بحث الأصول

الأستاذ الشیخ ناجي طالب

36/05/25

بسم الله الرحمن الرحیم

الموضوع : دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر

    إنتهينا في الدرس السابق من بحث العلم الإجمالي بالتدريجيّات، وقلنا إنّ مثاله : إذا ضاعت على المرأةِ أيامُ عادتها، وكانت تريد أن تدخل إلى المسجد لبعض أسباب ـ كأنْ كانت مثلاً خادمةَ المسجدِ وأرادت أن تنظّفه ـ وهي تعلمُ بأنها تكون حائضاً في بعض أيام الشهر، فمتى تدخل إلى المسجد ؟ وهي تعلم بأنها إمّا الآن حائض وإمّا غداً وإمّا بعده وهكذا إلى آخر الشهر، فماذا تفعل ؟
   وأجبنا عن هذا السؤال مطوّلاً، وخلاصته هو أنه : لا شكّ في حرمة دخولها المسجدَ في كلّ أيام الشهر، وذلك لعِلْمِها بحرمة الدخول في بعض أيام الشهر، وهذا التنجيز للعلم الإجمالي ثابتٌ وقطعيٌّ عند كلّ العقلاء، ممّا يمنع من إجراء الاُصولِ الترخيصيّة ولو في بعض الشهر، ذلك لأنّ آيات وروايات الترخيص وردت للناس، فما يفهمه العرف هو الحجّة، وما لا يفهمه منها لا يكون حجّة .
  حتى لو أردنا أن ننظر إلى مرحلة الملاك فإننا نقول بأننا إذا أجرينا الاُصولَ الترخيصيّةَ في بعض الشهر فقط، لكان هذا ترجيحاً بغير مرجّح، ولكان هذا الترخيص قبيحاً، وذلك لاحتمال أن تكون حائضاً، فكيف تدخل إلى بيت الله وكيف تمسّ كتاب الله ؟!
  على كلّ حال فقد ذهب إلى منجّزيّة العلم الإجمالي وحرمةِ دخولها المساجدَ مطلقاً المحقّقُ النائيني والسيد الخوئي والسيد الشهيد الصدر رحمهم الله .
  ولك أن تقول : إنّ الناس ينظرون إلى أيام الشهر بنظرة دهريّة، وإنّ النساء سيقولون لهذه المرأة المحتارة بأنك تعلمين بأنك إمّا الآن حائض أو سوف تحيضين بعد يوم أو يومين أو أكثر إلى آخر الشهر، هذا العِلْمُ الإجمالي ينجّز عليكِ التكليفَ عقلاً، فيحرم عليك دخولُ المسجد ومسُّ كتاب الله الكريم .
*   *   *   *   *
( تلخيص للقواعد الثلاثة )
     خرجنا حتى الآن بثلاث قواعد :
الاُولى : أصالة البراءة العقليّة في الشبهات الحكميّة بعد البحث في المجاميع الروائيّة
الثانية : قاعدة البراءة الشرعيّة في الشبهات الحكميّة
الثالثة : أصالة منجزيّة العلم الإجمالي ـ أي إلاّ ما خرج بدليل كسوق المسلمين ـ .
*   *   *   *   *
    كان البحث سابقاً عن حالة الشكّ البدويّ، ثم بحثنا عن حالة الشكّ بين المتباينين ـ وهو المعروف بـ (مبحث العلم الإجمالي) ـ والآن نبحث عن :
( مسألة الشكّ بين الأقلّ والأكثر )
وموضوعها الشكّ في مقدار ما ثَبَتَ في ذمّتنا، هل هو الأقلّ أم هو الأكثر، كما لو شككنا في مقدار ما اقترضناه مثلاً من فلان هل هو مليون ليرة ـ مثلاً ـ أو أقلّ أو أكثر، وهذا ما يعبّرون عنه بـ (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإستقلاليين)، والموقف هنا أنّ عليك أن تُجريَ البراءتين العقليّة والشرعيّة في الزائد عن المقدار المتيقّن، هذا عندنا، وأمّا على مسلك حقّ الطاعة فتجري خصوصُ البراءة الشرعيّة . وإنما عبّروا عن هذه الحالة بـ (الإستقلاليّين) لأنّ كلّ ليرة هي مستقلّة عن الليرة الثانية، وليست مرتبطة بها .
  وقد يكون موردُ الشكّ هو في مقدار المركّب، هل هو المقدار الأقلّ أو المقدار الأكثر، كما لو شككنا في كون الصلاة مركّبةً من تسعة أجزاء مثلاً أو من عشرة، ومثالها المعروف ما لو شككنا في وجوب الأذان أو الإقامة أو القنوت أو السورة في الصلاة، وهذه المسألة يعبّرون عنها بـ (دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر الإرتباطيّين)، وفي مثل هكذا حالة لك أن تُجريَ البراءتين العقليّة والنقليّة أيضاً عن المقدار المشكوك، وهذا هو قول الشيخ الأعظم الأنصاري والسيد الخوئي، وهو الحقّ، ولعلّ هذا هو المشهور أيضاً، وأمّا بعضهم فقد أجرَوا خصوص البراءة الشرعيّة ـ دون العقليّة ـ كصاحب الكفاية في الكفاية وتبعه المحقّق النائيني، وهي أيضاً مقالة السيد الشهيد الصدر . وإنما عبّروا عن هذه الحالة بـ (الإرتباطيّين) لأنّ كلّ جزء في مركّب الصلاة مرتبط بالآخر، وقد يبطل هذا الجزءُ إذا بطل الجزءُ الآخر، بل قد تبطل كلّ الصلاة إذا بطل جزء واحد منها .
