بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/08/22

بسم الله الرحمن الرحیم


الموضوع : مثبتات الأمارات والأصول
مثبتات الأمارات والأصول
   لا شكّ أنك تعلم أنّ مثبتات الأمارات حجّة، بخلاف مثبتات الاُصول العمليّة التي كنّا نتكلّم فيها حتى الآن، أمّا وجه حجيّة اللوازم في الأمارات فلوجهين :
 الوجه الأوّل : إنّ مقتضى تنزيل الأمارة منزلة العلم هو تنزيل لوازمها أيضاً منزلة العلم بها، وهو ما أفاده المحقّق النائيني من أنّ المولى تعالى حينما تعبّدنا باعتبار الأمارة علماً فإنّ هذا يعني أنه تعبّدنا بحجيّة الأمارة بكلا مدلوليها المطابقي والإلتزامي، وأنت تعلم أنّ كلا مدلولي العلم حجّة، فكذا كلا مدلولي الأمارة حجّة، لأنها منزّلةٌ منزلة العلم .
   وهذا الكلام لا بأس به، بناءً على مسلكه الذي تبنّيناه وهو مسلك الطريقيّة، وقد أوضحنا دليلنا على هذا المسلك ص 180 واستدللنا على صحّة هذا المسلك بآية النبأ وغيرها من الروايات، فإنّ اعتبار خبر العادل بياناً لك ـ بلحاظ آية النبأ مثلاً ـ يعني اعتبارَك عالماً بلحاظ مداليله الإلتزاميّة أيضاً . 
 الوجه الثاني : وهو مقتضى تنزيل مؤدّى الأمارة منزلة الواقع، وقد استدللنا على كلا التنزيلين سابقاً ص 29 من خلال العديد من الروايات فراجع . هذه الروايات تفيدنا أنّ علينا أن نعتبر مؤدّى الأمارات ثابتاً واقعاً، وبالتالي تفيدنا تنزيلَ لوازمِ الأمارة أيضاً منزلة الواقع . والظاهر أنّ منشأ هذا التعبّد هو لزوم حفظ النظام العام الذي أمرنا به الشارع المقدّس من خلال الكثير من الروايات، ولْنلاحظْ بعضَ هذه الروايات :
روى أحمد بن محمد بن خالد البرقي عن أبيه عن محمد بن سنان عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفرt عن الجُبن، وقلت له : أخبَرَني مَن رأى أنه يُجعل فيه المَيتةُ، فقال :  ( أمِنْ أجْلِ مكانٍ واحدٍ يُجعل فيه المَيتةُ حُرِّمَ في جميع الأرضين ؟! إذا علمت أنه ميتة فلا تأكلْ، وإن لم تعلم فاشترِ وبِعْ وكُلْ، واللهِ إني لأعترض السوق فاشتري بها اللحم والسمن والجُبن، واللهِ ما أظن كلَّهم يُسَمُّون، هذه البربر وهذه السودان )[1]،
ولاحِظْ أيضاً ما رواه في الكافي عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعلي بن محمد القاساني جميعاً عن القاسم بن محمد (الإصبهاني المعروف بكاسام وهو مجهول) عن سليمان بن داود (المنقري، ثقة) عن (القاضي) حفص بن غياث[2] عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال قال له رجل : إذا رأيتُ شيئاً في يدَي رجلٍ يجوز لي أن أشهد أنه له ؟ قال : ( نعم )، قال الرجل : أشهد أنه في يده، ولا أشهد أنه له، فلَعَلَّهُ لغَيره ! فقال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( أفَيَحِلُّ الشراءُ منه ؟ ) قال : نعم، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ( فلَعَلَّهُ لِغَيره، فمِنْ أين جاز لك أن تشتريَه ويصير ملكاً لك ثم تقول بَعْدَ المُلك هو لي وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنبسه إلى من صار ملكُهُ مِنْ قِبَلِهِ إليك ؟ ) ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام) : ( لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوقٌ )[3] مصحَّحة الكافي، ورواها الصدوق بإسناده عن سليمان بن داود . وتصحّح أيضاً من باب رواية الصدوق عنه في الفقيه مباشرةً ممّا يعني أنّ كتابه من الكتب التي عليها معوّل الشيعة وإليها مرجعهم .
   وجه التقريب أنّ الإمام (عليه السلام) حينما أجاز له الحلف على التملّك، مع أنه اعتمد على أماريّة اليد، وقد يكون البائع سارقاً واقعاً للغرض المباع، فإنّ هذا يعني أنّ اليد تفيد عادةً وشرعاً الملك، ظاهراً، ومع ذلك أمرنا الباري تعالى أن نعتبر الشيء المشترى هو للبائع، فإذا نزّل المولى عزّ وجلّ الشيء منزلة المملوك للبائع واقعاً واعتبره مالكاً فإنّ هذا يعني حجيّةَ لوازم أمارة اليد، وهي الحلف على التملّك، وهذا الحلف من أعظم اللوازم وأعجبها، ومع ذلك لا أظنّ أنّ أحداً اعترض على هذه الناحية من هذه الرواية . ومثلُها ما بَعدها .
