بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/17

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الشك في الإطلاق لحالة التعذر
ب  الشك في الإطلاق لحالة التعذر[1] :
  قد يكون التعذّر مع الإلتفات إلى عجزه ـ وهو محلّ كلامنا هنا ـ وقد يكون من غير التفات أصلاً ـ كما في حالة النسيان الذي سبق فيه الكلام قبل أسطر ـ فلننظر إذن إلى الحالة الاُولى فنقول :
  إذا كان الجزء أو الشرط جزءً أو شرطاً مطلقاً ـ أي حتى في حالة التعذر ـ كصيام أيّ ثانية في اليوم إلى الليل، فإنه جزءٌ من مجموع الصيام، فلو تعذّر على ذي العطاش مثلاً الصيامُ لبعض الوقت ولو لدقيقة واحدة، بمعنى أنه اضطرّ فيها للشرب، فإننا يجب أن نقول ـ كما يقول المشهور ومنهم السيد الخوئي ـ بوجوب شربه وبالتالي يبطل صيامه لأنه لم يحقّق الصيامَ كلّ النهار، ومعنى ذلك أن العاجز عن هذا الجزء أو الشرط لا يطالَب بالصيام الناقص، ولا يجب عليه ح الصيام، وكالمرأة التي حاضت أواخر النهار، فإنّ صيامها يبطل، لأنّ ما فاتها من صيام صحيح أواخر النهار قد أبطل صيامها كلّه، وهذا معنى ما يُقال عادةً ـ كالسيد الخوئي ـ من انتفاء الكلّ بانتفاء الجزء أو الشرط، يقول السيد الخوئي ( إلاّ في الصلاة حيث ورد أنها لا تسقط بحال)[2] . وليس بالضرورة أن يكون الأمر بالمقدار الميسور في المركّب أمراً جديداً، كما ادّعَى السيدُ الخوئي، فإنه ادّعى أنّ الأمر بالباقي الممكن هو أمر جديد وليس استمراراً للأمر السابق .
   أقول : ما ذكره المشهور من سقوط الكلّ بسقوط الجزءِ ـ بحسب الأصل ـ صحيحٌ، لأنّ الأصل والظاهر أن يكون المركّب المطلوبُ كلاًّ واحداً وقطعةً واحدة، كما في الصلاة عن طهارة، فإنْ عَجِزَ الإنسانُ عن الطهارة فالأصلُ أن يَسقط وجوبُ الصلاة كلُّه، وكما في عجز الشخص عن الصيام كلَّ النهار كما في ذي العطاش المضطرّ إلى الشرب، فإننا يجب أن نقول ببطلان كلّ صيامه .
   ولا يصحّ استصحاب بقاء الوجوبات الضمنيّة المُمْكِنَة لإثبات وجوبِ الباقي، وذلك لسببين :
أوّلاً : لا يوجد شيء في اللوح المحفوظ إسمُه (واجب ضمني شرعي) إنما الموجود هو وجوب المركّب لا غير، والوجوبات التي نسمّيها ضمنيّة ليست شرعيّة، أي لم يشرّعها الشارعُ المقدّس، إنْ هي إلاّ مخترعة في أذهاننا من وجوب الكلّ، فهي أشبه شيء بالصحّة والبطلان والوجوبات الغيريّة والوجوبات الفعليّة والتنجيزيّة، فإنها كلّها أحكام عقليّة لا شرعيّة، والأحكامُ الشرعيّةُ هي فقط الجعولاتُ الشرعيّة . لذلك يجب أن يكون هذا الإستصحاب باطلاً بلا شكّ .
ثانياً : هو استصحاب في الشبهات الحكميّة ولا نقول به، لاحتمال كون الجزء أو الشرط المتعذّر مقوّماً للمركّب، فمع تعذّره ونقص المركّب نشكّ أنّ بقيّة المركّب مطلوب في عالم الجعل أم لا، ولا امتدادات للجعولات في عالم الجعل، فهو بهذا يغاير عالم الشبهات الموضوعيّة، فلا يصحّ الإستصحاب .
