الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/12/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : قيام الأصول العمليّة مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الإستصحاب

وما عرفتَه من قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي المأخوذ في الإستصحاب يجري تماماً في الأصول العمليّة ، فلو ثبتت الحالة السابقة بالإستصحاب أو بقاعدة الطهارة أو بقاعدة الحِلّ لَكَفَى ، أمّا في الإستصحاب فالأمر واضح ، وأمّا في قاعدتي الطهارة والحِليّة اللتين يعبّرون عنهما بالأصول العمليّة التنزيلية فإنهما ـ بلا شكّ ولا خلاف ـ تقومان أيضاً مَقام القطعِ الوجداني الصفتي ـ طبعاً بناءً على ظاهر اللفظ من كون القطع الموضوعي في قاعدة الإستصحاب صفتياً ـ وذلك لتنزيل أدلّتها مشكوكَ الطهارةِ والنجاسة منزلةَ الطاهر شرعاً ، لاحِظْ قولَه (عليه السلام) في موثّقة عمّار المشهورة ( كلّ شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك )[1] فهذا تصريح من المولى تعالى بأنك يجب عليك أن تعتبر مشكوك الطهارةِ طاهراً شرعاً ، أو قُلْ : هي تنزّل المستصحَبَ المشكوكَ منزلةَ المتيقّن ، ويَفهم من ذلك العرفُ أنك يجب أن تعتبر نفسك متيقّناً بطهارته ، وهذا تصريح بقيام الأصول العملية التنزيلية مَقام القطع الوجداني ، وكذا الأمر تماماً في أدلّة الحلّية ، لاحِظْ قولَه (عليه السلام) ( كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه )[2] .

وبتعبير آخر : القطعُ الوجداني يعني أن نكون علماء وخبراء ـ أي متّصفين تكويناً بهذه الصفات ـ بكون هذا المائع ـ مثلاً ـ طاهراً ، والشارع المقدّس يقول لك أنت عندي عالِم بطهارته ، وح يمكن لك أن تقول بالملازمة العرفية بين (اعتبار المشكوك الطهارة طاهراً شرعاً) وبين (اعتبارك عالماً بطهارته شرعاً) وذلك بتقريب أنك إنْ لم تعلم بالنجاسة فاعتبر نفسك متيقّناً بالطهارة .

وعليه ، فإن كنت بانياً على الطهارة مثلاً ـ بناءً على قاعدة الطهارة أو استصحابها ـ ثم شككتَ في عروض النجاسة ، فإنك يمكن لك أن تستصحب الطهارة ، لأنها كانت ثابتةً شرعاً ، بمعنى أنّ المولى تعالى نزّل الطهارة الثابتة بقاعدة الطهارة منزلة الطاهر الواقعي ، ثم شككتَ في طروء النجاسة ، فلا محالة ، عليك أن تستصحب الحالة السابقة الثابتة شرعاً .

ومن الواضح جدّاً أنّ هذا الإستصحاب هو استصحاب للوظيفة العمليّة ، أي هو استصحاب ظاهري ، لا واقعي ، خاصةً وأنّا لا نقول بجريان الإستصحاب في الشبهات الحكميّة . وقد يكون الإستصحاب واقعياً ، كما لو طهّرتَ ثوبك تطهيراً واقعياً قطعياً ثم شككتَ في طروء النجاسة عليه ، فلا محالة يكون الإستصحاب واقعياً .

* وهنا إشكال عِلْمي بحت ، وهو أنك عرفتَ أننا نقول بكون اليقين الوارد في موضوع الإستصحاب هو طريقي وليس صفتيّاً ، أي هو بمعنى الدليل والحجّة ، فعليه إن ثبتت نجاسةُ الماء بقاعدة الإستصحاب مثلاً ، وثبتت طهارةُ نفس الماء بقاعدة الطهارة ، فيجب عليك إذن أن تقدّم قاعدة الطهارة على قاعدة الإستصحاب ـ وهو خلاف المسَلّم ـ لأنّ قاعدة الطهارة دليل وحجّة ، فيُلغَى موضوعُ الإستصحاب ـ وذلك لوجود دليل على طهارة الماء ـ فلا يجري استصحاب النجاسةِ أصلاً !!

والجواب : ليس الأمر كما اُفيد ، فإنّ دليل الإستصحاب يقول : إن كان عندك دليلٌ على الحالة السابقة فابْقَ عليها ، وقاعدةُ الطهارة تقول : الأصلُ في الأشياء هي الطهارة ، إلاّ إذا ثبتت النجاسة بأمارة أو بالإستصحاب . وإنما قلنا بهذا التخصيص ـ مع أنه غير مذكور صريحاً في الروايات ـ لأنّ الإستصحاب ـ عند كلّ المتشرّعة ـ أشبهُ شيءٍ بالأمارة ، لأسبابٍ ذكرناها ،فتكون واردةً على قاعدة الطهارة ، وعلى الأقلّ هي عندهم أخصّ من قاعدة الطهارة ، ولأننا إن قدّمنا قاعدة الطهارة على الإستصحاب لألغينا أصلَ تشريعِ استصحاب النجاسة ، وهو غير صحيح قطعاً .

