الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
37/02/03
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الإستصحاب في الموضوعات المُرَكَّبَة
3 ـ الإستصحاب في الموضوعات المُرَكَّبَة
إذا كان الموضوع للحكم الشرعي بسيطاً وتمَّت فيه أركانُ الإستصحاب جرى استصحابه بلا اِشكال ، كما في استصحاب عدم طروء الموت على فلان ، والنتيجة أننا نبني على بقاء حياته ، وكما في استصحاب عدم طروء نجاسة على الثوب ، والنتيجة أننا نبني على بقاء الطهارة ، وأنت تعلم أنّ (عدم طروء الموت على فلان) هو أمر بسيط ، وكذلك (عدم طروء النجاسة على الثوب) هو أمر بسيط .
واَمّا إذا كان الموضوع مركباً من عناصرَ متعددةٍ فتارةً نفترض اَنّ هذه العناصر لوحظت بنحو التقيُّد أي لوحظت بنحو العنوان البسيط وجُعِل الموضوعُ ـ على بساطته ـ موضوعاً للحكم ـ كما في مثال الوضوء ، فإنه يُنظر إليه قُطْعَةً واحدة مؤدّية إلى الطهارة لا غير ـ ، وأخرى نَفترض اَنّ هذه العناصرَ بذواتها اُخِذَت موضوعاً للحكم الشرعي بدون اَنْ يكون الموضوع بسيطاً ـ كما في مثال الصلاة ـ فليس المراد من الصلاة هو لزوم التوصّل إلى عناوين (قربان كلّ تقيّ) و (معراج المؤمن) وإن كانت هذه المعاني هي الغاية السامية التي ينبغي أن يَصِلَ إليهما المصلّي ، لكن ـ مع ذلك ـ لو صَلّى الإنسانُ صلاةً مِن دون توجّه ، وإنما كان شارداً في أكثرها إلى تجارته مثلاً ، فإنّ صلاته ـ رغم ذلك ـ تكون صحيحة ، بخلاف الوضوء .
أمّا الحالة الأُولى ـ كالوضوء الذي يراد منه تحقيق الطهارة ـ فملحقةٌ بالموضوع البسيط الذي ذكرناه قبل قليل ، فهي لا يجري في أجزائها ولا في شرائطها الإستصحابُ ، فلو شككنا في وجود الحاجب على مواضع الوضوء وَجَبَ علينا النظرُ للتأكّد من عدم وجوده ، ولا يصحّ أن نستصحبَ عدمَ وجودِه ، وذلك لأنه يعارضه (أصالةُ عدمِ حصول الطهارة) التي هي أمر بسيط ويعارضه أيضاً (أصالةُ عدمِ وصول الماء إلى البشرة) .
وبتعبير آخر : لا شكّ في لزوم تحقّق العِلْمِ بوصول الماء إلى البشرة ، وإلاّ فالأصل العدمي يقتضي عدمَ وصول الماء ، ولذلك يقول علماؤنا في هكذا حالةٍ بلزوم الرجوع إلى أصالة (الإشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني) وهو أصل عقلي ، وهو فرع من الإستصحاب العقلي . فإذا عرفت هذا تعرفُ عدمَ صحّة ما قد يقال من أصالة عدم الحاجبيّة أو عدم الحاجب ، فإنّ الواجب شرعاً تحصيلُ العلم بتحقّق الغسل الكامل للأعضاء الثلاثة . وأمّا أصالة عدم الحاجبيّة أو عدمِ الحاجب فلا توصل الماءَ إلى البشرة ، ولا تقتضي ـ شرعاً ـ وصولَ الماءِ إلى البشرة ، إلاّ إذا قلنا بالأصل المثبت ، وهو باطل بلا شكّ . وبيان كون الأصل مثبتاً هنا هو أنّ أصالة عدم الحاجبيّة تُثْبِتُ عدمَ الحاجبيّة تكويناً ، إذن فقد وصل الماء إلى البشرة !
فيبقى أنّ الإستصحابَ يَجري في هذه الحالة الاُولى لنفي حصول العنوان البسيط المتحصل ، فمتى شك في حصول الطهارةِ جرى استصحاب عدمها ، حتى ولو كان أحد الجزئين محرزاً وجداناً ـ كالغَسلتين والمسحتين ـ والآخرُ معلومَ العدم سابقاً ومشكوكَ الوجود فعلاً ـ كعلمنا بعدم وجود الحاجب سابقاً ـ فإنك لا يمكن لك أن تستصحب عدمَ الحاجب لتثبت عدم الحاجب ولتثبت كشف البشرة للماء ، لأنه سيكون أصلاً مثبتاً بوضوح ، ولذلك لا يمكن البناء على صحّة الوضوء ، وإنما عليك ـ مع عدم النظر للتأكّد من عدم وجود حاجب ـ أن تبنيَ على عدم وصول الماء إلى البشرة ، وبالتالي على عدم حصول الطهارة .
