بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

37/03/05

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الأصل المـُثْبِت
ـ الأصل المـُثْبِت
   أنت تعلم لزومَ وجودِ أثر شرعي للإستصحاب، كما في استصحاب طهارة الثوب وطهارة الماء الذي في الإناء، فإنّ لاستصحاب الطهارة هنا أثراً شرعيّاً، وهو جواز الصلاة في الثوب، وجوازُ شرب الماء الذي استصحبنا طهارته .. وقد يعبَّرُ بتعبير أنّ من اللازم وجودَ أثرٍ شرعي للمستصحَب، ولا ضَيرَ في استعمال أيّ من الإسلوبين لوضوح المقصود منهما، وقد شرحنا هذا المطلب سابقاً بتفصيل فلا نعيد .
كما أنه لا إشكال في ترتّب أثر شرعي على أثر شرعي على أثر شرعي إلى ما لا نهاية، كما في استصحاب كريّة الماء التي يترتّب عليها طهارةُ الثوب المتنجّس الذي غسلناه به الذي يترتّب عليه جواز صلاة القضاء التي صلّيناها به عن غيرنا فيترتّب عليها استحقاقُ الأجرة التي يترتّب عليها جواز الشراء بهذه الأجرة ... ولا شكّ ولا خلاف في صحّة كلّ هذه الإستصحابات التي يترتّب عليها آثار شرعيّة طوليّة .
وقد يترتّب الأثرُ الشرعي بواسطة أثر تكويني أو عقلي أو عادي، فهنا لا يجري الإستصحاب، وذلك لأنه سيكون ح أصلاً مثبتاً، أي يُثْبِتُ الأثرَ الشرعي بواسطة أثر تكويني أو عقلي أو عادي، ويعبّرون عن هذه الآثار ـ باختصار ـ بالأثر العقلي أو اللازم العقلي .
فالسؤالُ هو : هل تشمل أدلّةُ الإستصحاب صورةَ ما لو ترتّبت الآثارُ الشرعيّة بواسطةٍ عقليّة أم لا ؟
الجواب : قد تقول إنه يمكن القولُ بشمول > لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ < للآثار الشرعية المترتّبة على الآثار العقليّة، فلا يوجد مانع عقلي من الشمول، بدليل أنه لم يكن هناك مانع من التعبّد بالآثار الشرعيّة المترتّبة على الآثار العقليّة في الأمارات، والتعبّد فيهما واحد . وبعد هذا تعرفُ خطأَ مقولةِ الشيخ الأنصاري حينما قال : ( وجوبُ ترتيبِ الآثار من جانب الشارع لا يُعقل إلا في الآثار الشرعية، لأنها هي القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقلية والعادية، فالمعقولُ مِن حُكْمِ الشارعِ بحياة زيد وإيجابُه ترتيبَ آثارِ الحياة في زمان الشك هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرف في ماله، لا حكمه بنُمُوِّه ونباتِ لحيته، لأنّ هذه اللوازمَ غيرُ قابلة لجعل الشارع )(إنتهى)[1]، فكيف يُعقَلُ التعبّدُ باللوازم العقليّة للأمارات دون الأصول ؟! أليس في كليهما تعبّدٌ ؟!
وكذلك لا مانع ظهوري من شمول أدلّة الإستصحاب لما فيه أثر شرعي مترتّب على أثر عقلي، فيكفي أن يكون طبيعي الأثر شرعياً، أي يكفي أن يكون الأثر الأخير شرعيّاً، ويكفينا إطلاق أدلّة الإستصحاب دليلاً على ما نقول، ولا دليل على وجوب الإقتصار على خصوص الآثار الشرعيّة المباشرة .
