الأستاذ الشيخ ناجي طالب
بحث الأصول
36/12/08
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : الركن الثاني/ الشبهة الحكمية
لا يزال الكلام في الركن الثاني من أركان الإستصحاب ، ووصلنا إلى جريانه في الشبهات الحكميّة فنقول :
عند تطبيق هذا الركن على الإستصحاب في الشبهات الحكمية نشأت بعض المشاكل أيضاً ، إذ من المعلوم أنّ الموضوع في الشبهات الحكميّة قد تغيّر عرفاً ، لكن هذا الشكّ القليل أورث عندنا شكّاً عقلائيّاً في مقوّميّة الزائد على الموضوع أو الناقص منه وعدم مقوّميّته للموضوع ، ولهذا حصل شكّ عقلائي في بقاء الحكم . وبتعبيرٍ آخر : دخَلَ بعضُ التغيّر على الموضوع ، ولا ندري أنّ الداخل فيه أو الخارج منه هل هو مقوّم لموضوع الحكم السابق أو لا ؟ وأنت تعلم لزوم وحدة القضيتين المتيقنة والمشكوكة ، كما قلنا قبل قليل ، فهل نستصحب ـ رغم هذا التغيّر ـ أم لا يصحّ أن نستصحب ، لاحتمال تغيّر موضوع الحكم ، وبالتالي يحتمل تغيّر الحكم ؟
والخصوصيّةُ الداخلة على الموضوع أو الزائلة عنه على نحوين : (فإمّا) بأنْ تكون دخيلةً في حدوث الحكم فقط دون الحاجة إلى بقائه ، وذلك كما في خصوصيّة حياة المرجع في جواز تقليده ، فإنّا نعلم أنّه لا يصحّ تقليد المرجع الميّت إبتداءً ، أي أنه يشترط أن يكون المرجع الذي نقلّده ابتداءً حيّاً ، فإذا مات حصل عندنا شكّ في بقاء جواز تقليده ، (واِمّا) بأنْ تكون الخصوصيّةُ مقوّمةً لموضوع الحكم ـ كما في نقاء الحائض ـ ، فإذا ارتفعت خصوصيّةُ الحيض إرتفعت الحرمةُ .
فإذا تردّدنا في الخصوصيّة الداخلة أو الزائلة بين كونها من النحو الأوّل ـ وهي ما يعبّرون عنها بالحيثية التعليلية ـ وبين كونها من النحو الثاني ـ وهي ما يعبّرون عنها بالحيثيّة المقوّمة ـ حصل عندنا شكّ في بقاء الحكم ، فما هو الموقف اتّجاه هذه المشكلة ؟
وقد قدّم علماؤنا بعضَ الأمثلة في المقام فقالوا :
هل أنّ المولى تعالى أجاز لنا تقليد المرجع بشرط أن يكون حيّاً وواعياً ـ أي غير مغمى عليه ـ وعاقلاً ـ لم يطرأ عليه الجنون ـ أم أجاز لنا تقليده حتى فيما لو طرأ عليه الموت بعد المرجعية أو طرأ عليه الإغماء ، ولو بسبب أننا نقلّد كتبه ، وكُتُبُه باقية ؟
وهل أنّ المولى عزّ وجلّ حَرَّمَ وطْءَ الزوجةِ إذا حاضت حتى تغتسل ، أو أنه جلّ وعلا حرّم وطأها إذا كانت فعلاً حائض، بحيث لو نقت لكان وطؤها جائزاً حتى ولو لم تغتسل ؟
وهل أنّ حكم الماء الذي تغيّر بالنجاسة هو نجس ـ حتى ولو نقى تماماً وصار صالحاً للشرب ـ حتى يزول التغيّر ويتّصلَ بماء معتصم ، أو أنّ المولى تعالى حكم بنجاسته طالما هو متغيّر بالنجاسة فقط ، بحيث لو زال التغيّر لصار طاهراً من دون حاجة إلى اتّصاله بالماء المعتصم ؟
وهل أنّ الكلب الذي وقع في المملحة سنين طويلة يبقى نجساً حتى يفنى بالدقّة العقليّة أو أنه يحكم بطهارته إذا صار ملحاً بالنظر العرفي ؟
قبل الدخول في البحثِ يجب القول بأنه لا شكّ في أنه إذا تغيّر الموضوع قليلاً بحيث بقي إسم الموضوع عرفاً ـ أي بقيت الماهيّة عرفاً ـ فإنّ حكمه يبقى قطعاً وبالإجماع ، كما إذا مرض المرجع أو صار أعمى ، فإننا يجب أن نقول بجواز البقاء على تقليده بالإجماع .
وأمّا إذا تغيّر اسمُ الموضوع أي حصل انقلابٌ في ماهيّته ـ كما لو صار المنيُّ فرساً ـ فإنه لا يصحّ الإستصحاب بالإجماع ، وذلك لوضوح ذلك من أدلّة الإستصحاب التي مُفادها أننا يجب أن نستصحب الحالة السابقة لنفس الموضوع ، فلو صار المنيُّ فَرَساً مثلاً فإنّ الموضوع بما أنه تغيّر فلا يمكن استصحاب النجاسة ، وذلك لتغيّر الموضوع أو قُلْ لِتَغيُّرِ الحقيقة والماهيّة ، وهذا بطبيعة الحال أمر إجماعي أيضاً .
* الأقوال والأوجه في المسألة :
في المسألةِ عدّةُ أقوالٍ وأوجه ، أهمُّها ثلاثة :
* الوجه الأوّل : قد تقول : نستصحب بقاء الحكم الفعلي ـ كأنْ نستصحبَ الحرمةَ الفعليّة لوطءِ الحائض التي نَقَتْ ـ كما يقول سيدنا الشهيد رحمه الله[1] [2] !! وكذا لو تغيّر الماءُ الكرّ بأوصاف النجاسة ثم أزلنا أوصافَ النجاسة بالدقّة ، حتى صار نقيّاً ، صالحاً للشرب ، فقد تـقول أيضاً بلزوم استصحاب النجاسة ـ كَحُكم ـ .
أقول : لا يمكن جريان استصحاب الحكم الفعلي المجعول مع غضّ النظر عن موضوعه ، وذلك لأنّ الشكّ إنما هو في بقاء موضوع الحرمة الذي هو عِلّة الحرمة . وبتعبير آخر : لا يمكن إجراءُ الإستصحاب في المعلول (أي الحكم) الذي هو ظلّ لموضوعه ونغضّ النظر عن موضوعه ، وإنما يجب أن ننظر إلى موضوع حرمة الوطء في عالم الجعل . ومثاله الثاني ما لو أزلنا النجاسة عن المحلّ فإنه لا يصحّ أن نستصحب النجاسةَ ـ كحُكْم ـ مع زوال نفس القذارة ـ كموضوع ـ ، ولذلك فنحن لا نستصحب الحكم ـ حتى في الشبهات الموضوعيّة ـ وإنما نستصحب عدم طروء تغيّر على الموضوع فقط ، لا غير ، وهذا أمْرٌ يجب أن يكون مسلّماً ... يُتبعُ إن شاء الله تعالى.