بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/12

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : الشكّ في اِطلاق دخالة الجزء أو الشرط

( ملاحظات عامّة حول الأقلّ والأكثر )

   فرغنا من المسائل الأساسية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين، وقلنا إنه بقي علينا أن نذكر في ختام مسائل هذا الدوران، وذكرنا أربع  ملاحظات في ذلك، ووصلنا إلى الملاحظة الخامسة فنقول :

  5 ـ الشكّ في اِطلاق دخالة الجزء أو الشرط :
   كنّا نتكلم عمّا إذا شَكّ المكلفُ في جزئية شيء أو شرطيته مثلاً للواجب، وقلنا إنه تجري البراءة في الجزء أو الشرط المشكوك الدخالة .
   هذا ولكن قد يُشَك في شمول هذه الجزئية والشرطية والمانعية والقاطعيّة في بعض حالات، كما إذا علمنا بأنّ السورة جزء في الصلاة الواجبة ولكن شككنا في اِطلاق جزئيتها في حالة التقيّة أو العجلة مثلاً، ومرجع ذلك إلى دوران الواجب بين الأقل والأكثر بلحاظ هذه الحالة بالخصوص، فإذا لم يكن لدليل الجزئية اِطلاقٌ لها ـ كما إذا كان الدليل هو الإجماع مثلاً ـ وانتهى الموقف إلى الأصل العملي، جرت البراءة عن وجوب الزائد في هذه الحالة، وهذا على العموم لا اِشكال فيه .
   ولكن قد يقع الإشكال فيما إذا ارتفعت هذه الأعذار ضمن وقت الفريضة أو خارجها، كما لو ارتفع السهو والغفلة أو النسيان أو الجهل أو الإضطرار أو التقيّة أو الإكراه أو الحرج أو التعب الشديد أو العجز العرفي أو العجلة أو الخوف ضمن وقت الفريضة أو خارجها ... إذن يجب أن ننظر إلى كلّ هذه الحالات، ونبدأ بحالة الشك في اِطلاق الجزئية لصورة نسيان الجزء فنقول :

   ( أ ) الشك في الإطلاق لحالة النسيان :
   إذا نسي المكلف جزءً من الواجب ـ كما لو ترك قراءة السورة بعد الفاتحة نسياناً ـ فأتى به بدون ذلك الجزء، ثم التفت بعد ذلك إلى نقصان ما أتى به .. فإن كان لدليل الجزئية اِطلاقٌ لحالة النسيان ـ كما في "لا صلاةَ إلاّ بفاتحة الكتاب" ـ فقد أفاد المحقّقان النائيني والعراقي والسيد الشهيد الصدر رحمهم الله بأنّ هذا الدليل المطلق يقتضي بطلان ما أتى به لأنه فاقد للجزء، كما في الفاتحة المذكورة في الرواية السابقة وكالركوع الوارد في حديث (لا تُعاد)، فإنّ حديث (لا تُعاد) يدلّ بإطلاقه على تقوّم الصلاة به، بحيث لو تركه ولو نسياناً بطلت صلاته، من دون فرق بين افتراض ارتفاع النسيان في أثناء الوقت، وافتراض استمراره إلى آخر الوقت، وهذا هو معنى اَنّ الأصل في كل جزء مطلوب لفظاً يقتضي ركنيته، أي يقتضي بطلانَ المركب بالإخلال به ولو نسياناً .

   وخالفهم الإمام الخميني في ذلك فقال إنّ حديث الرفع يقتضي صحّة الصلاة مع نسيان السورة، أي أنّ حديث الرفع يفيد تقييد الإطلاق بعدم الخطأ والنسيان والإكراه والإضطرار وسائر التسعة المرفوعة، كما تقيّد قاعدةُ رفع الحرج الأحكامَ الواقعيّة الأوّلية، وتَبِعَهُ تلميذُه الشيخ فاضل اللنكراني .
   أقول : الصحيح هو ما أفاده الإمام الخميني (قدس)،  فلا مشكلة إذا أجرينا قاعدة البراءة في مثل هذه الحالات التسعة المذكورة في حديث الرفع، فنصحّح الصلاة، وح نقول بأننا لا نستفيد الركنيّة حتى فيما لو كانت الأدلّة مطلقة .