   ثم إذا أردنا إثباتَ كونِ بقيّة المركّب إستمراراً للمركّب السابق بدليل الإستصحاب فهو أصلٌ مثبت بوضوح .
   نَعَم إذا اُمرنا بالإتيان بالباقي المقدور ـ كما في الصلاة ـ فالظاهر قوياً أنه امتدادٌ للأمر السابق كما نلاحظ فيما روي ـ مرسلاً جداً بل بغير سند ـ عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الغوالي وغيره : (الميسور لا يسقط بالمعسور) لكنْ طريقُهُ العامّةُ، وما روي ـ مرسلاً أيضاً وبغير سند أصلاً ـ عنه (عليه السلام) أيضاً : (ما لا يدرك كله لا يترك كله) . وقد يستدلّ بقوله (عليه السلام) ـ المرويّ من طرق العامّة والوارد في مورد سؤال السائل من رسول الله عدّة مرّات عن وجوب الحج واَنّه هل يجب مرة أو في كل سنة ـ قال (عليه السلام) : ( ويحك ! وما يؤمنك اَن أقول نعم ! ولو قلتُ نعم لوجب ـ إلى أن قال ـ إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه )، لكنه لا يصحّ الإستدلال بهذه الرواية لكونها ناظرةً إلى الأفراد لا إلى الأجزاء . وأيضاً فإنّ الأخذ بقاعدة الميسور موقوف على معرفة عدم ركنيّة الجزء المنسي أو المتعذّر، أمّا إنِ احتملنا ركنيّةَ جزء أو شرطٍ ما فحينها سوف نشكّ في كون الباقي ميسوراً أو غير ميسور . وبهذه المناسبة سوف نتكلّم بعد قليل بعضَ الشيء حول هذه القاعدة[3] .
   مثالُ ركنيّة الشرط في حال النسيان أو التعذرِ الطهارةُ، فالطهارةُ مطلوبة مطلقاً، بمعنى أنه إن لم يمكن تحصيلُها فسوف يسقط أصل وجوب الصلاة، فهي إذن شرط مقوّم لماهيّة الصلاة، أمّا غير الطهارة وغير الأركان من أجزاء الصلاة وشرائطها فالظاهر من الأدلّة الفقهيّة وأدلّة قاعدة الميسور أنّ بقيّة الصلاة هي واجبة وهي امتداد للأمر السابق .

وإذا كان الجزء أو الشرط جزءً أو شرطاً في حالة التمكن فقط ـ كقراءة السورة بعد الفاتحة ـ فهذا يعني اَنّه في حالة العجز لا ضرر من نقصه واَنّ العاجز يُكتفَى منه بالناقص فقط .

وأمّا إن لم يكن لدليل الجزئيّة إطلاقٌ وشمول واضح، والذي هو محلّ بحثنا هذا، وهو أنه قد يُشَكّ في وجوب الصلاة مثلاً عند تعذّر تحصيل الطهارة، أي هل أنّ الصلاةَ واجبةٌ عليه ضمن وقت الفريضة رغم عدم القدرة على الطهارة تمسّكاً بـ (لا تترك الصلاة بحال) أم أنها تسقط عنه بناءً على (لا صلاة إلاّ بطهور) ؟ فما هو الموقف الشرعي هل نترك الصلاة أم نأتي بها ؟ طبعاً مع فرض تعارض الأدلّة الشرعية وتساقطها .
   الجواب هو عدم الدليل على وجوب الصلاة في الوقت ضمن هكذا أدلّة، وذلك لأنها لن تكون صلاةً حقيقةً، وإنما ستكون صلاةً صوريّة فقط، وغيرُ معلوم أنها مطلوبة شرعاً، فتجري البراءة .
