الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

37/02/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الإستصحاب في الاُمور التدريجيّة

4 ـ الإستصحاب في الاُمور التدريجيّة

وخلاصتُه أنه يصحّ استصحاب الزمان الواقعِ بين حدّين ، وهو استصحاب موضوعي ، ولا يصحّ استصحابُ الزمانيّات وهي الحركات . بيانُ ذلك باختصار :

المستصحَبُ إمّا أن يكون من الأمور القارّة ـ كطهارة الثوب ـ وهذا يجري الإستصحاب فيه بلا شكّ ولا خلاف ، لأنّ الطهارة في حالة اليقين السابقة هي عين الطهارة في فترة الشكّ ، وإمّا أن يكون من استصحاب الزمان الواقع بين حدّين ـ كما في استصحاب بقاء الليل والنهار ـ وهذا يجري فيه الإستصحاب لأنه يُعتبَرُ ـ عرفاً ـ قطعةً واحدة ، وإمّا أن يكون من استصحاب بقاء الزمانيّات الغير واقعة بين حدّين ، وهي حركات الماديّات السيّالة الوجود زمنيّاً ، كخروج الدم من الجرح ، وكنزول المطر من السماء ، وكمَشي الشخص . فالمراد من الحركات هي ما كانت موجودة في مادّة ، وهذه الحركة سيّالة الوجود زمانيّاً ، تحدث وتـتصرّم فوراً ، ثم تحدث وتـتصرم .. وهكذا ، فهي لا بقاء لها حتى نَستصحِبَ بقاءَها . وأنت تعلم أنّ قولنا (الزمانيّات) هو في مقابل المجرّدات التي لا حركة فيها ، وبالتالي لا زمان لحركاتها من باب السالبة بانتفاء الموضوع .

أمّا في استصحاب الزمان الواقع بين حدّين ، فلا شكّ في صحّته عند الجميع ، بلا شكّ ولا خلاف ـ كما ذهب إلى ذلك السيد البجنوردي[1] ـ وذلك لصدق البقاء عرفاً ، والعبرة في الإستصحاب هو صدق نقض اليقين السابق بنظر العرف ـ لا بالدقّة العقليّة ـ ، وصدقُ بقاءِ الحالة السابقة هو أيضاً بنظر العرف ـ لا بالدقّة العقليّة ـ ، وكلاهما متوفّران في مورد استصحاب الزمان ، ولذلك يستصحبون بقاء الليل وعدمَ دخول الفجر فيأكلون في شهر رمضان ، ويستصحبون بقاء النهار فلا يأكلون في رمضان ، ويستصحبون عدمَ الزوال ، وعدم دخول شهر رمضان ، وعدم انتهائه ، وكذا لو نَذَرَ شخصٌ أن يسبّح اللهَ تعالى من الساعة الواحدة بعد الظهر إلى الساعة الثانية ، وشَكّ في مجيء الساعة الثانية ، فإنه يجب عليه ـ بالإجماع ـ البناءُ على عدم انتهائها ، أو نذر أن يسبّح اللهَ ساعةً كاملة ، وشكّ في انتهائها ... وهكذا . وهذا أشبهُ شيءٍ باشتراط شيء في فعليّة الحكم ، كما لو قال لك المولى "إن صار زيد عالماً فأكرمه" وشككنا في صيرورته عالماً ، فإننا نستصحب عدمَ صيرورته عالماً ، وكما فيما لو قال المولى "إن تطهّرتَ فمُسّ الكتابَ الكريم" وشككتَ في حصول الطهارة ، فإنك تستصحب عدمَ حصولِها ...