واَمّا إذا لم يكن لدليل الجزئية اِطلاقٌ، والذي هو محلّ الكلام في هذه المسألة ـ كما لو كان دليل السورة هو الإجماع مثلاً والإجماع لا نعرف حدوده، وكما لو كان الدليل لفظيّاً ولكن لم يكن لهذا الدليل إطلاق من الحيثيّة التي نريدها ـ وانتهى الموقف إلى الأصل العملي، فلا شكّ في جواز اكتفاء الناسي بما أتى به، باعتبار أنّ المورد من موارد الدوران بين الأقل والأكثر بلحاظ حالة النسيان، والأقل واقع والزائد مَنْفِيٌّ بالأصل .

   وتوضيح الحال في ذلك : اَنّ النسيان تارة يستوعب الوقت كله، وأخرى يرتفع في أثنائه .
   ففي الحالة الأولى : يكون الواجب بالنسبة إلى الناسي ـ بعد التفاته إلى نسيان قراءة السورة وبعد فوات المحلّ ـ يكون مردداً بين الأقل والأكثر، وذلك لأنه يكون مردّداً بين صحة ما أتى به وبين وجوب القضاء عليه، ومرجع هذا إلى الشك في وجوب استقلالي جديد ـ وهو وجوب القضاء ـ فتجري البراءة عن وجوب القضاء بلا شكّ .
   واَمّا في الحالة الثانية : وهي حالة ما لو التفت المصلّي أثناء وقت الفريضة أنه نقّص من صلاته، هل يجب عليه أن يعيد صلاته أم لا يجب عليه ذلك ؟
   الجواب : لا شكّ في أنه تجري البراءة من الزائد المشكوك في هكذا حالة .

ثم لا شكّ أنك تعلم أنه يمكن إعطاء قواعد شرعيّة تختصّ بالناسي، كما في القوانين الوضعيّة أيضاً، وذلك بأن يقال مثلاً : ( تجب السورة بعد الفاتحة في الصلاة ـ كقاعدة عامّة، لأنّ الأصلَ الصلاةُ التامّة ـ لكنْ مَن نَسِيَ قراءةَ السورةِ بعد الفاتحة والتفت بعد ذلك فلا يعيد صلاته، سواء تذكّر في الوقت ـ بعد فوات المحلّ ـ أو بعد فوات الوقت )، ولا يصحّ أن يقال : أنت يا ناسي غير مكلّف بالسورة، لأنّ الناسي لا يكون ملتفتاً إلى نسيانه وإلاّ لم يكن ناسياً . وكذلك الأمْرُ لو نسي البسملة أو الإستقبال أثناء التذكية .
   وعليه فإن شككنا في وجوب السورة على الناسي وعدم وجوبها فقد يقال بعدم إمكان الرجوع إلى البراءة، ولزوم الرجوع إلى العموم الفوقاني الذي هو (وجوب السورة بعد الفاتحة)، ومع العموم الفوقاني ـ الذي هو أمارة ـ لا يصحّ الرجوع إلى البراءة لأنها أصل عملي، وهذا ما نسبه السيد الشهيد في الحلقة الثالثة إلى إفادات الشيخ الأنصاري .
   أقول : هذا غير صحيح، ذلك لأنّ الجعل السابق هو جعل واحد مقيّد، لا جعلين، فنحن لا ندري بوجوب السورة على الناسي أم عدم الوجوب، ولا عموم فوقاني أصلاً في البَين، فنتمسّك بالبراءة بلا شكّ .