللوح المحفوظ (صرورة) ، وإن كان صرورة ظاهراً ، لذلك ( لا صرورة في الإسلام ) . أقول : يصعب الجزم بأنّ الحجّ لم يكن واجباً من أيّام خليل الله ابراهيمt . وقيل أيضاً إنّ معنى ( لا صرورة في الإسلام ) هو لا عزوبيّة في الإسلام ، فإنه يقال لمن لم يتزوج (صرورة) لأنه صَرَّ بنفسه عن إخراجها في النكاح .. على أنّ هذه رواية عامّيّة مرسلة روَوها عن أبي داود عن ابن عبّاس .

وأمّا قولهw ( لا إخصاء في الإسلام ) فمعناه أنه لا يجوز الإخصاء في الإسلام فإنه ظلم عظيم ، فقد كانوا يخصون العبيدَ قبل الإسلام كثيراً ، ولكنها لم تكن شريعة إلهيّة ، وإنما كانت عادةً جاهليّةً لا غير .

وأمّا قولهw ( لا جَلَبَ ولا جنب ولا شغار في الإسلام ) فقد رووا عن ابن عباس وأخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح عندهم باللفظ التالي ( ليس مِنّا من أجلب على الخيل يوم الرهان ، قالوا وفي إسناده أبو شيبة وهو ضعيف ، والمراد بالجلب في الرهان أن يُؤتَى برجل يجلب على فرسه أي يصيح عليه يستحثه بالإزعاج حتى يسبق ، والجنب أن يجنب فرساً إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب . إذن هذه ليست أحكاماً شرعيّة ، وإنما هي عادات جاهليّة لا غير .

وأمّا قولهw (لا شغار في الإسلام ) فمعناه أنّ نكاح الشغار باطل ، وهو أن تـتـزوج امرأتان برجلين على أن يكون مهر كل واحدة نكاحَ الأخرى . قال الجوهري : ( والشغار نكاحٌ كان في الجاهلية ، وهو أن يقول الرجل لآخر : زوِّجْني ابنتَك أو أختَك على أن أزوِّجَك أختي أو ابنتي ، وعلى اَن صداقَ كل واحدة منهما بضعُ الأخرى ، كأنهما رَفَعا المهرَ وأخليا البضعَ عنه) (إنتهى) ، فهذا لم يثبت أنه كان شرعاً في السابق ، بل يبعد هذا جداً ، لأنه ظلم لكلّ واحدة من الزوجتين ، وإنما كان عادةً جاهليّة ، فحرّمه الإسلامُ .

وأمّا ما رواه العامّة بإسنادهم عن عصمة عن رسول اللهw أنه قال : ( لا حمى في الإسلام ) فإن المراد بالحمى فيه هو اعتبار مرعى ومرتع مختصّاً بشخص أو قبيلة ، فيمنع الغيرَ من الرعي فيه ، وهذا كان موجوداً في الجاهليّة ، لا أنه كان حكماً شرعيّاً في الشرائع السابقة .

 


[1] تفسير القرآن العظيم، لإبن كثير : ج3، ص231.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج11، ب56 من أبواب جهاد النفس، ح1 و 2 و 3، ص295، ط الاسلامية .
[3] مريم/السورة19، الآية10 .
[4] التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي، ج7، ص110 .
[5] في كتابه زبدة التفاسير، ج4، ص164 .
[6] تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج9، ص411 .
[7] منية الطالب في شرح المكاسب، ج3، ص386. . كالميرزا محمد حسين النائيني المتوفَّى سنة 1355 هـ في كتابه منية الطالب في شرح المكاسب/ تقرير الشيخ موسى بن محمد النجفي الخوانساري المتوفى سنة 1363 هـ‌