والسببُ في استصحاب الزمان هو أنّ الناس يرَون أنّ الزمان هو أمْرٌ متّصل ، وكأنه قارّ ، ولا يلتفتون إلى أنه سيّال متحرّك تدريجي ، وأنه يتصرَّمُ كلّ ثانية ، بل كلّ لحظة ، فماذا تستصحب ؟! فإن قيل : نستصحب هذا الكمّ من النهار ، قلتُ : ماذا تعني بـ (هذا النهار) ؟ هل تستصحب النهار السابق ، وقد انصرم قطعاً ، أي لا شكّ في بقائه ، لانصرامه ، أم تستصحب النهار الآتي ، الذي لم يأتِ بعدُ ، أي لا يقين بأصل حدوثه ؟! ورغم هذا الإشكال تَرى الناسَ يقولون بأنّ الليل والنهار هما عبارة عن مجموعة الأجزاء الزمانية المعروفة ، فهما كُلٌ واحدٌ ، والثواني هي أجزاؤهما ، فللّيل والنهار وحدة شخصيّة عرفاً ، فتلاحظ أنّ العرفَ يَرَون أنّ النهارَ يبدأ بطلوع الفجر وينتهي بغروب الشمس عن مرتفعاتنا ، فيستصحبون بقاءَ هذا الكلّ الواحد المتّصف بالنهار ، فالإستصحاب للّيل والنهار هو استصحاب نعتي ، وذلك لأنه حتى لو زال النهار أو الليل لبقي الزمان موجوداً ما بقيت المادّة المتحرّكة . المهم هو أنّ العُرْفَ يستصحبون الزمان ككلّ ، مع غضّ النظر عن الثواني والدقائق ، سواءً كان الزمانُ قيداً في موضوع الوجوب ـ أو قلْ شرطاً للوجوب ، كما إذا قال المولى "إذا دخل شهر رمضان فصوموا" وشككنا في دخوله ، فإننا لا نصوم بالإجماع ، وكما إذا قال "إذا طلع الفجر فلا تأكلوا ، وصلّوا" فإذا شككنا في طلوعه فإنّ لنا أن نأكل ، ولا يصحّ أن نصلّي الصبح ـ أو قيداً للواجب ـ كما فيما لو قال المولى "صلّوا ما بين الزوال إلى الغروب" ـ فإنّ المتشرّعة يستصحبون بقاء النهار ويأتون بالظهرين ، وإن كان جريان الإستصحاب في قيود الوجوب اَولى لأنّ الأصل عدمُ تحقّق شرط الوجوب الفعلي ، كما فيما لو قال المولى "إن صار زيدٌ عالماً فأكرِمْه" وشككنا في صيرورته عالماً .

وقد لاحظتَ في كلامنا ـ قبل قليل ـ أننا ندّعي أنّ المستصحَب هو النهار والليل كَصِفَتَين لِقِطْعَتَين من الزمان ، ولعلّ هذا هو المعروف بين العلماء والعوام ، وهذا ما يعبّر عنه بالإستصحاب النعتي ، ولكن المحقّق ضياء الدين العراقي والسيد حسن بن علي الموسوي البجنوردي يريان أنّ المستصحَب هو بنحو مفاد ليس التامّة ، أي أنّ المستصحَب هو العدم الوجودي ـ لا العدم النعتي ـ أي أنت تستصحب عدمَ أصلِ وجود الفجر ـ كقطعة من الزمان ـ لا أنك تستصحب عدمَ اتّصاف الزمان الآتي بالفجريّة ، لاحِظْ قولَ المحقّق العراقي : ( إنّ الإستصحاب الجاري في الزمان وغيره من التدريجيات إنما يكون بنحو مفاد ليس التامّة ، وإلاّ فبنحو مفاد كان الناقصة المقتضية لإثبات نهارية الآن المخصوص فلا يكاد يجري أبداً ، لعدم احراز الحالة السابقة لهذا المعنى ، وح فكل أثر يترتب على مثله لا يكاد يَثبت ببركة الإستصحاب كما هو ظاهر)(إنتهى)[2] .

أقول : لا شكّ أنّ الزمان جارٍ ، وهو موجود دائماً ، سواء كان الزمانُ ليلاً أم نهاراً ، ولذلك فنحن إنما نستصحب هذا الإتّصاف ، ولا معنى لأن نستصحبَ أصلَ وجود هذه القطعة من الزمان ، لأنها موجودة قطعاً ، ولا شكّ فيها . على أننا لا نريد إثباتَ عنوانِ (الليل) الذي هو لازم تكويني لعدم دخول الفجر ـ وإلاّ لكان الإستصحابُ أصلاً مثْبِتاً ـ وإنما نريد من استصحاب بقاءِ الليلِ الحكمَ بجوازِ الأكلِ ـ في شهر رمضان ـ وعدمَ جوازِ الإتيان بصلاة الصبح فقط لا غير ، ونحن إذا قلنا تسامحاً : "ثَبَتَ باستصحاب عدم دخول الفجر (بقاءُ الليل) تعبّداً " إنما نريد هذا المعنى ، وهو معنى (عدمِ دخول الفجر) لا أكثر ، فلا نقع في محذور الأصل المثبت .

