بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/06/02

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي

( دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي )

   ولك أن تسمّي هذا البحثَ بـ ( تقديم معلوم الحجيّة على مشكوك الحجيّة ) أو ( تقديم الراجح على المرجوح ) أو ( لزوم تقديم محتمل الأهمية أو معلوم الأهميّة ) .
   ولتوضيح الأمر نذكر عدّة أمثلة عمليّة على ذلك :
   المثال الأوّل : لو تردّد العامّيّ بين أن يقلّد خصوصَ الأعلمِ أو أن يقلّد أيّ مجتهد فقيه ـ بناءً على أنّ الدليل على التقليد هو حكم العقل بالرجوع إلى أهل الخبرة ـ فهنا لا شكّ في أنّ عقْلَ المقلِّدِ يحكم بتقديم خصوصِ الأعلم لأنه معلوم الحجيّة ـ كونَه القدرَ المتيقّن ـ على غير الأعلم، وتقليد غير الأعلم في هكذا حالة مشكوك الصحّة، ولذلك فأنا لا أرجّح أن يطلق على البحث عنوان (دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي)، إذ لا ينبغي التردّدُ أصلاً، وإنما يحصل التردّدُ ودوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي فيما لو كانا متساويين، لا في مثل كون أحدِهما ـ كتقليد الأعلم ـ متعيّناً، والآخر غير معلوم الحجيّة في هكذا حالة من الأصل، كما لا ينبغي أن يُتردّد بين اتّباع الظنّ المعتبر واتّباع الظنّ الغير معلوم الإعتبار، فإنّ الأصل مع الشكّ في الحجيّة هو عدم الحجيّة .
   مثال ثانٍ : لو كان العامّيُ مقلّداً لمجتهدٍ، فهل له أن يَعْدِلَ عنه إلى مجتهد آخر مساوٍ له من جميع الجهات ؟
   ذهب غيرُ واحد إلى حرمة العدول في التقليد من مجتهد إلى مجتهد آخر مساوٍ له من جميع الجهات، واستدلّوا على ذلك بأنّ هذه الحالة هي من باب دوران الواجب بين التعيين والتخيير العقلي، وفيها لا يُجَوِّزُ العقلُ العدولَ إلى غيره المساوي له، وذلك لأنّه مردّد بين التعيين ـ وهو البقاء على تقليد الأوّل ـ والتخيير بينهما، والعقل يحكم في هكذا حالة بالتعيين، وذلك لحصول اليقين بالبراءة بتقليد الأول، والشك في البراءة بتقليد الثاني . وبتعبير آخر : نحن نشكّ في أصل حجيّة تقليد الثاني في هكذا حالة .   
   مثال ثالث : أنت تعلم أنه (لا صلاة إلاّ بطهور) لكنْ لو كان عندنا قليلٌ من الماء , وعندنا نجاستان، في البدن نجاسةٌ، وفي اللباس نجاسةٌ، ولا يكفي الماءُ لتطهير كلتا النجاستين، فماذا نطهّر في هكذا حالة ؟   
   لا شكّ في أنه مع هكذا حالةٍ يَحكم العقلُ بتقديم تطهير البدن، لأنه ألصق بالمصلّي من ثيابه، بل هو جزء منه، فهو المتعيّن، والتخييرُ بين تطهير الثوب وتطهير البدن لا يقول به عاقلٌ .
   مثال رابع : لو غرق شخصان، أحدهما محتمل الأهميّة عند الباري تعالى على الآخر ـ كأنْ كان أحدُهما مؤمناً والآخرُ فاسقاً ـ فإنّ العقلَ يوجب إنقاذَ محتمل الأهميّة .
   وكذا الأمر في كلّ حالات احتمال أهميّة أحدهما، كما لو كانت إحدى النجاستين أكبر من الاُخرى، أو أغلظ، وكانت كلتاهما في الثوب مثلاً، وأمكن تطهير أحديهما فقط، فالمتعيّن عقلاً أن نطهّر الأكبرَ أو الأغلظ .
   والخلاصةُ هي أنّ مسألة دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي ترجع إلى الشكّ في تحقّق الإمتثال والطاعة للمولى تبارك وتعالى، والمجرَى فيها هي لأصالة الإشتغال دائماً، ولا تجري فيها الاُصولُ الترخيصيّةُ أصلاً . ولا شكّ أنّ ما ذكرناه مسلّمٌ بين العلماء[1] .



[1] راجع منتهى الدراية، سید محمد جعفر مروج، ج5، ص611، حاشية3.