وأما في الحالة الثانية : فلا بأس بجريان الإستصحاب في الجزء أو الشرط ـ ثبوتاً أو عدماً ـ إذا تواجد فيه اليقين بالحالة السابقة والشك في بقائها .
ومن هنا يُعلم بأنّ الإستصحاب يجري في أجزاء الموضوع المركب وشرائطه بشرط ترتب الحكم على ذوات الأجزاء أوّلاً وبشرط تَوَفُّرِ اليقينِ بالحدوث والشك في البقاء ثانياً .
لا ، بل المعروف بين المحققين اَنّه متى كان الموضوع مُرَكّباً وافترضنا اَنّ أحد جزئَيه محرَزٌ بالوجدان أو بالتعبد ، فبالإمكان اِجراءُ الإستصحاب في الجزء الآخر ، لأنه ينتهي إلى أثَر عملي وهو تنجيز الحكم المترتب على الموضوع المركب .
وقد يواجه ذلك باعتراض ، وهو اَنّ دليل الإستصحاب مُفادُه جعْلُ الحكمِ المماثل للمستصحَب ، والمستصحَب هنا ـ وهو الجزء أو الشرط ، كعدالة المجتهد ـ ليس له حكم ليجعل في دليل الإستصحاب مماثله، وما له حكم ـ وهو المُرَكَّب كالمجتهد العادل ـ ليس مَصَبّاً للإستصحاب.
وهذا الإعتراض لا موضع له لما ذكرناه سابقاً من لغويّة جعل الحكم المماثل ، ومِن أنه يكفي في تنجيز الحكم ـ كجواز تقليد زيد بنحو التنجيز ـ وصولُ كبراه ـ كجواز تقليد المجتهد العادل على مستوى الجعل ـ ووصولُ صغراه ـ كزَيدٌ مجتهدٌ عادل ـ ، إذ على هذا يكفي مجرد وصول أحد الجزئين ولو تعبُّداً ـ كأنْ نعلم بعدالته عن طريق خبر الثقة الواحد أو عن طريق استصحاب عدالتِه ـ مع وصول الجزء الآخر بالوجدان ـ كما لو كنّا نعلم باجتهاده ـ في تنجيز الحكم الواصلة كبراه ، فيجوزُ ح تقليدُه ، أو قل يصير الحكم بتقليده منجَّزاً .
ثم اعلم أنّ كلامنا هذا يصحّ مطلقاً سواءً كان الموضوع مُرَكَّباً من العرَضِ ومَحَلِّه كالإنسان العادل في قول المولى "إذا كان الإنسانُ عادلاً فأَكرمْه" ، أو من عدم العرض ومحله كعدم القُرشية والمرأة ، أو كان مُرَكَّباً على نحو آخر كالعرضين لمحل واحد مثل الإجتهاد والعدالة في المفتي ، أو العرَضين لمحلين كموت الأب واسلام الإبن كما في "إذا مات الأبُ وكان ابنه ـ حين موت أبيه ـ مسلماً وَرِثَه وإلاّ فلا" ففي كلّ هذه الحالات يجري الإستصحاب في أجزاء الموضوع وشرائطه . ففي الحالة الأولى يكون التقيُّد مأخوذاً في موضوع الحكم ، لأنّ العرَضَ يُلحظُ بما هو وصف لمحله ومعروضِه وبما هو حالةٌ قائمةٌ به ، فالإستصحاب يجري في نفس التـقيُّد بالعدالة إذا كانت له حالة سابقة ، أي أنك يصحّ لك أن تجري الإستصحاب بلحاظ العدالة ، ولا أظنّ وجودَ خلافٍ بين العلماء في صحّة هذا الإستصحاب .
وفي الحالة الثانية يكون تقيُّدُ المحلّ ـ كالمرأة ـ بعدم العرَض ـ كعدم القرشيّة ـ مأخوذاً في موضوع الحكم ـ كعدم وجوب الصلاة على المرأة الهاشميّة الحائض بعد الخمسين سنة إلى الستّين سنة ، ووجوبها على العامّيّة الحائض بعد الخمسين سنة لأنّ الدم الخارج منها يكون استحاضة ـ لأنّ عدم العرَض إذا أخذ مع موضوعه لوحظ بما هو نعت له ، وهو ما يسمَّى بالعدم النعتي[1] ، فإذا لم يكن العدمُ النعتي واجداً لركنَي اليقين والشك لم يجرِ استصحاب العدم النعتي ـ كما في المرأة الهاشميّة ، فليست المرأة قد كانت عاميّة سابقاً ثم شككنا في صيرورتها هاشميّة ـ ، وإذا كان ركنا الإستصحاب متوفرين في العدم المحمولي ـ كما في أصالة عدم وجود المرأة ـ لم يجرِ استصحاب العدم المحمولي أيضاً ، لأنّ العدم المحمولي لا أثر شرعي له بحسب الفرض .