فأقول : ما ذُكِر صحيحٌ، فالمقتضي لجريان الأصل المثبت موجود، والمانع العقلي مفقود، ولكن المشكلة هي في وجود مانعَين آخرَين يمنعانِ مِن جريان الأصل المثبت وهما : (تغاير المستصحَبِ مع موضوع الحكم) والثاني : (إستبعادُ اعتبار الآثار العقليّة حجّة شرعاً في الأصول العمليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة)، فإنّ المولى تعالى إنما اعتبر اللوازمَ العقليّة لمؤدّى الأمارات حجّة لأغلبيّة موافقتها للواقع، وليس الأمر في الإستصحاب كذلك، فإنه من المستبعَد أن يوافق مؤدّى الإستصحابِ الواقعَ غالباً كما كان الحال في الأمارات، ولذلك يَستبعَدُ الناسُ تشريعَ حجيّة الإستصحاب في لوازمه العقليّة ممّا يصرف أدلّةَ الإستصحاب عن الحجيّة في اللوازم العقليّة .
بيانُ كلا المانعَين : قد يفهم الفقيهُ من بعض الشروط الموجودة في موضوعات الأحكام أنها مطلوبة بنحو القطع، وقد يفهم منها أنها مطلوبة بنحو التعبّد الصرف، ومحلّ الأصل المثبت هو النحو الأوّل فقط .
بـيان النحو الأوّل في أمثلة :
قد يكون زيدٌ نائماً تحت حائط، وتركناه نائماً تحت الحائط وذهبنا، ثم عَلِمْنا بأنّ الحائط قد وقع لجهته، فلو استصحبنا بقاءَه تحت الحائط لَحَكَمْنا بموته قطعاً، فهل نستصحب بقاءه تحت الحائط لنحكم بوجوب اعتداد زوجته وبتقسيم ماله ؟
الجواب : كلا، لأننا لو أردنا استصحاب بقائه في مكانه لنُثْبِتَ (موتَه) فهذا الإستصحابُ يكون أصلاً مثبتاً، وذلك لأنّ الفقيه يفهم من (الموت) الذي يترتّب عليه الإعتداد وتقسيمُ التركة هو الموت بنحو القطع، لا بنحو التعبّد الصرف، إذن فتغاير موضوعُ الحكمِ ـ الذي هو موته بنحو القطع الوجداني ـ مع المستصحَب ـ الذي هو بقاؤه لإثباتِ موته بالتعبّد الصرف ـ، هذا المانع العقلي الثبوتي هو المانع الأوّل، إذن المستصحَبُ ـ الذي هو بقاؤه في مكانه لإثبات موته ـ غيرُ موضوعِ الحكم ـ الذي هو (موته بنحو القطع) ـ ولم يثبت موضوع الحكم، إذن لن يَثْبُتَ الحكمُ . ولذلك ترى فقهاءَنا يستصحبون حياتَه ولا يستصحبون بقاءه تحت الحائط ليحكموا عليه بالموت تعبّداً . نعم، يمكن أن يتعبّدَنا الشارعُ المـقدّسُ بموته بالإستصحاب ـ رغم أنّ الموت هو أثر تكويني ـ وذلك كما تعبّدنا بتنزيل مؤدّى الأمارةِ منزلةَ الواقع ِ في الكثير من الروايات، إذن فليست المشكلة ثبوتيّةً ـ وهي عدم إمكان تنزيل مؤدّى الإستصحاب منزلة الواقع ـ، لا، أصلاً وأبداً، وإنما المشكلة هي في أنّ المستصحَب ـ كما رأيتَ في هذا المانع الأوّل ـ يغاير موضوعَ الحكم لا غير .
   لا بل إنك ترى من نفسك أنك تأبَى أن تفهم من أدلّة الإستصحاب أننا يجب أن نستصحب بقاءه في مكانه لنُثْبِتَ (بقاءَه في مكانه عند وقوع الجدار) !! فنثبت بالتالي (وقوعَ الجدارِ عليه) !! وبالتالي يَثبت (موتُه بذلك الوقوع) !! هذا الإستبعاد العقلائي هو المانع الثاني من قبول وجود إطلاق في أدلّة الإستصحاب .
