بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/24

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : مسلك جعل الحكم المماثل

بيان مسلك جعل الحكم المماثل

   قال الآخوند الخراساني في كتابه (كفاية الأصول) ص 391 ـ 392 : (... فإنه يقال : إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظاً بنفسه وبالنظر الإستقلالي، لا ما إذا كان ملحوظاً بنحو المرآتية بالنظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضية ( لا تنقض اليقين ) حيث تكون ظاهرة عرفاً في أنها كناية عن لزوم البناء والعمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبداً إذا كان المتيقّنُ حكماً، وبالتزام حكم مماثلٍ لحُكْمِهِ إذا كان المتيقّنُ موضوعاً، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالإلتزام بحكم مماثل لحكمه شرعاً، وذلك لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه الكلي، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه، مع عدم دخله فيه أصلاً، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم . ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلاً للتنزيل بلا تصرف وتأويل، غاية الأمر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه، وتنزيل الحكم بجعل مثله ـ كما أشير إليه آنفاً ـ كان قضية (لا تنقض) ظاهرة في اعتبار الإستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية، واختصاصُ المورد بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصاً بعد ملاحظة أنها قضية كلية ارتكازية، قد اُتِيَ بها في غير مورد لأجل الإستدلال بها على حكم المورد، فتأمل )[1] (إنتهى) . 
   وقال في الإستصحاب/التنبيه السابع  ص 414 ما يلي :
   ( لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل للمستصحَب ـ الواقعي ـ في استصحاب الأحكام ـ كما في استصحاب الحكم التعليقي، فإذا كان الحكم الواقعي هو (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) فإنه سيكون الحكمُ الظاهريّ المماثلُ له هو (بما أنّ هذا العنب الجافّ قد غلى إذَنْ فقد حَرُمَ) ـ و ـ مماثل ـ لأحكامه في استصحاب الموضوعات ـ فإذا كان الماءُ طاهراً سابقاً واقعاً تعبّدنا اللهُ تعالى بالبقاء على الطهارة وأنشأ أحكاماً مماثلة لأحكام الطهارة الواقعية تترتّب على الطهارة الظاهرية من جواز شرب الماء مثلاً ـ ..)[2] (إنتهى) . وما كان بخطٍّ صغيرٍ بين شحطتين هو مِنّا للتوضيح .
   إذن يمكن تلخيص قول صاحب الكفاية في بيان جعل الحكم المماثل بما يلي :
   الظاهرُ من (اليقين) في قوله (عليه السلام) ( لا تنقض اليقين بالشكّ ) اليقينُ بنحو المرآتية ـ لا بنحو الصفتية ـ وهو يعني "لا تنقضِ الحجّةَ إلاّ بحجّةٍ مثلها"، وبالتالي معناها أنّ الله تعالى يتعبّدنا بالإلتزام بحكم مماثل للمتيقّن سواء في الشبهات الحكمية ـ فيتعبّدنا بـ (حرمة هذا العصير الجافّ الذي غلى) المماثل للحكم بـ (إذا غلى العصير العنبي فإنه يحرم) ـ أو في الشبهات الموضوعية ـ فيتعبّدنا بجواز شرب هذا الماء الذي بنينا على طهارته، جوازُ شرب هذا الماء هو حكمٌ مماثلٌ للحكم الواقعي الذي هو جواز شرب الماء الطاهر واقعاً ـ .

   وقال الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني في كتابه (نهاية الدراية في شرح الكفاية) ج 1  ص 18 :
 ( إنّ مُفاد دليلِ اعتبار الأمارات الغير علمية سنداً ـ كخبر الواحد ـ إما إنشاء أحكام مماثلة لما أخبر به العادل من إيجاب أو تحريم، فنتيجة البحث عن حجيتها حكم شرعي، أو جعلها منجزة للواقع بحيث يستحق العقاب على مخالفتها للواقع فحينئذ لا ينتهي إلى حكم شرعي أصلاً . ومفاد دليل اعتبار الأمارة الغير علمية دلالةً ـ كظواهر الألفاظـ ـ كذلك، بل يتعيَّنُ فيها الوجهُ الثاني، فإنّ دليل حجية الظواهر بناءُ العقلاء، ومن البيِّنِ أنَّ بناءَهم في اتباعها على مجرد الكاشفية والطريقية، فالظاهرُ حجةٌ عندهم أي مما يصح للمولى أن يؤاخذ به عبده على مخالفته لمراده لا أنّ هناك حكماً من العقلاء مماثلاً لما دلَّ عليه ظاهرُ اللفظ حتى يكون إمضاء الشارع أيضاً كذلك)[3] (إنتهى) .
   وخلاصة كلامه هو أنه يريد أن يقول : إنّ مُفاد دليلِ اعتبار الأمارات الغير علمية سنداً ـ كحجيّة خبر الواحد ـ إما إنشاء أحكام مماثلة لما أخبر به العادل من إيجاب أو تحريم ـ أي أنّ مُفاد دليلِ حجيّة خبر العادل هو أنّ الله تعالى يريد من قوله (خبرُ العادلِ حجّة) أن يقول مفاد خبر العادلِ هو حكم ظاهري بقوّة الحكم الواقعي، فهو يماثل الواقعي من حيث التنجيز والتعذير  ـ أو جعلها منجزة للواقع بحيث يستحق العقاب على مخالفتها للواقع فحينئذ لا ينتهي إلى حكم شرعي أصلاً . ومفاد دليل اعتبار الأمارة الغير علمية دلالةً ـ كحجيّة ظواهر الألفاظـ ـ هو خصوص الوجهِ الثاني، أي أنّ دليل حجيّة الظهور يفيدنا لزوم البناء على الكاشفية والطريقية، ولا يفيد حكماً مماثلاً .

