بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/07/23

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : هل يَجري الإستصحابُ في الشبهات الحُكْمِيّة ؟

النسبة بين الإستصحاب والأصول العملية والأمارات
 من الواضح أنّ الإستصحاب أخصّ من الطهارة، فيقدّم عليها، وإنما قلنا بالأخصيّة لأنّ الإستصحاب أصْلٌ كالطهارة، فهو إذن في عرْض الطهارة .
   وإنما مثّلنا بالطهارة لا بالحِلّ ولا بالبراءة لأنّ الإستصحاب لا يجري في الشبهات الحكمية، فلا محلّ للكلام ح عن النسبة بين الإستصحاب وبين البراءة والحِلّ اللذين لا يجريان إلاّ في الشبهات الحكمية فقط، ولذلك لا يجريهما إلاّ المجتهد فقط، لا العامّي . 
  وأمّا في تعارض الإستصحاب مع الإحتياط، فلو تردّد الإناءُ النجس بين إناءين مثلاً وكانت حالة أوّلهما النجاسة سابقاً ـ قبل وقوع النجاسة الثانية ـ وحالة الثاني الطهارة سابقاً، فإنّ هذا لا يجوّز عندنا شربَ الإناء الثاني بذريعة طهارته سابقاً، وذلك للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما فعلاً .
   وأمّا تعارض الإستصحاب مع أصالة عدم التذكية فلا محلّ لتصوّره أصلاً، وذلك لأنّ أصالة عدم التذكية هي فرع من فروع الإستصحاب .
   وكذلك تعارض الإستصحاب مع أصالة الإشتغال لا يتصوّر، لأنّ الإشتغال هو أيضاً فرع من فروع الإستصحاب . 
   وأمّا في تعارض الإستصحاب مع الأمارات ـ كخبر الثقة والفراغ واليد وسوق المسلمين ـ فلا شكّ في تقدمها على الإستصحاب بالورود، لأنها تلغي موضوع الإستصحاب من الأصل، وليست الأمارات في عرض الإستصحاب ـ كما كان الحال في الإستصحاب والطهارة ـ وإنما الإستصحابُ هو في طول الأمارات . فلو أخبرنا ثقة بتطهير شيء كان نجساً قبل ساعة فليس علينا أن نستصحب نجاسته، وإنما علينا أن نأخذ بخبر الثقة . ولو انتهت الصلاة وشككنا في الركوع فيها، فليس لنا أن نستصحب عدم الركوع، وإنما علينا أن نبني على صحّتها لقاعدة الفراغ الشرعيّة، ولو رأينا فلاناً يلبس ثوب زيد فليس لنا أن نستصحب بقاء كونه على ملك زيد، وإنما علينا أن نأخذ بأماريّة اليد الدالّة على الملكيّة، وكذلك إذا كان في سوق المسلمين لحم، فليس لنا أن نستصحب عدم التذكية، وإنما علينا أن نأخذ بأماريّة سوق المسلمين على حصول التذكية .

هل يجري الإستصحابُ في الشبهات الحكميّة أم لا ؟

   لا شكّ في أنّ هذه المسألة هي مسألة مهمّة جداً في مرحلة الإستنباط، وآثارها الفقهيّة خطيرة، والخلاف فيها مشهور، رغم أنها بديهيّة الجواب، فنقول :
   الأسئلة المتعارفة التي توجّه عادةً إلى العلماء في هذه المسألة هي التالية :
   هل أنّ المولى تعالى أجاز لنا تقليد المرجع بشرط أن يكون حيّاً وواعياً ـ غير مغمى عليه ـ وعاقلاً ـ لم يطرأ عليه الجنون ـ أم أجاز لنا تقليده حتى فيما لو طرأ عليه الموت بعد المرجعية أو طرأ عليه الإغماء أو الجنون، ولو بسبب أننا نقلّد كتبه، وكتبه باقية ؟
   وهل أنّ المولى عزّ وجلّ حَرَّمَ وطْءَ الزوجةِ إذا حاضت حتى تغتسل، أو أنه جلّ وعلا حرّم وطأها إذا كانت فعلاً حائض، بحيث لو نقت لكان وطؤها جائزاً حتى ولو لم تغتسل ؟
   وهل أنّ حكم الماء الذي تغيّر بالنجاسة هو نجس ـ حتى ولو نقى تماماً وصار صالحاً للشرب ـ حتى يزول التغيّر ويتّصل بماء معتصم، أو أنّ المولى تعالى حكم بنجاسته طالما هو متغيّر بالنجاسة فقط، بحيث لو زال التغيّر لصار طاهراً من دون حاجة إلى اتّصاله بالماء المعتصم ؟
   وهل أنّ الكلب الذي وقع في المملحة سنين طويلة يبقى نجساً حتى يفنى بالدقّة العقليّة أو أنه يحكم بطهارته إذا صار ملحاً بالنظر العرفي ؟
   قبل الدخول في البحثِ يجب القول بأنه لا شكّ أنه إذا تغيّر الموضوع قليلاً بحيث بقي إسم الموضوع عرفاً أي بقيت الماهيّة عرفاً فإنّ حكمه يبقى قطعاً وبالإجماع، كما إذا مرض المرجع أو صار أعمى، فإننا يجب أن نقول بجواز البقاء على تقليده بالإجماع .
   وأمّا إذا تغيّر إسمُ الموضوع أي حصل انقلابٌ في ماهيّته ـ كما لو صار المنيُّ فرساً ـ فإنه لا يصحّ الإستصحاب بالإجماع، وذلك لوضوح ذلك من أدلّة الإستصحاب التي مُفادها أننا يجب أن نستصحب بقاء الحالة السابقة لنفس الموضوع، فلو صار المنيُّ فَرَساً مثلاً فإنّ الموضوع بما أنه تغيّر فلا يمكن استصحاب النجاسة، وذلك لتغيّر الموضوع أو قُلْ لِتَغيُّرِ الحقيقة والماهيّة، وهذا بطبيعة الحال أمر إجماعي أيضاً .
يتبع