 

* جريان الإستصحاب مع اليقين التقديري

والمراد من هذا البحث هو أنه لو قال لك المولى مثلاً : "أكرِمِ العالِمَ" وكنتَ تعلَمُ أنّ فلاناً سيصير عالماً بعد عشرين سنة ، فهل يجب إكرامُه ؟

الجواب : لا شكّ في عدم وجوب إكرامِه أصلاً ، لأنه ليس عالماً فعلاً ، والعناوين ظاهرة في الفعليّة .

 

* تنبيه : ما هو المستصحَب ؟

لا شكّ في أنّ المستصحَبَ هو (عدم طروء عارض على الموضوع) وليس المستصحَبُ هو (بقاء الموضوع أو عارضه) . ونحن حينما نقول "يمكن لك أن تستصحب الطهارة" كما في الفقرة الأخيرة السابقة فإنما نقولها من باب التساهل في التعبير ، واستعمالاً للنتيجة بدل استعمال مقدمتها ، ولذلك ذيّلْنا بهذا التنبيه ، وإن كانت الحقيقة أنّ المستصحَب هو ـ كما قلنا ـ (عدم طروء النجاسة) ، وهذا هو الأمر العقلائي الذي يفهمه الناس من رواية زرارة السابقة وغيرِها الدالّة على أنّ الإستصحاب هو أمر إرتكازي عقلائي ، والإرتكازُ يفيدنا أنّ المستصحب هو (عدم طروء عارض على الموضوع) وذلك لأصالة العدم الأزلي العقلائيّة .

كما أنه لا داعي للقول بلزوم أن نقيّد المستصحبَ ، فنشترطَ فيه أن يكون موضوعاً للحكم الشرعي كطهارة الماء ، ذلك لأنه قد يكون المستصحب كطهارة الثوب مثلاً ، وهي شرط في الصلاة ، وليست موضوعاً لحكم شرعي ، لأنّ الصلاة ليست حكماً شرعيّاً ، وإنما هي متعلّق الحكم الشرعي .

 

2 أمّا الركن الثاني ـ وهو الشكّ في بقاء موضوع الحكم بسبب احتمال طروء ما غيّرَه ـ فدليلُه وجهان : عقلي ونقلي :

أمّا العقلي ، فإنّ الإستصحاب حكم ظاهري وهو متقوم بالشكّ ، فلا بُدّ واَنْ يُفرَضَ الشكُّ في البقاء لا محالة .

وأمّا النقلي فللتصريح بذلك في أَلسِنَة الروايات المتقدمة .

ولا بأس أن نُعْطِي بعضَ أمثلةِ الشكوك :

لو علم شخصٌ أنّه قد أحدث ، إمّا بالأصغر وإمّا بالأكبر ، فتوضّأ فقط ولم يغتسل ، فهل يجوز له الصلاة أم لا ؟ قطعاً لا ، وذلك لأنه يجب أن يستصحب بقاءَ طبيعي الحدث .

وهل يجوز له مسُّ المصحفِ الشريف ؟ أيضاً لا ، وذلك لنفس السبب السابق وهو لزوم استصحاب كلّيّ الحدث ... وهكذا .

ولو حصل عندنا علم إمّا بطروء النجاسة على الثوب قبل ساعة ثم طهّروه ، وإمّا بطروء النجاسة عليه قبل بضع دقائق ولم يطهّروه بعد ، فإنه بلا شكّ تجري قاعدة الطهارة ـ ولا يجري استصحاب النجاسة ـ وذلك لطروء إمّا الطهارة عليه أخيراً وإمّا النجاسة ، وبتعبير آخر : لتوارد إحدى الحالتين عليه ، إمّا الطهارة قبل ساعة وإمّا النجاسة قبل دقائق .

ولو كنّا نعلم سابقاً بطهارة الإناءين ، ثم علمنا بطروء نجاسة على أحدهما ، فإننا لا يصحّ لنا ـ عقلاً ـ أن نُجري استصحابَ الطهارة في أيّ واحد من الإناءين ، فضلاً عن كليهما ، وذلك لانصراف أدلّة الإستصحاب ـ عُرْفاً ـ عن حالات الإبتلاء بالعلم الإجمالي ، وثانياً ـ على فرض جريان الإستصحابين في موارد العلم الإجمالي ـ لتعارض الإستصحابين ، وذلك لِعِلْمِنا بنجاسة أحدهما .

* فإذا عرفت لزومَ بقاء موضوع الحكم ، إذن يجب أن يكون المتيقَّنُ والمشكوكُ واحداً ، على اعتبار أنّ المتيقّن هو طهارة الثوب سابقاً ، والمشكوك هو بقاء الطهارة الآن ، ولك أن تقول : يُشترط وَحدةُ القضيّتين المتيقّنة والمشكوكة ، على اعتبار أنّ المتيقّن هو (كان طاهراً) والمشكوك هو (هل لا يزال طاهراً ؟) ، ما شئت فعبّر .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1054، أبواب النجاسات، ب37، ح4، ط الاسلامية.
[2] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص91، أبواب الاطعمة المباحة، ب61، ح1، ط الاسلامية.