فإن قلتَ : أنت حينما تستصحب (عدمَ دخول شهر رمضان) فلا تصوم فقد تخالف الواقعَ ، لأنّ الوارد هو (صم شهر رمضان) ، قلتُ : هذا غير صحيح ، فإنّ الشارع المقدّس اكتفى مِنّا أن نستصحب (عدمَ دخول رمضان) ، فالمطلوب هو الصيام في شهر رمضان التعبّدي لا في شهر رمضان الواقعي . وكذا إن قلتَ : أنت حينما تستصحب عدمَ انتهاءِ رمضان فأنت تريد إثبات أنّ اليوم الذي يتلو يومَ الشكّ هو يوم العيد ، فإذن هذا الإستصحاب يكون أصلاً مثبتاً ، لأنك تريد من خلال هذا الإستصحابِ إثباتَ أنّ ما بَعد يومِ الشكّ هو يوم العيد ، قلتُ : وهذا أيضاً غير صحيح ، فنحن لا نريد إثباتَ أنّ ما بعد يوم الشكّ هو يوم العيد ، كي يكون هذا الإستصحابُ أصلاً مثبتاً ، بل هذا غير مطلوب في الشرع ، إنما المطلوب ـ كما قلنا قبل قليل ـ أن نصلّي في يوم العيد التعبّدي ، لا في يوم العيد الواقعي ، ونحن إذا استصحبنا عدمَ انتهاء شهر رمضان ، فتلقائيّاً وعقلائيّاً يجب علينا أن نصلّي صلاةَ العيدِ في اليوم التالي ليوم الشكّ .

أمّا إن كان المستصحَبُ غيرَ متّصلٍ عرفاً ، كما في الحركات المتعدّدة ، كما في مشي زيدٍ في البستان بهدوءٍ مُبْتَغِياً مكاناً قريباً مناسباً لقعوده وقعود عياله ، فإننا نعلم أنه سوف يتوقّف بعد قليل ، فهو لا يريد أن يتكلّف بزيادة المشي ، لذلك يرى العرفُ أنّ مشيه الزائد هو قطعات حادثة زائدة على ما مشى سابقاً وفيها تكلّف ، خاصّةً إذا كان يسير بهدوء ـ كما قلنا ـ أي تخلُّلُ العدمِ واضحٌ في مشيه ـ بخلاف الطهارة التي توجد بكلّها في الزمان الأوّل ـ ، فاليقينُ متعلق بموجود زائل ، والشك متعلّقٌ بحدوث موجود آخر . ففي هكذا حالة يصعب عند العرف والمتشرّعة أن يستصحبوا مشيه ، لأنهم يَرَون مشيَه منقوضاً بذاته ، فنحن ـ في الحقيقة ـ لا نستصحبُ مشيَه للشكّ في حدوث مشيٍ جديد ، لا لوجود شكّ في بقاء المشي ، فالخدشةُ إذن هي في الركن الأوّل من أركان الإستصحاب ، لا في الركن الثاني ، أي أنّ عدم صحّة الإستصحاب منشؤه عدمُ العلّة ، لا وجود الرافع ، على أنّ لك أن تقول أيضاً إنّ الوجود الأوّل هو غير الوجود الثاني ، فالركن الثالث للإستصحاب ـ الذي هو عبارةٌ عن وحدة المتيقّن والمشكوك ـ غير موجود . ولذلك لو نَذَرَ شخصٌ وقال "للهِ علَيّ أنْ اُسَبّحَ اللهَ تعالى طالما كان زيدٌ يمشي" فمن الصعب عرفاً ومتشرّعيّاً أن يُجري استصحابَ مشيِه الآتي الزائد الذي لم يَحْدُثْ بَعْدُ بذريعة شمول قولِهمi "لا تنقضِ اليقينَ بالشكّ" لما نحن فيه ، فإنّ المستصحِبَ يَرَى أنّ مشي زيدٍ السابقَ قد فَنَى ، والآتي لم يأتِ بعد ، واستصحابُ مفهومِ المشي مرفوض عقلائيّاً ، لأنّ المستصحَب المرادَ استصحابُه هو بقاء الحالة السابقة ، أي أنّ المنظور عند المستصحِب هو استصحاب المستصحَب الشخصي الجزئي الخارجي ، لا استصحاب بقاء المفهوم الكلّي الذهني للمشي ـ أي عنوان المشي ـ ، لا بل حتى المفهوم الكلّي غير واضح في الذهن لعدم معرفة مقدار المشي ، وكذا إذا أردنا أن نستصحب أكْله ، وكذا أيضاً فيما إذا نَذَرَ شخصٌ فقال "للهِ عليّ أن اُسبّح اللهَ طالما كان زيدٌ يتكلّم" فالتكلّمُ ـ عادةً ـ يتخلّلُه السكوتُ ، ولا يوجد كلّه في الزمان السابق ، وإنما يوجد بعضه الذي تصرّم ، وأمّا الذي لم يأتِ فلم يأتِ بعد ، ففي هكذا حالة يجوز للناذرِ أن يَتْرُكَ التسبيحَ ، وذلك لعدم علمه بأنّ زيداً لا يزال يتكلّم ، فيكون من باب الشكّ في التكليف الزائد .

