الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : بقيّة الكلام في مثبتات الأمارات والأصول

بعدما رأيـتـَنا نبحث في هذا الركن الثالث في مثبَتات الإستصحاب وغيرها صار من الواجب علينا أن نبحث في النقطتين التاليتين :

 

1 ـ مثبتات الأمارات والأصول

لا شكّ أنك تعلم أنّ مثبتات الأمارات حجّة ، بخلاف مثبتات الاُصول العمليّة التي كنّا نتكلّم فيها حتى الآن ، أمّا وجه حجيّة اللوازم في الأمارات فقد أفاد المحقّق النائيني أنّ المولى تعالى حين تعبّدنا باعتبار الأمارة عِلْماً فإنّ هذا يعني أنه تعبّدنا بحجيّة الأمارة بكلا مدلوليها المطابقي والإلتزامي ، وذلك لكون كلا مدلولي العلم حجّة ، فكذا كلا مدلولي الأمارة حجّة . وقد ذكرنا أمس بعض الروايات ، ونذكرالآن بقيّة الروايات :

فقد روى في يب بإسناده عن علي بن الحسن(بن علي بن فضّال فطحيّ المذهب لكنه كان قريب الأمر إلى أصحابنا الإماميّة ، فقيه ثقة) عن محمد بن الوليد(البجلي الخزّاز ثقة عين نقيّ الحديث) عن يونس بن يعقوب(ثقة له كتب) عن أبي عبد اللهt في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة ؟ قال (عليه السلام) : ( ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرجل والنساء فهو بينهما ، ومَنِ استولى على شيء منه فهو له )[1] موثقة السند ، بناءً على أنّ ظاهر الحال هو كون الأشياء النسائية للنساء ، والأشياء الرجّاليّة للرجال ، وتفيدنا أيضاً أماريةَ اليدِ على الملكيّة . وبتعبير آخر : المرأة هي التي تملك الفساتين وليس الرجل ، والسيفُ يكون ملك الرجل عادةً وليس المرأة ، فأمَرَنا المولى تعالى بالأخذ بهذا الظاهر ، لأنه هو العادة ، بَعد فقْدِ الدليلِ على العكس .

ومنها ما في يب بإسناده عن أبي القاسم بن قولويه عن أبيه عن عبد الله بن جعفر الحميري عن محمد بن الوليد عن العباس بن هلال(الشامي ، وكان مولى للإمام الكاظم(عليه السلام)) عن أبي الحسن الرضا(عليه السلام) ذكر أنه لو أُفْضِيَ إليه الحكمُ لأقَرَّ الناسَ على ما في أيديهم ، ولم ينظر في شيء إلا بما حدث في سلطانه ، وذَكَرَ أنّ النبيّ (ص) لم يَنظر في حدث أحدثوه وهم مشركون ، وأنّ مَن أسلَمَ أُقِرَّ على ما في يده .[2] وهي أيضاً تفيد حجيّة أماريّة اليد على التملّك ، ولك أن تبيعه على أنه ملكك ...

من كلّ أدلّة حجيّة الأمارات تلاحظ نفس الشيء ، وهو أنّ ظاهر الحال في سوق المسلمين تذكيةُ اللحوم وحلّيّةُ الجبن ... وظاهر الحال في تسلّط الإنسان على الشيء أنه يملكه ، وله أن يرتّب كلّ آثار الملكيّة ، وفي مورد عمل الغير علينا أن نبني على الصحّة ، ونرتّب كلّ آثار الصحّة ، ذلك لأنّ الغالب في الإنسان أن يكون عالماً بما يفعل ، وغير ساهٍ وغير ناسٍ ، فلو طلّق شخصٌ زوجتَه ـ ولو في غيبتك وشككتَ مثلاً في اَنّه هل انتبه المطلّق حين الطلاق إلى شرطيّة أن يكون طلاقُه لها في طهر لم يواقعها فيه أو سها عن ذلك ـ فلك أن تعمل بكلّ آثار الطلاق الصحيح بأن تتزوّجها مثلاً ... وقد مرّ معنا ذلك أيضاً عند التحدّث في قاعدة الفراغ ، وفي أدلّة حجيّة خبر الثقة ، كآية النبأ والروايات كالتوقيع الشريف الذي يقول (عليه السلام) فيه ( فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه (يرويه ـ خ) عَنّا ثِقاتُنا ، قد عرفوا بأنّا نفاوضهم سرنا ونحملهم إياه إليهم )[3] وكلّها تدلّ على أنّ علّة حجيّة الأمارات هي لابُدِّيّة اعتبارِها حجّة ، لأنّ هذا هو مقتضى الفطرة البشريّة وإرتكاز العقلاء ولزوم حفظ النظام العام وأغلبية إصابة الأمارات للواقع . فمثلاً : معنى "لا تشكّك في خبر الثقة" أي خُذْ بكلا مدلولَي الخبر ، ومعنى "الجبن حلال" أي أنه طاهر ، ولك أن تبيعه على أنه طاهر رغم اشتراط المشتري ـ لفظيّاً ـ بطهارته .. وهكذا في سائر التعبيرات السابقة .