ومن هنا نقول بعدم جريان استصحاب عدم العرض المتيقن قبل وجود الموضوع ـ ويسمى باستصحاب العدم الأزلي ـ فإذا شُكَّ في قرشيّة امرأة معيّنة لم يجرِ استصحابُ عدم قرشيتها ، لأنّ استصحاب عدم قرشيّتها من قبل انعقاد نطفتها هو استصحاب للعدم المحمولي ـ وليس استصحاباً للعدم النعتي ـ وهذا لا أثر شرعيّ له ، لأنّ الأثر يترتّب على العدم النعتي ، لا المحمولي ، وإن أريد اثباتُ العدم النعتي ـ بذريعة أنّ استمرار العدم المحمولي بعد وجود المرأة ملازم للعدم النعتي ـ فهذا أصل مثبت ، لأنهم يريدون من استصحاب عدم وجودها إثباتَ أنها خلقت عامّيّة وليس قرشيّة ! وهذا أمر مضحك فعلاً .
نعم ، رغم ذلك نقول بأنّ الأصلَ هو كون المرأة عامّيّة ـ تعبّداً وظاهراً واجتماعيّاً وعقلائيّاً ـ وليس قرشيّة ، لكن لا من باب استصحاب العدم النعتي ، ولا من باب استصحاب العدم المحمولي ، وإنما من باب أنّ القرشيّات أقلّ بكثير من النساء العامّيّات ، لذلك قال العلماء بأجمعهم بأنّ ثبوت عنوان القرشيّة بحاجة إلى دليل . فكان استصحابهم هو استصحابٌ عامّيٌّ عقلائي اجتماعي ـ لا من باب الإستصحاب المعروف الذي كنّا نتكلّم فيه ـ وهذا الإستصحاب هو الثابت الممضَى في الشرع بلا إشكال ولا خلاف .
ولنفس السبب قالوا بأصالة عدم كون الدم حيضاً أو نفاساً ، وكأنّ الأصل في الدم عدمُ كونه حيضاً أو نفاساً ، وهذا أيضاً بناءُ العقلاء والمسلمين في العالم ، مع أنه لا يخلو الأمر إمّا أن يكون هذا الدمُ حيضاً أو نفاساً أو استحاضة ، وهكذا أيضاً قالوا في الدم المردّد بين كونه من حيوان ذي نفس سائلة أو من حيوان غير ذي نفس سائلة ، فقالوا بأصالة الطهارة ، مع أنك تعلم أنّ الدم مردّد ـ بنحو العلم الإجمالي ـ بين كونه من هذا النوع أو من ذاك ، لكن الشارع المقدّس أمرنا بالبناء على الطهارة ، ولعلّه لأصالة عدم كونه من حيوان ذي نفس سائلة ، أي لعلّه من باب أصالة عدم الإنتساب إلى ماهيّة معيّنة ، وكذا لو شككنا في مدفوعٍ معيّن في كونه من حيوان مأكول اللحم أو من حيوان غير مأكول اللحم ، فإنّ الشارع المقدّس أمرنا أن نبني على الطهارة ، ولعلّه لأصالة عدم كونه من حيوان غير مأكول اللحم ، أي لأصالة عدم الإنتساب إلى ماهيّة معيّنة .
كلّ هذا مرجعه إلى أصل عقلائيّ ـ لا إلى أصالة الإستصحاب المعروفة ـ يفيد أنّ الأصل هو عدم كونه من الصنف الفلاني الذي يكون دمه أو مدفوعه نجساً .
نفسُ الشيء تماماً قالوا فيمن شُكّ في هاشميته أو في هاشميتها فإنهم بنَوا على أصالة عدم الهاشمية ، وهذا ـ كما قلنا ـ بناء عقلائي إجتماعي معروف . وليس الدليل هو استصحاب العدم الأزلي ، وإنما الدليل هو الإستصحاب العقلائي الإجتماعي كما قلنا ، فإنه مقرّر شرعاً ، ودليل تقريره شرعاً أصالةُ عدم الهاشمية عند كلّ المسلمين والعقلاء في العالم ، ولم يخالف في ذلك مسلمٌ قط ، وإنّ الشرع والعقلاء عندهم أصالة العامّيّة أوّلاً ، ومَنِ ادّعى الهاشميةَ فعليه أن يأتي بدليل ليلتحق بالعترة الطاهرة i .