على أنّ لك أن تشكّك وتقول : هل يجري في هكذا حالةٍ استصحابُ عدم توقّفه عن الكلام أم يجري استصحابُ عدم التكلّم الجديد ؟ إذن فهُما متعارضان ، ولا وجه لتقديم استصحاب عدم توقّفه عن الكلام ، لا بل التقدّم هنا ـ بوضوح ـ لاستصحاب عدم التكلّم الجديد .

إضافةً إلى أنّ الأصلَ أيضاً هو عدمُ تشريع هكذا استصحاب لمستصحَبٍ ذهني .

بل كذا الأمرُ أيضاً إن شككنا في الوحدة العرفيّة ، كما في مشي الشخص الذي يتنزّه وبانياً على المشي الكثير ، والمشي في الدقيقة الثانية غير المشي في الدقيقة السابقة ، لذلك فإنه يصعب عليهم الإستصحاب في هكذا حالات[3] .

وبتعبير آخر : إن لم يكن المستصحَبُ متّصلاً عرفاً فلا دليل على حجيّة استصحاب ما شكّ في صحّة استصحابه ، وذلك لِعِلْمِنا بعدم حدوثه أوّلاً ـ أي ليس له حالة سابقة ـ وإذا عَلِمْنا بحدوثه فقد عَلِمْنا بتصرّمه في اللحظة الثانية ، فالشكّ في جريان الإستصحاب في هكذا حالات هو شكّ في أصل التعبّد به ، ولك أن تقول هنا شبهة مصداقيّة في كون هكذا حالات من مصاديق موارد الإستصحاب .

 


[1] في كتابه، منتهى الاُصول، ج2، ص453 .
[2] مقالات الأصول، ج2، ص394 .
[3] يقول السيد الحكيم في مستمسكه، ج3، ص227. بصحّة جريان الإستصحاب في الأمور التدريجيّة، قال : (.. وقد حُقِّقَ في محله جريانُ الإستصحاب في الأمور التدريجية، وإنّ الوجود المتصل بلا تخلل العدم وجود واحد حقيقة وعرفاً، والتغاير بين الوجودين في الزمانين من قبيل التغاير بين مراتب الوجود الواحد)(إنتهى) . وكذلك قال بجريان الإستصحاب في الأمور التدريجيّة الآقا ضياءُ الدين العراقي في تقريرات آية الله السيد محمد رضا الطباطبائي التبريزي الذي سمّاه تنقيح الأصول