   وللتفصيل أكثر نقول : إنّ التعذر تارةً يكون في جزء من الوقت وأخرى يستوعبه .
   ففي الحالة الأولى : قد يتردّد المكلّف بين جواز الوضوء الناقص حال العجز ـ أي في أوائل وقت الفريضة ـ كمن كان على بعض أعضائه جبيرةٌ ـ وهو الأقلّ ـ وبين وجوب الإنتظار للإتيان بالوضوء التامّ عند ارتفاع العجز في أواخر الوقت ـ وهو الأكثر ـ، وعليه فقد تقول بجريان البراءة .
  لكن الصحيح هو عدم جريان البراءة عن وجوب الزائد، وذلك للزوم الرجوع إلى العامّ الفوقاني وهو وجوب الإتيان بالمطلوب الشرعي الأوّلي مهما أمكن، ولك أن تقول : لحكم العقل بوجوب الإتيان بالمركّب الكامل إن أمكن الإتيانُ به ضمن وقت الفريضة . وذلك مثلُ صلاة التمام والقصر، فلو أراد شخصٌ أن يقيم في مدينةٍ أجنبيّة سنتين مثلاً ـ للدراسة أو للعمل مثلاً ـ فإنه لا يصدق عليه فيها أنه مسافر، فيَرجع إلى الأصل الأوّلي وهي صلاة التمام، وهذا هو مراد علمائنا من قولهم بلزوم الرجوع إلى العمومات الفوقانيّة ـ أي المطلوب الشرعي الأوّلي ـ عند الشكّ .
  وفي الحالة الثانية ـ وهي محلّ بحثنا ـ : كما لو تعذّرت عليه الطهارة ضمن الوقت ـ كالمحبوسين في الأماكن النجسة ـ لكن أمكنه ذلك بعد فوات وقت الفريضة، فقد يتردّد المكلّف بين وجوب الإتيان بالصلاة بغير طهارة في الوقت، وبين سقوط الصلاة من الأصل ـ أي عدم وجوب الأداء ولا القضاء ـ، وبين وجوب القضاء فقط، بعدما يرتفع العذر وإمكان الإتيان بالطهارة بعد خروج وقت الفريضة ـ إذا كان للواجب قضاءٌ ـ .
   والصحيح هو عدم وجوب الصلاة، هذا ضمن الوقت، لما ذكرناه قبل أسطر من عدم صحّة الصلاة من غير طهارة [4]، كما لا يجب القضاء أيضاً ـ أي خارج الوقت ـ كما يقول الشيخ المفيد إذ أسقط وجوبَ الأداء والقضاء[5]، وذلك لعدم ثبوت وجوبِ القضاء في هكذا فرضيّة، لأنّ القضاء هو تداركُ ما فات، وهذا الشخص لم يَفُتْهُ أيُّ تكليف فعلي في وقت الفريضة، فاللازم أن لا يجب عليه القضاء، ولك أن تتمسّك بالبراءة من وجوب تكليف جديد في حقّه، وإلى هذا الرأي ذهب صاحب الكفاية أيضاً . طبعاً كلامُنا اُصوليّ ومع غضّ النظر عن الأدلّة الفقهيّة .
   نعود ونذكّر بأنّ كلامنا إنما هو فيما لو لم يكن لدليل الجزئية اِطلاقٌ، وإلاّ لوجب التمسّك بالإطلاق دون البراءة .
   وأمّا لو تردّدنا بين أن يكون الواجب ناقصاً ضمن الوقت أو تامّاً خارج الوقت لوجب عقلاً الإحتياط والإتيان بكلا المحتملَين .

ولْيُعْلَمْ اَنّ البراءة إنما تجري في الجزئية أو الشرطيّة عند الشكّ فيهما في حال النسيان أو في حال التعذر إذا لم يكن بالإمكان توضيحُ الحال عن طريق الأدلة المحرزة، وذلك بأحد الوجوه التالية :
  أوّلاً : اَنْ يقوم دليل خاص على اِطلاق الجزئية أو اختصاصها، من قبيل حديث ( لا تعاد الصلاة اِلاّ من خمس ... ) .