    ويَكفي هذا المقدارُ مِنَ البحث في هذه المسألة، لنتفرّغ لما هو أهمّ، إلاّ أنّ بعض الناس شكّكوا في بداهة هذه المسألة، فأثاروا شكوكاً ووساوس في مسألة الإرتباطيين، فكان لا بدّ من النظر فيها والردّ عليها فنقول :
  عَرَضَ بعضُ الناسِ هذه الوساوسَ بعدّة وجوه وبراهين :
  الأوّل : عن طريق ادّعاء وجود علم إجمالي بين (وجوب الأقلّ) و (وجوب الأكثر) !! قالوا وهذان عنوانان متغايران أي متباينين، وليسا مردّدين بين الأقلّ والأكثر، فعَلَى فرْض أنّ الواجب كان هو الأقلّ فسوف يكون الأقلُّ ح (واجباً إستقلاليّاً)، وإن كان الأكثر هو الواجب فسوف يكون الأقلّ ح (واجباً ضِمنيّاً)، إذن عنوانُ الأقلّ مغايِرٌ لعنوان الأكثر، فهما إذن متباينان .
  وبعضهم كان يفلسف هذا الكلام السابق فيقول : إنّ وجوب الأقلّ إذا كان استقلاليّاً فمتعلّقُه هو الأقلّ مطلقاً ـ أي سواءً انضمّ إليه الزائد أم لا ـ وإذا كان وجوب الأقلّ ضِمنيّاً فمتعلّقُه هو الأقلّ المقيّدُ بانضمام الزائد، فإذن هما ـ أي الأقلّ المطلق والأقلّ المقيّد ـ متباينان ـ وليسا من باب الأقلّ والأكثر ـ ولهذا يَتَشَكّلُ عندنا عِلْمٌ إجمالي .
  وجواب هذا الكلام ونحوِه واضح وهو أنّ عناوين (الإستقلاليّة والضِمنيّة) و (النفسيّة والغَيريّة) و (الإطلاق والتقييد) و (عنوان الصلاة المطلوبة) لا دخل لها في المركّب، ولا يجب نيّة الإستقلاليّة ولا الضِمنيّة ولا الغَيريّة ولا الإطلاق ولا التقييد، ولا يجب لحاظها في الصلاة، كما لا يجب تحقيق (عنوان الصلاة المطلوبة)، إنما المهمّ هو الإتيان بالصلاة بالمقدار المنجّز علينا، أو قُلْ : لا دليل على وجوب تحقيق (عنوان الصلاة المطلوبة) فوق مقدار ما ثبت في ذمّتنا الذي هو التسعة أجزاء مثلاً، وبتعبير آخر : لا دليل على دخول عناوين النفسية أو الغيرية أو الضِمنيّة أو عنوان الصلاة المطلوبة في ذمّتنا، إنما الذي يدخل في عهدتنا هو خصوص هذه الأجزاء والشرائط المعلومة لا أكثر، ومع الجهل في دخول غيرها فإنه تجري فيه البراءةُ بلا شكّ . وبتعبير آخر : لا يوجد في البَين علم إجمالي أصلاً، ذلك لعدم وجود تكليف مردّد بين طرفين، إنما يوجد تكليف واحدٌ مشكوكٌ لا غَير، فهو إذن شكٌّ بدويّ بوضوح، وحتى لو قلتَ يوجد علم إجمالي فالجواب أنّ هذا العلم الإجمالي الناشئ من العناوين المذكورة بما أنها لا تدخل في العهدة فهو غير منجّز .   
البرهان الثاني : اِنّه في حالة الإقتصار على الإتيان بالأقلّ لا نعلم بسقوط هذا الأقلّ على تقدير كونه ضِمنيّاً، لأنّ الوجوبات الضِمينة مترابطة ثبوتاً وسقوطاً، فما لم تُمتثَل جميعاً لا يعلم بسقوط شيءٍ منها، وذلك لاحتمال وجوب الترابط فيها بين الأجزاء . وهذا يعني أنّ المكلف الآتي بالأقل يشك في سقوط المكلّف به والخروج عن عهدته، فالشكّ إذن هو في حصول المكلّف به، فلا بُدَّ إذن من الإحتياط، من باب أن الشغل اليقيني يستدعي الفراغَ اليقيني .
  والجواب هو أننا نشكّ في وجود ترابط بين الأجزاء المعلومة والجزء المشكوك، فتجري البراءةُ عن احتمال وجوب هذا الترابط علينا، أي نحن أرجعنا الشكّ إلى الشكّ في وجوب تكليف زائد علينا، فصارت الشبهة بدويّة .