الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/28

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : تنقيح الكلام في الركن الثالث

وأمّا الركن الثالث فهو (وجود أثر شرعي) لاستصحاب عدم طروء عارض غيّرَ موضوعَ الحكم ، فإنّ الإستصحاب يتقوَّمُ عقلاً بلزوم انتهائه مباشرةً إلى أثرٍ شرعي ، إذ لو لم يترتب أثرٌ شرعي مباشرةً على التعبد الإستصحابي كان لغْواً. ولذلك كانت أدلّةُ الإستصحاب منصرفةً عقلاً وعرفاً إلى حالة وجود أثر شرعي ، إذ لو لم يوجد أثر شرعي لكان هذا التعبّد لغْوياً قطعاً. إذ حينما تستصحب عدمَ طروء النجاسة ـ مثلاً ـ على الثوب ، فإنه يوجد أثرٌ شرعي لهذا الإستصحاب ، وهو البناء على بقاء طهارة الثوب ، وأثرُ طهارة الثوبِ جوازُ الصلاة به ، (جوازُ الصلاةِ به) هو أثرٌ شرعي واضح ، إذ ليس المراد من الأثر الشرعي إلاّ التنجيز والتعذير ، وحينما يستصحب ولدُك عدمَ بلوغه فإنّ الأثر الشرعي يكون عدم وجوب التكاليف الشرعيّة عليه ، و(عدمُ وجوب التكاليف الشرعيّة) هو أثر شرعي واضح... وهكذا في كلّ الأمثلة.

وإنما قلنا (لاستصحاب عدمِ طروءِ طارئٍ غيّر موضوعَ الحكم) لما عرفته سابقاً[1] مِن أنّ المستصحَب شرعاً هو (أمرٌ عدمي وليس أمراً وجوديّاً)[2] أي عدم طروء طارئ غيّر موضوعَ الحكم. وقد عرفت سابقاً أنّ مِنَ الخطأ إجراءَ الإستصحاب في نفسِ الحكم مع غضّ النظر عن سببه وموضوعه.

( تـنـبـيـهات )

 

1 ـ الإستصحاب على ضوء مسلك جعْلِ الحكمِ المماثل

المراد بمسلك جعْلِ الحكمِ المماثل هو جعْلُ المولى تعالى حُكْماً ظاهرياً ـ وضْعيّاً أو تكليفياً ـ على طبق مؤدّى الأمارة أو الأصل ، كما يَحكم القاضي بكون المال الفلاني لِفلانٍ بناءً على البيّنة أو الأيمان. وقد يستدلّ على مسلك جعْلِ الحكمِ المماثل بأنّ مفاد دليل الإستصحاب هو جعْلُ حكم مماثل للمستصحَب ـ طبْعاً جَعْلاً ظاهريّاً.

ولنمثّلْ لذلك بالمثال التالي : بما أنّ زيداً الفقيهَ حَيّ فإنه يجوز تقليدُه ، كذلك إذا شككنا في بقاء حياته واستصحبنا بقاء حياته ، فمعنى ذلك ـ على مسلك جعل الحكم المماثل ـ هو أنّ المولى عزّ وجلّ يشرّعُ حكماً ظاهريّاً يُجَوّز لنا به تقليدَه ، أي أنّ اللهَ تعالى جعَلَ حكماً ظاهريّاً مماثلاً للحكم الواقعي وعلى طبقه ، وهو (جواز تقليده) في المثالَين الواقعي والظاهري[3] ، وهو ليس تنزيلاً ، نعم هو يشبه التنزيل ، فهو يشبه تنزيل الطواف منزلة الصلاة بلحاظ الآثار ، لكنْ في تنزيل الطواف يكون جعْلُ الحكمِ واقعيّاً ، وأمّا في تنزيل جواز تقليده ـ ظاهراً ـ منزلة جواز تقليده واقعاً يكون التنزيل ظاهرياً.

وفي مثال الماء نقول نفسَ الشيء تماماً فنقول : هذا الماءُ طاهر ، فإن شككنا في عروض نجاسة عليه فإننا نستصحب طهارته ، وبالتالي يحكم المولى تعالى بكون هذا الماء طاهراً ، ظاهراً.