  ثانياً : أن يكون لدليل الجزئية أو الشرطيّة اِطلاق يشمل حالة النسيان أو التعذر فيؤخذ بإطلاقه كما في (لا صلاة إلاّ بطهور)، ولا مجال حينئذ للبراءة .
  ثالثاً : أن لا يكون لدليل الجزئية اِطلاقٌ بأنْ كان مجمَلاً من هذه الناحية ـ كدليل وجوب السورة ـ وكان لدليل الواجب اِطلاقٌ بالقياس إلى وجود القيد وعدمه ـ كما في ( لا تُترَكُ الصلاةُ بحال ) ـ ففي هذه الحالة يجب الإتيانُ بالصلاة من دون السورة، سواء في حال التعذّر أو في حال النسيان، أو قُلْ : القدرُ المتيقَّنُ من دليل التقييد هو الإختصاص بحال التمكن، فيُتمسك بإطلاق دليل الواجب في صورة تعذر السورة فيثبت به وجوبُ الباقي، وح لا يصحّ الرجوعُ إلى البراءة .


[1] ترى هذا البحث في منتهى الدراية، ج7، ص282، تنبيهات الأقلّ والأكثر، التنبيه الرابع، وفي كتاب (بحوث في علم الاُصول) تقرير بحث السيد محمد باقر الصدر لتلميذه السيد محمود الهاشمي، بحث الأقلّ والأكثر، الشك في إطلاق القيد لحال العجز  ص 378 .
[2] دراسات في علم الاُصول، ج2، ص26، الكلام فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب. .ج3، تنبيهات الأقلّ والأكثر، الثالث قاعدة الميسور  ص458
[3] راجع كتب القواعد الفقهيّة من قبيل (القواعد الفقهيّة) للسيد البجنوردي، ج4، ص136، قاعدة40، (الميسور لا يسقط بالمعسور) .
[4] كما يقول ابن إدريس في السرائر، ج1، ص139، 353، ولكنه يقول وجب عليه قضاؤها.
[5] نفس المصدر ص353.وقال المحقّق الحلّي في المعتبر، ج1، ص379، ( فاقد الطهارتين يؤخر الصلاة، وهو مذهب الشيخين في المقنعة والخلاف، وقال في المبسوط إمّا أن يؤخر أو يصلي ويعيد، لأنه صلى بغير طهارة ولا تيمم . دليلنا قوله .(عليه السلام)(لا صلاة إلا بطهور) وحقيقته نفي الصلاة فلا تتحقق من دونه) . وقال في ج 2 ص 405، ( فاقد الطهارتين تسقط عنه الصلاة، لقوله (عليه السلام) (لا صلاة إلا بطهور)، وفي وجوب القضاء قولان، أحدُهما الوجوبُ وبه قال الشيخ وعلم الهدى، والآخرُ السقوطُ وهو أحد قولَي الشيخ والمفيد وهو أشبه، لأنها صلاة سقط وجوبها في وقتها، فلا تجب بعد خروجه، ولأن القضاء تكليف مبتدأ يتوقف على دلالة الشرع، وحيث لا دلالة فلا قضاء) (إنتهى).
   ومثلَه قال العلاّمة الحلّي، قال، ( مسألة 303، اِختلف علماؤنا في فاقد المطهرين، فقال بعضهم، يصلي ويعيد اختاره الشيخ في المبسوط، وقال آخرون، تسقط أداء وقضاء وهو المعتمَد . دليلنا، أن الأداء ساقط فكذا القضاء، والملازمةُ للتبعية، وصِدْقُ المُقَدَّمِ لقوله (عليه السلام) (لا صلاة إلا بطهور) ولأنها صلاة غير مأمور بها مع الحدث في وقتها فيسقط قضاؤه كالحائض ) (إنتهى).