   وروى علي بن إبراهيم في تفسيره عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عثمان بن عيسى وحماد بن عثمان جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام)ـ في حديث فدك ـ أنّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لأبي بكر : ( أتحكم فينا بخلاف حكم الله تعالى في المسلمين ؟ ) قال : لا، قال : ( فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيتُ أنا فيه، مَن تسألُ البيِّنَةَ ؟ ) قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين، قال (عليه السلام) : ( فإذا كان في يدي شيءٌ فادَّعَى فيه المسلمون تسألني البينةَ على ما في يدي وقد مَلَكْتُهُ في حياة رسول الله (ص) وبَعْدَه، ولَمْ تَسألِ البيِّنَةَ على ما ادعوا علَيَّ كما سألتني البينةَ على ما ادعيتُ عليهم ؟ ـ إلى أن قال ـ وقد قال رسول الله (ص) : (البيِّنَةُ على مَنِ ادعَى واليمينُ على مَن أنكر )[4]، وهي تفيدنا بأنّ اليد أمارة الملكيّة بما في ذلك من لوازم .
   وروى في الكافي عن علي بن إبراهيم عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة (عامّي بتري) عن أبي عبد الله (عليه السلام)قال سمعته يقول : ( كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، والمملوك عندك لعله حر قد باع نفسه، أو خُدِعَ فَبِيعَ قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك، أو تقومَ به البيِّنَةُ )[5]، ورواها الشيخ في يب بإسناده عن علي بن إبراهيم، وهي موثّقة السند، وتَثبت وثاقةُ مسعدة بن صدقة برواية الصدوق عنه في فقيهه مباشرةً وقد شهد أنه قد أخذ رواياته عن المصنّفات والاُصول التي عليها المعوّل وإليها المرجع، ممّا يعني وثاقةَ أصحابها على الأقلّ، وهذه الطريقة معروفة ومشهورة بين علماء الحديث والرجال، ولذلك وصفها جملةٌ من الأعلام بالموثّقة كالشيخ الأنصاري وصاحب الحدائق وغيرهما .
   وهي تقول : كل شيء شككت في حرمته وحلّيّته فابنِ على أنه حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مِثْلُ الثوبِ يكون عليك قد اشتريتَه وهو سرقة واقعاً، ولكنك لا تعلم أنه سرقة، فابنِ على أنّ البائع كان مالكاً له، بناءً على ظاهر أنّ اليد أمارةٌ على ملكيّته . والمملوكُ عندك لَعَلَّهُ حُرٌّ قد باع نفسَه، أو خُدِعَ فَبِيعَ قهراً، فابنِ على ظاهر الحال وعلى كلام البائع بأنه ملكه، وبقرينة عدم اعتراض العبد، فاشتره، ولا بأس بذلك . أو امرأة تحتك وهي أختك واقعاً أو رضيعتك، لكن لا دليل على ذلك، ولا اعتراض من أحد، فلا بأس أن تبقيها معك، حتى وإن توسوستَ . والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غيرُ ذلك، أو تقومَ به البيِّنَةُ . فالإمام (عليه السلام) إذن يعَلّمُنا على أمارتين في هذه الرواية : اليد وأصالة الصحّة في عمل الغير .


[1] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج17، ص91، أبواب الأطعمة المباحة، ب61، ح5، ط الاسلامية.
[2] عامّيّ، له كتاب معتمد ـ ست، وقال الشي :خ في العدّة : عملت الطائفة بما رواه فيما لم ينكروه ولم يكن عندهم خلافه، ويروي عنه في الفقيه مباشرةً.
[3] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص215، أبواب كيفيّة الحكم، ب25، ح3، ط الاسلامية.
[4] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج18، ص215، أبواب كيفيّة الحكم، ب25، ح3، ط الاسلامية.
[5] وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج12، ص60، أبواب ما يكتسب به، ب4، ح4، الاسلامية.