الأستاذ الشيخ ناجي طالب

بحث الأصول

36/11/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : أركان الإستصحاب / الركن الأوّل

 

( أركان الإستصحاب )

 

للإستصحاب ثلاثةُ أركان : (1) ثبوت الحالة السابقة بحجّة شرعيّة كالأصل العملي ،

(2) الشكّ في بقاء موضوع الحكم ، و (3) الأثر الشرعي للإستصحاب .

(1) أمّا الركن الأوّل وهو ثبوت الحالة السابقة بدليل شرعي ، فدليلُه ما رأيتَ في صحيحة عبد الله بن سنان السالفة الذكر التي يقول فيها : سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) وأنا حاضر : إنّي اُعير الذمّيّ ثوبي ، وأنا أعلم أنه يشرب الخمر ، ويأكل لحم الخنزير ، فيردّه عليّ ، فأغسله قبل أن اُصلّي فيه ؟ فقال أبو عبد الله : ( صَلّ فيه ، ولا تغسله من أجل ذلك ، فإنك أعرته إيّاه وهو طاهر ، ولم تستيقن أنه نجّسه ، فلا بأس أن تصلّي فيه حتى تستيقن أنه نجّسه )[1] ، فإنك تلاحظ أنّ الإمام (عليه السلام) اعتبر نفس ثبوت الحالة السابقة ، ولو بأصل عملي ، ولم يعتبر اليقينَ بها ، ممّا يعني كفايةَ تحقّقِ موضوع الإستصحاب بأي حجّة شرعيّة ـ ولو بأصل عملي أو بخبر ثقة واحد ، لقولنا بثبوت الموضوعات بخبر الثقة إلاّ ما خرج بدليل ، كما في الزنا والدعاوى ـ . ولهذا نعلم أنّ المراد من اليقين المذكور في الروايات السابقة هو اليقين الطريقي الآلي الكاشف عن إرادة ثبوت الحالة السابقة بأيّ حجّة شرعيّة ، وليس لازماً أن تكون الحالةُ السابقة ثابتةً باليقين فقط ، أي أنه ليس اليقين المذكور في الروايات المرادُ منه اليقينُ الصفتي أصلاً ، وإنما المراد هو ثبوت المتيقّن بحجّة شرعية .

إذن ، الركن الأوّل هو ـ في الواقع ـ ثبوتُ الحالة السابقة بأيّ دليل شرعي ، كما يقول صاحب الكفاية[2] والسيد الشهيد الصدر[3] [4] [5] أيضاً ، بل لا أظنّ وجود خلاف في هذا ، وبتعبير آخر : المراد من اليقين بالحالة السابقة هو الدليل والحجّة الشرعيّة ، فتعبّدَنا المولى تعالى ـ إن ثبتت الحالةُ السابقة بدليل شرعي ـ ببقائها ، وكأنه تعبّدنا بالملازمة ـ ظاهراً ـ بين الحدوث والبقاء ، إلاّ أنّها ليست ملازمة تكوينيّة أو عقليّة ، كالملازمة السببيّة بين العلّة ومعلولها ، التي هي أمْرٌ تكويني ، لا يمكن التعبّد به شرعاً ، وإنما هي ملازمة تعبّديّة ، بمعنى أنه إن كان الحدوث منجّزاً كان البقاء منجَّزاً ظاهراً وتعبّداً .

 

وحتى لو قلنا إنّ المراد من اليقين في سائر الروايات هو اليقين الصفتي ـ تمسّكاً بظاهر اللفظ ـ فخبر الثقة ـ كما قلنا سابقاً ـ يقوم مقام اليقين الصفتي شرعاً ، فهو يحقّق فرداً من أفراد اليقين ، شرعاً وتعبّداً ، ولذلك تكونُ أدلّةُ حجيّة خبر الثقة حاكمة وناظرة إلى قيامها مقام اليقين ، سواءً الوارد في الإستصحاب أو في غير الإستصحاب ـ كما في دليل قاعدتَي الطهارة والحِلّ ـ فتوسّعه شرعاً وتعبّداً ، لاحِظْ قولَه تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ }[6] فهي تعتبر خبرَ العادل بياناً وعِلْماً ، لأنه لا يحتاج إلى تبيّن وتأكّد ، بخلاف خبر الفاسق الذي يحتاج إلى التبيّن والتأكّد والإحتياط . ولذلك فإذا اعتمدت على خبر العادل فإن اللوازم الأخرى تترتّب ، فمثلاً : لك أن تتّهم قوماً بناءً على قول العادل ، وهذا لازم خطير ، وهذا ما يعبّر عنه في علم الأصول بتنزيل الأمارة منزلةَ القطع الوجداني أي الصفتي[7] .

لكن الصحيح هو أنّ القطع الموضوعي الظاهر في الصفتيّة هو في الواقع قطع طريقي ، وذلك لكاشفيّة قيام الأمارة والأصل مقام القطع الموضوعي عن كونه طريقياً ، وإلاّ فلو قلنا بأنه صفتي ، ثم تنزّل الشارع المقدّس فقال بقيام الأمارة والأصل مقام القطع الصفتي ، فصار بحكم الطريقي ، فهو تطويل للمسافة ولغو محض ، سبحانه وتعالى عمّا يقولون .

ثم بناءً على كون الركن الأوّل هو مجرّد ثبوت الحالة السابقة بدليل شرعي يصحّ التعبير بالنقض ، وذلك لحجيّة الدليل على ثبوت الحالة السابقة ، فليس للإنسان أن ينقض ما هو ثابت بدليل شرعي . فمثلاً : حينما يقول لك المولى "الخمر حرام" وجاءتك بيّنةٌ حجّة شرعاً وأخبرتْك أنّ هذا السائلَ خمرٌ ، فليس لك أن تنقض قولهم وتشرب من هذا السائل ، بعد ثبوته لك بواسطة البيّنة أنه خمر ، وكذا الأمر تماماً في الإستصحاب.


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص1095، أبواب النجاسات، ب74، ح1، ط الاسلامية.
[2] كفاية الاُصول، ابوالحسن مشکینی، ج2، ص309، 310 من طبعة تعليقة المشكيني.
[3] إستدلّ السيد الشهيد على ذلك بصحيحة عبد الله بن سنان، راجع بحوث في علم الأصول للسيد محمود الهاشمي، مباحث الحجج والأصول العملية، ج3، ص111.
[4] مباحث الأصول، للسيد كاظم الحائري، ج5، ص300، من القسم الثاني.
[5] دروس في علم الأصول، السيد محمد باقر الصدر، ص160، ح3.
[6] الحجرات/السورة49، الآية6.
[7] طبعاً، كلامُنا إنما هو في الفرعيّات، أي في الأمور التعبّديّة ـ لا في العقائديّات والتاريخيّات ونحوها ممّا تحتاج إلى علم قطعي، لأنّ الاُمور العقليّة البحتة لا تعبّد فيها.