مثال آخر : لو أطلق زيدٌ النارَ على عمروٍ وهرب، بحيث لو بقي عمرو في مكانه لوصلت إليه الرصاصةُ ولقتلته حتماً، فهل يصحّ استصحاب بقائه في مكانه لإثبات أنه قد قتلته الرصاصةُ، وبالتالي لنُثْبِتَ وجوبَ القَوَدِ على زيد أو الدية والكفّارة ؟ قطعاً لا، وذلك لنفس المانعَين السابقين، وهو أنّ الفقيه يَفهم من (القتل) الذي يترتّب عليه القَوَدُ أو الديةُ والكفّارة هو (القتل بنحو القطع)، أي يجب أن يَثْبُتَ ذلك بالقطع، لا بأصل عملي، فموضوعُ الحكم هو (القتلُ بنحو القطع)، والمستصحَبُ هو (بقاؤه حتى وصلت إليه الرصاصة) تعبّداً، وبالتالي يَثْبُتُ (دخول الرصاصة في بدنه)، ثم (موته بذلك الدخول)، فتغاير المستصحَبُ مع موضوع الحكم، وهذا هو المانع الأوّل .
والمانعُ الثاني هو أنك لا تفهم من أدلّة الإستصحاب أننا يجب أن نستصحب (بقاءَه في مكانه) لنُثْبِتَ (وصولَ الرصاصة إليه) لنُثْبِتَ (قتلَه بتلك الرصاصة) لنثبت (وجوبَ القود على مطلق الرصاصةِ أو الدية والكفّارة) !!! فهذا أمْرٌ مضحك عند العقلاء، ولذلك لا يفهمون وجوبَ الإلتزامِ بالمذكورات مِن ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ) .
   ولذلك لا يثبت في حقّ مُطْلِقِ الرصاصةِ القِوَدُ ولا الكفّارة وذلك لأصالة البراءة العقليّة والشرعية، نعم يجب عليه التوبة والإستغفار لأنه تجرّأ على الله تعالى .
مثال ثالث : لو نذر شخصٌ أنْ لو نبتت لحيةُ ولدِه أو شابت أن يذبح شاةً، ثم ضاع ولده، ولم يَدْرِ هل أنه مات أو لا يزال حيّاً، فإنه لو أراد أن يستصحب حياته ليُثْبِتَ (بقاءَه حيّاً)، وبالتالي ليُرَتّب على ذلك (نبات لحيته) أو (شَيبها)، وبالتالي ليرتّب على ذلك وجوبَ ذبح شاةٍ عن ولده، فهذا سيكون أصلاً مثبتاً، لأنّ (إثبات نبات اللحية) و (شَيبَها) هما أثران عاديّان، وهما في طول حياة الولد، يعني يجب أن تَثبُتَ الحياةُ أوّلاً ثم نـُثْبِتُ نباتَ اللحية أو شَيبَها، ولذلك فليس لك أن تقول أنا أستصحب بقاء حياته لقوله t ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ) أي (لا تنقضِ اليقينَ بالحياة بالشكّ ) فيجب إذن أن نستصحب حياتَه لنُثْبِتَ نباتَ لحيته !! فهذا خطأ، وذلك لتغاير المستصحَبِ مع موضوع الحكم، لأنّ المنذور عقلاً وعقلائيّاً هو (بقاء ولده حيّاً بنحو القطع)، و(نبات لحيته بنحو القطع)، و(شَيبُ لحيته بنحو القطع)، والمستصحَب هو (بقاؤه حيّاً بنحو التعبّد الصرف) ـ لأنه جاء عن طريق الأصل العملي ـ وهذا هو المانع الأوّل .
كما لا يفهم علماؤنا وجوبَ التمسّك بـ ( لا تنقضِ اليقينَ أبداً بالشكّ ) في هذا المثال المذكور ليرتّبوا عليه (إثباتَ نبات اللحية) و (شَيبها)، بل يرفضون ذلك، لأنّ هذا الإستصحابَ للحياة لإثبات نبات اللحية ليس عقلائيّاً بوجه، وهذا هو المانع الثاني، ولذلك ترى علماءنا يقولون بعدم وجوب أن يذبح شاةً .



[1] فرائد الأصول، ج 3، ص 233..