الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : الفرق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي

 

الفرقُ بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي هو أنّ الحكم التكليفي محرّك مباشرةً للمكلّف ، والحكم الوضعي محرّك غير مباشر للمكلّف ، فقول المولى مثلاً : ( الإتلاف سبب للضمان ) هو محرّك للمتلِف بشكل غير مباشر ، بمعنى أنه بالنتيجة يجب على المتلِف أن يَدْفَعَ بَدَلَ التالِف لصاحبه . أمّا قول المولى ( إتلاف مال الغير حرام )[1] فهو حكم تكليفي ، لأنه يحرّك المكلّف مباشرةً . وقولُ المولى ( الإفطار حرام ) حكم تكليفي ، وقوله ( الإفطار سبب لترتّب الكفّارة ) حكم وضعي . إذن الأحكام الوضعيّة تستتبع دائماً أحكاماً تكليفيّة .

فإن قلتَ : إذا مات الميّتُ وعليه صلاةٌ أو صيام مثلاً ، ولم يكن له وَلَدٌ ذَكَرٌ ، فإنّ القضاء يكون ثابتاً في ذمّته ، ومع ذلك فإنه لا يستتبع حكماً تكليفياً عليه ، لأنه ميّت ! ومثلُه كلُّ شخص غير مكلّف ، كالصغير إذا أتلف مالَ الغير ثم مات قبل البلوغ ، وكالمجنون !

قلتُ : هذا صحيح ، لكنْ عدمُ ترتّب الحكم التكليفي إنما هو لعدم الموضوع للتكليف ، لا لعدم المقتضي للتكليف الإلزامي ، ولذلك لو فرض رجوع الميّت إلى الحياة أو كبر الصبيّ حتى بلغ أو أفاق المجنون ، لَوَجَبَ عليهم أن يَرُدّوا ما ثبت في ذمّتهم إلى صاحبه ، ولو في الآخرة . ولذلك ، فإنّ قاعدة أنّ (الحكم الوضعي يستتبع حكماً تكليفياً دائماً ) هي قاعدة صحيحة ، لا تنخدش أصلاً ، وإلاّ لم يَعُدْ للحكم الوضعي أيُّ قيمة .

نعم ، يعتبر العلماء الطهارة والنجاسة والملكيّة والزوجيّة أحكاماً وضعيّة ، لكنهم يقصدون بذلك : الحكم بالطهارة على الشيء الفلاني الكلّي ، والحكم بالملكيّة على العلاقة الفلانيّة الكليّة في حال حصول العقد الفلاني أو الأمر الفلاني ، والحكم بالزوجيّة بين الرجل والمرأة الكليّين في حال حصول العقد الفلاني .. لكنهم تساهلاً وللسرعة في التعبير يقولون كالطهارة والنجاسة وو ..

 

2 واعلم أنّ الأحكام الوضعيّة هي أحكام شرعيّة ، مجعولة بنحو الإستقلال ، كالأحكام التكليفية تماماً ، فكما يمكن جعْلُ المولى تعالى الصلاةَ واجبة ، يمكن له أن يجعل أحكاماً شرعيّة مثل ( مَن حاز مَلَكَ) و (البيّنة حجّة) و (سوق المسلمين أمارة شرعيّة على التذكية والطهارة) .. وإنما جعَلَ اللهُ تعالى هذه الأحكامَ الوضعيّة لتنظيم حياة الإنسان ، كما في جعْلِ الزوجيّةِ والملكيّة والحريّة والرقيّة . ومن البديهي بطلانُ القولِ بعدم كون الأحكام الوضعيّة شرعيّة .

ولذلك فليست الأحكام المنتزعة من المركّبات هي أحكام شرعية أصلاً ، كالجزئيّة والسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة والعِلّيّة ، وذلك لأنّ الباري عزّ وجلّ يتصوّر المركّبات أوّلاً بكلّ مقدّماتها الخارجيّة والداخلية ثم يُنْشِئُ الحكْمَ بلحاظها ، فأنْ يشرّع تشريعاً ثانياً كجزئيّة الركوع والسجود ، وسببيّة الزوال ـ فإنه لا مصلحة للأمر بالصلاة إلاّ بدخول وقت الصلاة ، ولذلك صحّ إطلاق السبب على الزوال ، ولذلك سمّوها مقدّمات الوجوب ـ وسببيّة الإفطار العمدي للكفّارة ، وشرطّية الطهارة والإستقبال في الصلاة ـ ولذلك سمّوها مقدّمات الواجب ـ ومانعيّة الحدث والخبث في الصلاة ورافعيّة الرقص لهيأة الصلاة ، أنْ ينشئَ الجزئيّةَ والشرطية والسببية والمانعيّةَ مرّةً ثانية فهذا محض لغو ، لا يصدر من ساحة الحكمة المتعالية . فحينما شرّع المولى تعالى وجوب الصلاة فهو جلّ وعلا تصوّرَ الصلاةَ بتمام مقدّمات وجوبها ومقدّمات فِعْلِها وأجزائها وموانعها ، ثم شرّع وجوبها . وبعد هذا لا معنى لتشريع الجزئيّة مرّةً ثانية ، وتشريع الشرطيّة مرّة ثانية ... لأنّ التشريع الثاني سوف يكون لغواً محضاً .

ولذلك أيضاً ليست الأحكام المنتزعة من الأحكام التكليفية هي أحكام شرعية أصلاً ، فقولُ الباري تعالى﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى [2] كاشف عن جعْلِ اللهِ له حاكماً وقاضياً بين الناس ، وكأنه قال "فإنّي جعلته عليكم حاكماً" ، فجعْلُ الحكومةِ للأنبياء والأوصياء أحكام وضعيّة مجعولةٌ بنحو الإستقلال ، وليست منتزَعةً مِنَ الأمْرِ بالحكم ﴿ بين الناس بالحقّ ﴾.


[1] تمهيد القواعد الأصولية و العربية، الشهيد الثاني، ج1، ص31.
[2] ص/السورة38، الآية26.