وبتعبير آخر : إنّ المولى تعالى حينما جعل الأمارات حجّة فإنّ العرف يفهم من ذلك أنها حجّة في كلا مدلولَيها المطابقي والإلتزامي ، وذلك لوضوح أنّ سبب إعطاء الحجيّة للأمارات في الأدلّة ـ كما في أدلّة حجيّة سوق المسلمين واليد والبيّنة وخبر الثقة ـ هو أغلبيّة مطابقتها للواقع ، وح نقول بأنّ مفاد الأمارات في كلا مدلولَيها المطابقي والإلتزامي بنفس قوّة المطابقة للواقع ، فإنْ قالت لك البيّنةُ : قُطِعَ زيدٌ نصفين ، فإنّ هذا يعني عرفاً أنه قد مات ، ويترتّب على ذلك كلّ آثار الموت شرعاً ، وهذا يعني أنّ مثبتات الأمارة هي من جملة دلالات الأمارة العرفيّة ، والنتيجة هي أنّ مثبتات الأمارات حجّة .

وبتعبير ثالث : إنّ المولى تعالى إنما جعل الأمارات حجّة لأغلبيّة موافقتها للواقع ـ ولا نظر لدى المولى تعالى في الأمارات إلى المحتمل ، أي إلى نوع مؤدّى الأمارة ـ بدليل الروايات السالفة الذكر قبل قليل ـ كرواية ( فإنه لا عُذْرَ لأحدٍ مِن موالينا في التشكيك فيما يُؤَدّيه عَنّا ثِقاتُنا ) وكأنه (عليه السلام) يقول لا تشكّكوا .. فإنها غالباً جداً توافق الواقع ، وابنوا على أنها موافقةٌ للواقع ـ ومعنى ذلك أنّ مداليلها الإلتزاميّة أيضاً توافق الواقع غالباً ، فيجب ـ لنفس العلّة ـ أن تكون حجّة . وقد ذكر السيد الشهيد الصدر هذا المطلب في مباحث الاُصول في موضعين : الأوّل في الجزء الثالث من القسم الثاني ص 38 والثاني في الجزء الخامس من القسم الثاني ص 428 .

 

* هذا التنزيل بلحاظ المداليل الإلتزامية غير موجود في الأصول العمليّة ، ذلك لأنّ الأصول العمليّة تَعبّدنا الشارعُ المقدّس فيها بخصوص المدلول المطابقي ، ولم يتعبّدنا بالمدلول الإلتزامي ـ كنبات اللحية في المثال المشهور ـ .

مثال آخر : إذا بنينا على طهارة مدفوع حيوانٍ شَكَكْنا في كونه مأكولَ اللحم ـ كي يكون مدفوعُه طاهراً ـ أو محرّمَ الأكل ـ كي يكونَ مدفوعُه نجساً كالسباع ـ فإنه ليس لنا أن نبنيَ على حليّة أكله بذريعة الملازمة بين بنائنا على طهارة مدفوعه وحِلّيّة أكْلِه شرعاً ، لأنّ قاعدة الطهارة تفيدنا جوازَ البناءِ على الطهارة وما يترتّب على الطهارة من آثار شرعية كجواز شرب الماء الذي بنينا على طهارته ، ولا تفيدنا البناءَ على اللوازم التكوينيّة للطهارة من حلّيّة أكله ، وذلك لأنّ حِلِّيَّة الأكل مرتّبةٌ على نفس الحيوان ، لا على طهارة مدفوعه ، أي أنّ حليّة الأكل من لحم هذا الحيوان ليست من آثار طهارة مدفوع هذا الحيوان ، وإنما حليّة الأكل هي من آثار نفس الحيوان وجنسه ، فلو أردنا أن نُثبِتَ حِليّةَ الأكلِ يلزم علينا أن نثبت جنس الحيوان أوّلاً ، ثم يترتّب على جنس الحيوان حليّةُ أكله ، وطهارةُ المدفوع لا تُثبِتُ جنسَ الحيوان ، أي أنّ قاعدة الطهارة لا تثبت آثاراً غير شرعيّة . وأنت تعلم أنه ليس للمولى تعالى أن يتعبّدنا بغير الآثار الشرعية في الأصول العمليّة .. سواءً كان للأثر العقلي أثرٌ شرعي أم لم يكن.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص525، أبواب ميراث الأزواج، ب8، ح3، ط الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص214، أبواب كيفيّة الحكم، ب25، ح1، ط الاسلامية.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج1، ص27، أبواب مقدمة العبادات، ب2، ح22، ط الاسلامية.