وكذا في سائر الأحكام الظاهريّة ، كما في قاعدة الحِلّ وحجيّة الأمارات ، فلو قال لك الثقة : "هذا الغرض الفلاني لفلان" فمعناه ـ على مسلك جعل الحكم المماثل ـ أنّ المولى تعالى يجعل حكماً ظاهريّاً ـ بصيرورة هذا المال لفلان ظاهراً ، وبالتالي بوجوب إعطائه له ـ مماثلاً للحكم الواقعي القائل بوجوب إعطاء المال لصاحبه ، فصار يوجد حكمان واقعي وظاهري شرّعهما المولى تعالى على مورد واحد ، وقد يتخالفان ـ إن لم يكن هذا المالُ واقعاً لفلان ـ !!

* ومِنَ الخطأ الواضح أن يُتصوّر أنّ المراد بـ جعْلِ الحُكْمِ المماثل هو الإستتباع التلقائي ، أي من دون إرادة المولى عزّ وجلّ.

* وإنما سَمَّوه (مماثِلاً) لأحدِ وجهَين :

الأوّل : لأنّ الحكم الظاهري هو نفس الحكم الواقعي تماماً ، تقول (هذا الماء طاهر) واقعاً ، وإذا استَصْحَبْتَ طهارتَه ، أيضاً تقول (هذا الماء طاهر) شرعاً وعند الله تعالى ، إذن الحكم الظاهري يماثل الحكم الواقعي تماماً.

والثاني : إنّ المولى تعالى يجعل حكماً مماثِلاً لمؤدّى الأمارة أو الأصل ، وهو المشهور في كلام العلماء.

فالسؤال هو هل أنّ الحكم التالي (هذا الماءُ الخارجيّ طاهرٌ ظاهراً) يعني أنّ الباري سبحانه وتعالى قد جعل هنا حكماً ظاهريّاً آخر ـ غير قاعدة الإستصحاب ـ إعتَبَر بهذا الحكم الثاني أنّ هذا الماء طاهر ، كما يَحكمُ القاضي بكون المال الفلاني لفلان بناءً على البيّنة أو الأيمان ـ وهذا كما قلنا هو ما يطلق عليه (مسلك جعل الحكم المماثل) ـ أم لا ؟ وبتعبير آخر : هل أنّ قيام الأمارة أو الأصل يخلق مصلحةً عند المولى تعالى تـقتضي جعْلَ حُكْمٍ مماثِلٍ لمؤدّى الأمارة أو الأصل أم أنهما لا يخلقان شيئاً ، أم ماذا ؟

الجواب : لا شكّ في وجود مصلحة من اتّباع الأمارة أو الأصل ، ولذلك شرّعهما اللهُ ، ولكن هذا لا يعني أنّ المولى تعالى يشرّع لنا حكماً ظاهرياً ثانياً بسبب قيام أمارة أو أصل ، لا ، وإنما يكتفي بإصدار حكم عامّ مفاده وجوب اتّباع الأمارات والأصول العمليّة. هذا التشريع الظاهري لا يعني وجود جعْلٍ آخر ، لأنه ـ على مبنى جعل الحكم المماثل ـ سوف يكون التشريع الظاهري ـ إضافةً إلى تشريع الإستصحاب ـ لغواً محضاً ، فإنه يكفي التعبّد بالإستصحاب ، ونحن نطبّق الإستصحاب على الموارد. إذن يوجد محظور عقلي من تشريع جعل مماثل للمستصحَب ، وهو اللغويّة.

وهناك محظورٌ آخر من تشريع جعْلٍ مماثِلٍ للمستصحَب ، وهو محظورٌ إثباتي ، وهو أنه لا مُوجِبَ لاستفادة جعْلِ الحكمِ المماثل من دليل الإستصحاب ، أصلاً وأبداً ، بل مُفادُ الإستصحاب هو لزوم البناء على عدم طروء طارئ غيّر موضوعَ الحكم ، فقط لا غير.


[1] في النقطة الثالثة / بحثٌ في تعيين المستصحب، ص423.
[2] الإلهيات على هدى الكتاب والسنّة والعقل، الشيخ حسن محمد مكي العاملي، ص280.
[3] راجع مباحث الأصول للسيد كاظم الحائري، ج5، ص438، من القسم الثاني.