   أقول : يمكن القول بصحّة مسلك جعل الحكم المماثل، سواءً في الشبهات الموضوعيّة ـ لا بمعنى أنّ الله تعالى يجعل حكماً ظاهرياً جديداً، وإنما بمعنى أنه تعالى يجعل حكماً ظاهرياً يترتّب على الطهارة الظاهرية وكأنّ الشيء طاهر واقعاً، فالحكم بالطهارة الظاهرية يماثل الحكم بالطهارة الواقعية لكن لا من حيث المفاد وإنما من حيث التنجيز والتعذير فقط، وهذا لا يبعد صحّته خاصّةً على المسلك القائل بأنّ الإستصحاب أمارة، لادّعائهم بتصريح أدلّة الإستصحاب بكونها أمارةً، وهذا معنى "وإلاّ فإنه على يقين من وضوئه، ولا تنقض اليقينَ بالشكّ" لكن مع ذلك لا تثبت اللوازمُ العقلية لعدم كون الكاشفية علّةً تامّةً للحجيّة بخلاف خبر الثقة ـ أو في الشبهات الحكميّة ـ كما في الإستصحاب التعليقي ـ، والمرادُ من جعْلِ اللهِ تعالى حكماً ظاهرياً مماثلاً للحكم الواقعي، أنه إن دلّ خبرُ الثقةِ على وجوب السورة مثلاً فإنّ الله يتعبّدنا بوجوبها ظاهراً ـ لا بمعنى أنه يحَكَمُ بوجوبها ظاهراً حكماً جديداً ـ وبذلك يتنجّز الوجوب، وإذا استصحبنا بقاءَ موضوع الحكم ـ بعد زوال خصوصيّةٍ ما منه ـ تعبّدنا الله تعالى ببقاء الموضوع ظاهراً ـ لا بمعنى يحكمُ الشارعُ المقدّسُ حكماً جديداً ببقاء الموضوع ظاهراً ـ وبذلك يتنجّز الحكمُ، فنحن بذلك لم نمسّ كرامةَ الجعلِ الواقعي، ولم ندّعِ المماثلة للواقع، إنما ندّعي أنّ الله تعالى حينما جَعَلَ الحجيّةَ لخبر الثقة مثلاً فإنما يعني أنه جعل مفاده بمثابة الحكم الواقعي من حيث التنجيز والتعذير فقط، لا أكثر . وكذلك حينما تعبّدنا أن نستصحب بقاء موضوع الحكم فإنما يعني أنه تعبّدنا ببقاء الموضوع ظاهراً، وبالتالي تعبّدنا ببقاء الحكم .
   على أيّ حال، يمكن القول بصحّة هذا المسلك في نفسه ـ كما رأيتَ في الأمثلة السابقة ـ فإذا قال الله تعالى بأنّ مرادي من أدلّة الإستصحاب أن أقول (هذا الثوب طاهر ظاهراً أي إعمل على أساس أنه طاهر) ـ فهذا ممكن، ولو قال : مرادي من قولي (خبر الثقة حجّة) أنّ مفاده حجّة ـ أي من حيث التنجيز والتعذير ـ فكأنه واقعي، أي أنا جعلتُ حكماً ظاهرياً مماثلاً لمفاد خبر الثقة، فهو حجّة ـ من حيث التنجيز والتعذير لا من حيث المطابقة في المفاد ـ كالحكم الواقعي، فهذا أيضاً ممكن، ولا مشكلة فيه .
   المهم، ما نريد أن نقوله هو أننا نرى أنّ مراد الله تعالى من جعل الحجيّة لخبر الثقة هو جعْلُ مُفادِ الأمارات أحكاماً مماثلةً للواقع عمليّاً، أي من حيث التنجيز والتعذير فقط، وكذلك مراده من جعل الاُصول العملية هو أنّ مفادها هو حكم ظاهري يشبه الواقعي من حيث التنجيز والتعذير، فحينما يقول الله تعالى لنا ( وما كُنّا مُعَذّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ) أو ﴿ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُون[4] فإنّ مراده أن يقول إنكم بريئوا الذمّة، فنحن ح إذا سألْنا اللهَ تعالى عن حكم شرب التتن مثلاً فسيقول لنا ـ بناءً على أدلّة البراءة ـ أنتم بريئوا الذمّة، وهذا هو المراد من جعل الحكم المماثل، لا أنّ الله تعالى يجعل حكماً جديداً مضافاً إلى أدلّة البراءة .

   لكنْ في جعل الحكم المماثل شائبةُ لغوٍ واضح، إذ لا داعي لهذا القول أصلاً، حتى ولو قلتَ بأنّ المراد منه هو الجعل الضمني أي في عالم الإرتكاز فقط . فمثلاً : كما كان يكفي أن يقول الله تعالى الصلاة بالكيفية الفلانية بالشروط الفلانية ومع ترك الموانع الفلانية واجبة، فإنْ نحن أقمناها بشروطها كانت صحيحة ولا داعي لله تعالى أن يقول ـ بعد ذلك ـ حكمتُ على هذه الصلاة بالصحّة، فإنّ في ذلك شائبة لغو، فكذا ما نحن فيه تماماً .


[1] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ج1، ص391، 392.
[2] كفاية الأصول، الآخوند الخراساني، الإستصحاب، التنبيه السابع، ص414.
[3] نهاية الدراية في شرح الكفاية، الشيخ محمد حسين الغروي الأصفهاني، ج1، ص41.
[4] توبه/سوره9، آیه115.